موسكو – أنقرة – لم تمنع العلاقة المتينة التي تربط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين من السعي لاستثمار الانشغال الروسي الكامل بأوكرانيا لملء الفراغات التي يخلفها تراجع نفوذ موسكو ليس في سوريا فقط، ولكن في مناطق أخرى مثل ليبيا والجزائر.
وأخذت تركيا زمام المبادرة للسيطرة على الصراع في سوريا، وبذل بوتين جهودا مضنية لإثناء أردوغان عن شن عملية برية شمال سوريا، لكن تفجير إسطنبول في الثالث عشر من نوفمبر جعل الرئيس التركي يتصرف دون مراعاة موقف بوتين بالرغم من تحذيرات موسكو من الهجوم.
ومن الواضح أن أردوغان بات يعرف أن روسيا في وضع صعب بسبب الحرب في أوكرانيا، وأن كلّ تركيز بوتين موجه إليها ليس فقط في الجانب العسكري وتطوّراته، ولكن لتداعياته الاقتصادية خاصة ما تعلق بالعقوبات الغربية ومحاولات وضع سقف لأسعار النفط والغاز الروسيين بما يضر بمصالح روسيا.
أردوغان يرى أن الوقت موات لتجاوز اعتراض روسيا التي لا تقدر على تشتيت جهودها في مواجهة الغرب في أوكرانيا
ويستغل الرئيس التركي رهان روسيا على أنقرة لتكون بوابة التواصل مع الغرب وهو ما مكّنها من تأمين اتفاق الحبوب. وكان بوتين اقترح إنشاء مركز لتجميع الغاز في تركيا لتأمين نقله إلى أوروبا، وهو مقترح يظهر ثقته بأردوغان الذي يتميز بالسعي لاستغلال الفرص بقطع النظر عن المتضرر هل هو صديق أم عدو.ّ
ويحمّل أردوغان روسيا مسؤولية الفشل في ضبط قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، خاصة أن الوساطة الروسية قد حالت في السابق دون تنفيذ أنقرة لهجمات كانت هددت بها، لكن من دون ضغط روسي على الأكراد، ما بدا وكأنه حماية لهم.
ويرى الرئيس التركي أن الوقت موات لتجاوز اعتراض روسيا التي لا تقدر على تشتيت جهودها في مواجهة الغرب بأوكرانيا، والتصدي لخطط أردوغان وإيران في سوريا، وهو أمر يقبل التأجيل والتصويب إن حصل تطور لا يروق لها على عكس الخطر في أوكرانيا.
ويبدو أن بوتين كان منشغلا للغاية بالتطورات حول أوكرانيا بحيث لم يذكر سوريا في محادثته الهاتفية الأخيرة مع الرئيس التركي في 18 نوفمبر الماضي، ما بدا وكأن سوريا عموما، والأكراد خصوصا، لم يعودا في أجندة روسيا حاليا، وأنها تحتاج تركيا الآن لحسابات أهم.
وأبلغ وزير الدفاع التركي خلوصي أكار نظيره الروسي سيرغي شويغو أن أنقرة لا يمكنها التفاوض مع دمشق إلا بعد استكمال الإجراءات العسكرية التي تراها ضرورية.
ويقول مراقبون إن موسكو لا تهتم الآن كثيرا لمحنة الأكراد، لكنها قلقة من أن الهجوم التركي قد يكشف ضعف مواقعها العسكرية، ويمسّ من الصورة التي رسمتها لنفسها كلاعب رئيسي ليس في سوريا فحسب بل في المنطقة، خاصة بعد قراءات وتحاليل عن أن روسيا نجحت بشكل لافت في ملء الفراغ الذي خلّفه التخفيض التدريجي لدور الولايات المتحدة في المنطقة. لكن يبدو أن تركيا تلعب نفس الدور بملء الفراغ الذي يتركه الروس بدورهم لانشغالهم بأوكرانيا.
وكان قائد القوات الروسية في سوريا ألكسندر تشايكو وصل الأحد إلى مدينة القامشلي، والتقى قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، في خطوة وضعت ضمن إطار “الوساطة” من أجل خفض التصعيد.
وذكرت وسائل إعلام مقربة من النظام السوري، وأخرى من طهران، الاثنين أن المسؤول الروسي عرض على “قسد” الانسحاب من الحدود السورية – التركية مسافة 30 كيلومترا، على أن يتم إحلال الجيش السوري مكانها، في تغيّر ميداني قد يبعد شبح أيّ عملية عسكرية تركية.
ولم تقف إستراتيجية أنقرة لوضع اليد على المكاسب الروسية عند سوريا، فقد توسعت الأجندة التركية لتشمل دولا في شمال أفريقيا خاصة ليبيا، حيث نجح الأتراك في تحقيق مكاسب ميدانية نوعية جعلتهم يتحكمون في الغرب الليبي عسكريا وسياسيا، وباتت أنقرة تتحكم في الحل السياسي، ونجحت في جلب بعض من كانوا محسوبين على روسيا إلى مربعها خاصة بعد أن بات الملعب مفتوحا أمامها بتراجع الاهتمام الروسي ومحدودية التأثير المصري.
وفي الجزائر، تستغل تركيا العزلة الإقليمية للنظام وبحثه عن دور لإثبات شرعيته، لتضع يدها على السوق الجزائرية من خلال اتفاقيات تتيح لشركاتها ضخ استثمارات كبرى والسيطرة على المجالات الاقتصادية والتجارية، لتمر لاحقا إلى عقد صفقات عسكرية تزاحم الدور الروسي التقليدي في الجزائر، وهو دور يقف عند عقد صفقات سلاح ضخمة.
موسكو لم يعد بإمكانها الاعتماد على تصدير الأسلحة لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط
لكن هذا الأمر بات صعبا الآن في ظل ضغوط غربية على الجزائر للحد من علاقاتها مع روسيا وخاصة صفقات السلاح حتى لا تبدو الجزائر في صف موسكو في حرب أوكرانيا، وهو الوضع الذي ستستفيد منه أنقرة التي ستعوض جزءا من صفقة السلاح الروسية.
ويتزامن هذا مع حقيقة أخرى تقول إن موسكو لم يعد بإمكانها الاعتماد على تصدير الأسلحة لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط.
ويقول بوتين إنه على الرغم من ضرورة إعطاء الأولوية للاحتياجات المحلية فقد أنجزت روسيا جميع عقود الأسلحة وحققت ما يقرب من 8 مليارات دولار من هذه الصادرات في 2022.
وفي الوقت الذي لا يمكن فيه التحقق من هذه البيانات، ستشهد الصادرات انخفاضا بنسبة 40 في المئة عن عام 2021، ما قد يجعل العملاء في المنطقة لا يثقون بروسيا لتكون مصدّرا موثوقا به، ولا بقدرة أنظمة الأسلحة الروسية على أداء ما تعد به.
وبدلا من الصادرات تحتاج موسكو الآن إلى إيجاد شركاء يمكنهم الالتفاف على العقوبات الغربية وبيع الأسلحة والذخيرة إلى روسيا، لهذا تأتي إيران على رأس القائمة القصيرة التي تستورد منها روسيا، ومن بينها كوريا الشمالية.
العرب