سباق محموم تدور تفاصيله في الشمال السوري بين وفود متعاقبة تزور المنطقة لإطفاء فتيل الحرب، إنما بشروط تركية تعتبرها قوات سوريا الديموقراطية (قسد) تعجيزية، وتعزيزات عسكرية تركية تنبئ بمعركة قادمة تتعدّد مسارحها المحتملة بين مناطق منغ وتل رفعت ومنبج وعين العرب (كوباني)، وقد لا تستثني المسارح المحيطة بمنطقة “نبع السلام”.
زار المبعوث الأميركي إلى سورية، نيكولاس غرانجر، قيادات “قسد” ومجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، ونقل إليها شروطاً تطالب بها أنقرة لوقف عملياتها الجوية والبرية، وحتى ضربات طائرات الدرون (البيرقدار)، وانحصرت الشروط التركية بابتعاد قوات “قسد” عن الحدود التركية السورية مسافة 30 كم جنوباً، وإنشاء نقاط مراقبة تركية (مستقلة أو مشتركة مع قوات التحالف الدولي) لضمان حسن التنفيذ، إضافة إلى نصب كاميرات مراقبة، وتسليم أعضاء في حزب العمّال الكردستاني الموجودين في مناطق شرقي الفرات (سبعة إلى عشرة من قياديي الحزب)، تتهمهم أنقرة بارتكاب جرائم إرهابية ضد الشعب التركي، إضافة إلى تخصيص جزء من الموارد الاقتصادية في شرقي الفرات للسوريين الموجودين في غربه، باعتبار أن تلك الثروات ملك الشعب السوري وليست إرثاً لـ”قسد”.
ما قاله الأميركي غرانجر أكّده المنسق الأميركي لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بريت ماكغورك، وزاد عليه بإظهار بعض الامتعاض الأميركي من طريقة تعاطي قيادات شرقي الفرات مع نصائح التحالف الدولي ومطالبه، خصوصاً في ما يتعلق بالابتزاز الذي كرّرته قيادات “قسد” و”مسد” أكثر من مرّة عبر تصريحات تعقب أي تهديد تركي، بتعليق عمل “قسد” مع التحالف، ووقف المشاركة بالحرب على الإرهاب، والتهديد بترك حراسة سجون المعتقلين من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في مناطق شرقي الفرات، إضافة إلى نقل ماكغورك رسالة استخباراتية أميركية عن خرق أمني كبير في صفوف الكوادر السياسية لـ”مسد”، حيث ينقل هؤلاء تفاصيل الاجتماعات بين قيادات شمال شرق سورية والتحالف الدولي إلى الجانب الروسي وإلى نظام دمشق، قبل أن تنفضّ تلك الاجتماعات. ولذلك طالبهم ماكغورك بإعادة هيكلة قيادات “قسد” و”مسد” على غرار ما جرى في قاعدة التنف، أخيراً، وطلب منهم أيضاً عدم ترك الدوريات الروسية تتحرّك منفردة في مناطق مسؤوليتهم في شرقي الفرات، بل مرافقتها بالتأكيد، وأكّد على خطورة التنسيق العسكري بين قوات “قسد” وقوات نظام دمشق، لأن ذلك يعني دخول الحرس الثوري الإيراني وعناصر حزب الله الذين لا يمكن فصلهم عن قوات نظام الأسد، ما يشكّل خطراً على عناصر التحالف الدولي في كامل مناطق شرقي الفرات.
مع حركة الوساطات الأميركية والروسية في المنطقة لم تتوقف تعزيزات الآلة العسكرية التركية التي لا تحتاج مزيداً منها
مع انقضاء أقل من 72 ساعة من اجتماع المسؤولين الأميركان مع قيادات “قسد” في الشمال السوري عُقد اجتماع آخر رفيع المستوى في مطار القامشلي، بين مظلوم عبدي قائد “قسد” وقائد القوات الروسية في سورية، العماد الكساندر تشايكو، وهو قائد قاعدة حميميم الجوية، لكن ما طرحه الأميركان في نقلهم الشروط التركية فصّله الروس أكثر، إذ طلبوا من “قسد” سحب الأسلحة الثقيلة والمتوسّطة من مناطق منغ وتل رفعت شمال حلب باتجاه شرقي الفرات. أما عناصرهم فيمكن سحبهم مع سلاحهم الفردي باتجاه منطقة الشيخ مقصود في حلب، وكذلك الانسحاب من مدينة منبج في ريف حلب الشرقي نحو شرقي الفرات. أما قوات “قسد” الموجود في مدينة عين العرب (كوباني) فيمكنها الانسحاب مع أسلحتها الثقيلة والمتوسطة نحو الجنوب لمسافة 17 كم من حدود كوباني وليس من الحدود التركية. وقدّم العماد تشايكو مقترحاً بأن تستلم تلك المناطق قوات تتبع لروسيا كالشرطة العسكرية أو الكتيبة الشيشانية أو يمكن نقل جزء من الفرقة 25 (الفرقة 25 يقودها العميد سهيل حسن وتعمل بالأجندة الروسية) لتتولى مهام ترتيب أمن المنطقة.
ما رفضته قيادات “قسد” و”مسد” مع وفود الأميركان تكرّر مع الروس، وأبدى الوفد الكردي امتعاضه من الأداء الروسي، خصوصاً في ما يتعلق بفتح الأجواء السورية للطيران التركي إف 16، أخيراً، في أثناء العملية الجوية التركية “المخلب – السيف”، وعدم قيام الروس بواجباتهم التي جرى التفاهم عليها عام 2019 عقب عملية “نبع السلام”، من حيث الاشتراك بالدفاع عن أي خطر يتهدّد حليفهم الكردي، وطالبوا الروس بمغادرة مناطق شرقي الفرات، إن لم يكن بمقدورهم القيام بما تمليه عليهم التفاهمات المعقودة معهم.
تقول معطيات ميادين الساسة والعسكر إن تركيا قد تمسك العصا من المنتصف بعد رفض “قسد” شروطها، وإنها قد تلجأ إلى تصعيد عسكري
مع حركة الوساطات الأميركية والروسية في المنطقة لم تتوقف تعزيزات الآلة العسكرية التركية التي لا تحتاج مزيداً منها، بما تملكه أنقرة من قدرات عسكرية في الداخل السوري، وعلى الحدود مباشرة، وفي ظل التوازنات والقدرات العسكرية الحالية لبقية الأطراف، فبمقدور الجيش التركي منفرداً ومن دون تعزيزات إضافية الوصول إلى العمق السوري، نظراً إلى ضعف القدرات العسكرية لقوات سوريا الديموقراطية وجيش الأسد مقارنة مع قوة الجيش التركي، لكن التعزيزات والحشود التركية، سواء كانت للداخل السوري أو من العمق التركي باتجاه الحدود التركية السورية زادت، وترافقت مع رفع جاهزية القواعد الجوية التركية في ولايات ديار بكر وغازي عنتاب وأورفه، إضافة إلى اجتماع عسكري حصل بين قيادة الجيش التركي وقادة الجيش الوطني السوري الحليف لتركيا، وفيه طلب الأتراك من حلفائهم رفع حالة الجاهزية القتالية والاستعداد لأي أوامر ببدء عمل عسكري أو تحديد لساعة الصفر. وتعبّر تلك التعزيزات العسكرية عن غضب تركي وإرادة قد تنفجر في أي لحظة، لأن أنقرة تعتبر ما حصل من عمل إرهابي في شارع الاستقلال في منطقة تقسيم في إسطنبول تجاوزاً لخطوط حمراء تخصّ الأمن القومي التركي، ولا يمكنها السكوت عليه، وأن الإرهاب المتموضع على حدودها الجنوبية يجب أن يُزال وفقاً للمادة “51” من مواثيق الأمم المتحدة التي تبيح للدول المجاورة التوغل وضبط أمنها مع دول مجاورة فاشلة في ضبط حدودها.
تقول معطيات ميادين الساسة والعسكر إن تركيا قد تمسك العصا من المنتصف بعد رفض “قسد” شروطها، وإنها قد تلجأ إلى تصعيد عسكري تكمل فيه ما بدأته بعمليتها الجوية “المخلب – السيف” إنما بأدوات عسكرية أخرى وليس عبر طائرات إف 16، للدفع بقيادات شرقي الفرات للتجاوب مع الشروط التركية وتجنيب شمال سورية معركة قد تغير من خرائط النفوذ والسيطرة، وقد تعيد خلط الأوراق في كامل المنطقة.
اعتبرت قيادة “مسد” الموافقة على الشروط التركية كارثةً ستؤدّي إلى ضرب كامل مشروع الإدارة الذاتية الذي تقاتل لترسيخه، باعتبار أن الانسحاب مسافة 30 كم جنوباً استجابة لطلبات دمشق أو لطلبات الروس أو للطلبات التركية يعني الابتعاد جغرافياً عن المكون الكردي السوري المتمركز على الحدود السورية التركية، وهذا لن يحصل، لكن ما قدمته قيادة “قسد” و”مسد” من تبريرات لا يعكس الحقيقة الكاملة في ظل معرفة مترسّخة لدى معظم الأطراف بأن مفاصل القيادة الحقيقة في شرقي الفرات ليست بيد صالح مسلم ولا مظلوم عبدي ولا إلهام أحمد، وأن القيادات الأمنية والعسكرية والاقتصادية الحقيقية هي بيد قادة من حزب العمال الكردستاني التابعة لجبال قنديل، والتي ترفض أي تفاهمات مع أنقرة، وتعتبر المواجهة العسكرية معها خيارها المفضل. في وقت تقول فيه أنقرة إن هدفها الأساسي ليس الحصول على مزيد من الأراضي لتحصين نفوذها في سورية، بل تهدف إلى ضمان وحدة الأراضي السورية، ومنع أي مشروع انفصالي في الشمال السوري، والحفاظ على أمنها القومي من إرهاب يهدّد جنوبها، إضافة إلى كلام جديد بات يُسمع مفاده أن العمل العسكري التركي المتوقع قد يسحب ورقة الحرب على الإرهاب من يد قوات “قسد”، وقد يعيد ترتيب توازنات عسكرية وسياسية جديدة يمكن أن تمهد لحوار سوري سوري بمساعدة إقليمية ودولية، وقد ينتهي إلى حل نهائي يوقف المأساة السورية.
العربي الجديد