على رغم أن جميع القضايا المتعلقة بالسياسة والسياسيين في تركيا هي في يد القضاء في ظاهر الأمر، فإن القضاء، للأسف، يفقد دائماً استقلاليته بسبب رضوخه لتوجيهات الحكومات وإملاءاتها في مرحلة اتخاذ القرار.
وقد كان القرار في شأن عمدة بلدية إسطنبولالكبرى أكرم إمام أوغلو، من هذا القبيل. والحكم بالسجن لمدة عامين وسبعة أشهر على إمام أوغلو بتهمة إهانة أعضاء المجلس الأعلى للانتخابات هو مجرد مبرر. وكأن هذا لم يكن كافياً، إذ وافق القاضي أيضاً على تنفيذ حظر سياسي عليه وفقاً للمادة 53 من قانون العقوبات التركي.
كيف ستتطور الأوضاع من الآن فصاعداً؟
إن هذا القرار ليس نهائياً، فهناك مرحلة الاستئناف، ثم مرحلة القضاء العليا، وهذا يعني أن أكرم إمام أوغلو سيستمر في منصبه بعد هذا القرار الصادر عن المحكمة الابتدائية إلى أن يتم اتخاذ القرار النهائي في حقه لدى المحكمة العليا. وفي حال تمت المصادقة عليه، سيتم عزل أكرم إمام أوغلو من منصبه كرئيس للبلدية وسيتم تعيين وصي بدلاً منه، وسيعتبر محظوراً سياسياً.
لماذا اتخذ الرئيس رجب طيب أردوغان هذه الخطوة؟
كتبت مقالتي الأولى في “اندبندنت عربية” في اليوم الذي فاز فيه إمام أوغلو بانتخابات إسطنبول. وذكرت في ذلك المقال الذي تناول خسارة “حزب العدالة والتنمية” في الانتخابات بأن أردوغان تلقى صدمة قوية. نعم، إن الأحداث الأخيرة تدل على أنه لم ينس مرارة تلك الصدمة مما جعله يغامر في سبيل استرداد إسطنبول بطريقة أو بأخرى.
إن إسطنبول التي حكمها أردوغان قرابة ربع قرن بطريق مباشر أو غير مباشر تعني بالنسبة إليه الشيء الكثير. ويأتي على رأس القائمة الريع الكبير الذي تدره هذه العاصمة التجارية والثقافية… إنها بمفردها في جحم دولة، وما يدور فيها من الحياة التجارية يستقطب انتباه كل مهتم بالمال والسياسة.
وإذا تم فصل الرئيس الحالي أكرم إمام أوغلو فستكون هذه الميزانية العملاقة بيد حزبه الذي يحظى بالغالبية في مجلس البلدية. وفي تلك الحالة حتى لو خسر أردوغان في الانتخابات الرئاسية فسيواصل التحكم في أموال بلدية إسطنبول لمدة عامين من خلال عناصره في مجلس البلدية، أي إلى أن يأتي وقت الانتخابات المقبلة لمجلس البلديات.
وهذا سبب كاف لدفعه إلى اتخاذ هذه الخطوة التي ربما تكون ضده في الانتخابات، لأن ميزانية إسطنبول وإيراداتها قوية بما يكفي للفوز في الانتخابات اللاحقة. فإن من يتحكم في ميزانية البلدية الكبرى فبإمكانه أن يستميل الناخبين من خلال المساعدات الاجتماعية، والعطاءات، واستخدام جميع لافتات البلدية للترويج لحزبه، وتنظيم حفلات انتخابية باهظة من خلال الاستعانة بتلك الميزانية العملاقة.
وينبغي التذكير بأن هناك مشروعاً ضخماً قد توقف بسبب خسارة أردوغان في انتخابات البلدية وأعني به مشروع قناة إسطنبول، التي كان يتوقع منها مبالغ خيالية، سواء في مرحلة الإنشاء أو في مرحلة ما بعد الانتهاء منها.
ومن جانب آخر: كانت جميع استطلاعات الرأي العام تقريباً تشير إلى أن أكرم إمام أوغلو هو الأوفر حظاً من بين المرشحين المحتملين في السباق الرئاسي، وأنه في حال ترشحه سيحقق فوزاً مؤكداً على أردوغان، ولكن مع قرار المحكمة هذا لم يعد احتمال ترشيحه الذي سيكون مغامرة تجاه أردوغان. علماً بأن هناك من المعارضين أيضاً من لم يكونوا يحبذون ترشيح إمام أوغلو، وهذا القرار بدوره أعطاهم ورقة رابحة للحيلولة دون ترشيحه بحجة “عدم المغامرة” بترشيحه.
وهذا ما كان يريده أردوغان لأنه يعتقد أنه قادر بالفعل على هزيمة المرشحين الآخرين على أية حال. لذلك، أعتقد أنه لن يصدر قرار الاستئناف/ المحكمة العليا إلى أن يتم البت في قضية الترشيح، بل وربما سيطول الأمد حتى وقت الانتخابات، حتى يصبح هذا الاحتمال رادعاً أمام ترشح إمام أوغلو.
وبعد الانتهاء من الانتخابات الرئاسية سيصدر القرار من المحكمة العليا، لينتهي الأمر بتعيين وصي على بلدية إسطنبول الكبرى. وهاتان المسألتان اللتان ذكرتهما هما الخطة المحتملة في ذهن أردوغان.
ولكن كيف سيكون رد فعل المعارضة؟
بطبيعة الحال، ستقوم أحزاب المعارضة وإمام أوغلو بتقييم هذه العملية، واتخاذ قرار في شأن التحركات التي سيقومون بها في الأشهر المقبلة. فبالنسبة إلى تسمية المرشح لرئاسة الجمهورية، يمكنهم أن يقولوا “ليكن إمام أوغلو مرشحاً وليكن هناك مرشح آخر بديل بحيث إذا تمت المصادقة على قرار المحكمة، فإن البديل سيكون جاهزاً، ولكن هذا يمكن أن يجعل المرشح البديل كدمية المرشح الرئاسي”.
وقد سبق لي أن قلت إن رئيس “حزب الشعب الجمهوري” كمال كيليتشدار أوغلو وأكرم إمام أوغلو هما أقوى المرشحين في المعارضة للرئاس، وفي الوقت الحالي يمكنني القول إن الساحة أصبحت متروكة لكيليتشدار أوغلو.
وهناك شيء أردده دائماً، وأعود لأقول إن الرئيس أردوغان شخص لن يتردد في اللجوء إلى أي وسيلة غير قانونية للفوز بالانتخابات.
نعم، إن حكومة “حزب العدالة والتنمية” حكومة سبق لها في الاستفتاء أن عمدت إلى بطاقات الأصوات اللاغية بسبب كونها غير مختومة، فاعتبرتها مقبولة لصالحها، كما أنها جددت انتخابات بلدية إسطنبول مرتين، وعينت أوصياء على بلديات فاز بها مرشحو “حزب الشعوب الديمقراطي”، ولم تسلم رئيس بلدية يلوا منصبه على رغم قرار المحكمة.
لم يعد نظام أردوغان يشعر بالحاجة إلى إخفاء أنه لا يعترف بالفصل بين السلطات في تركيا، لكن على رغم ذلك كله يمكنني أن أؤكد أن النظام الذي حاول تأسيسه بعد الانقلاب في 15 يوليو (تموز) بدأ في التصدع.
إن الرئيس أردوغان الذي يستعد للانتخابات وكأنه يستعد للحرب ارتكب خطأ تاريخياً في عام 2019، عندما ألغى الانتخابات في إسطنبول، ولكنه خسر في المرة الثانية أيضاً بفارق كبير. والآن، مع هذا القرار السياسي في شأن إمام أوغلو يمكنني القول إن أردوغان جعل الانتخابات العامة لعام 2023 صعبة على نفسه من حيث لا يشعر. وربما سيكون هذا القرار مفتاحاً لوصول “تحالف الأمة” إلى السلطة وورقة رابحة لإمام أوغلو.
إن الحكم الصادر ضد أكرم إمام أوغلو دليل ليس فقط على مدى خوف أردوغان من الانتخابات، ولكن على مدى عدم استعداده لها على الوجه المطلوب.
إن معاقبة رئيس بلدية حزب معارض أثناء اقتراب موعد الانتخابات ليس علامة على النجاح بل مظهر من مظاهر الهذيان. دعونا لنرى ما إذا كانت خطة أردوغان ستنجح أم سيفوز الشعب؟
اندبندت عربي