القاهرة- بدعوى الإسهام في التنمية الاقتصادية المستدامة، وافق مجلس النواب المصري، على مشروع قانون مقدم من الحكومة يتضمن تعديل تشريع هيئة قناة السويس بما يسمح بتأجير وبيع أصولها؛ وهو ما أثار مخاوف مختصين من احتمالات التفريط في ممر ملاحي يعتبره المصريون معبرا عن الاستقلال الوطني، ما استدعى نفيا حكوميا وتوضيحات برلمانية.
وبموجب التعديلات، التي أقرها البرلمان بشكل مبدئي، على القانون رقم 30 لسنة 1975 الخاص بنظام هيئة قناة السويس، فسيتم إنشاء صندوق مملوك للهيئة تكون له أحقية شراء وبيع وتأجير واستئجار واستغلال الأصول الثابتة والمنقولة والانتفاع بها. ويهدف الصندوق لمساعدة هيئة قناة السويس في مجابهة الأزمات والحالات الطارئة التي تحدث نتيجة أي ظروف استثنائية أو قوة قاهرة أو سوء في الأحوال الاقتصادية.
وعلى مدار عقود توفر أرباح قناة السويس دخلا قوميا بالعملة الأجنبية لمصر، ووفق إحصائيات الملاحة بالقناة خلال العام المالي 2021 /2022 حققت القناة أعلى حمولة صافية سنوية لعام مالي قدرها 1.32 مليار طن، وأعلى إيراد سنوي مالي بلغ 7 مليارات دولار.
رفض واسع ودفاع مستبق
لقي الخبر تفاعلا واسعا عبر منصات التواصل، حيث عبّر البعض عن مخاوفهم من عزم الحكومة بيع أصول الممر الملاحي، بينما اعتبره آخرون آلية فعالة لتطوير الهيئة لتعظيم أرباحها.
ورفض سياسيون ونواب وأحزاب سياسية القانون، واعتبروا قناة السويس “خطا أحمر”، ورفضت الحركة المدنية الديمقراطية (تضم أبرز أحزاب وشخصيات المعارضة) القانون ليس فقط لمساوئه الاقتصادية، ولكن أيضا لمخاطره السياسية والإستراتيجية، معتبرة أن ذلك يمثل تهديدا لسيادة مصر على مواردها الإستراتيجية، ومن شأنه أيضا أن يهدد أمن مصر القومي.
ودعا رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، مدحت الزاهد، إلى سرعة تأسيس جبهة للدفاع عن قناة السويس.
في المقابل، وعبر أكثر من تصريح متلفز، حاول رئيس هيئة قناة السويس، أسامة ربيع، ليلة أمس الثلاثاء، الدفاع عن التشريع الجديد الخاص بالمؤسسة التي يديرها، محاولا تبديد المخاوف الخاصة بما يمكن أن يحمله القانون من التفريط في قناة السويس.
ووصف ربيع الحديث حول بيع ممتلكات قناة السويس بعد إنشاء الصندوق الاستثماري “بالأمر العاري تماما من الصحة”، مشددا على أن الممر المائي “مرفق وطني دولي مصري ولن يتم بيع أي جزء منه أو الحصول على أي قرض بضمانه”.
وأرجع ربيع فكرة إنشاء صندوق هيئة قناة السويس إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي، موضحا أن رأس مال الصندوق سيبدأ من 10 مليارات جنيه (نحو 404 ملايين دولار).
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تحدث السيسي، خلال كلمته بالمؤتمر الاقتصادي، عن مدى أهمية أن تكون هناك “ملاءة مالية” ضخمة لهيئة قناة السويس، مضيفا أنه أمر بإنشاء صندوق إيرادات الهيئة مع العمل على تنميتها، وعدم إنفاق أي شيء إلا بالعودة إليه.
وأكد رئيس هيئة قناة السويس أن التطورات الجديدة لن تؤثر على الدخل الذي يذهب لخزينة الدولة من أرباح الممر الملاحي، مضيفا أن “جزءا من الفائض هو الذي سيذهب للصندوق، لأن الفائض كله نستخدمه في المشروعات الاستثمارية، وتمويل المشروعات مثل إنتاج الوقود الأخضر وقطع الغيار الخاصة بالهيئة، والجزء الذي سيتبقى سيتم تجميعه حتى يتم استثماره”.
وفي الوقت نفسه، قال ربيع عبارة مبهمة “المقصود بالأصول التي سيتم التصرف فيها هي أصول الصندوق، وهي غير متعلقة بأصول هيئة قناة السويس”.
توضيح برلماني ونفي حكومي
بدوره، اضطر رئيس مجلس النواب حنفي جبالي، إلى توجيه خطاب إلى المصريين خلال الجلسة العامة المنعقدة ظهر أمس الثلاثاء، مؤكدا فيه أن الممر المائي يعد مالا عاما لا يمكن التفريط فيه.
وأشار إلى أنه تابع عن كثب الأخبار المتداولة، قائلا “هالني ما رأيته وسمعته أمس -من بعض المحسوبين على النخبة المثقفة- من أن ما تضمنه مشروع القانون من أحكام تجيز تأسيس شركات لشراء وبيع وتأجير واستغلال أصول الصندوقِ والذي يعد -على حد وصفهم- تفريطا في قناة السويس”.
واعتبر جبالي ما تضمنه مشروع القانون أمرا طبيعيا يتفق مع طبيعة الصناديق كوسيلة من وسائل التمويل والاستثمار، ولا يمس بشكل مباشر أو غير مباشر قناة السويس.
وتلزم المادة 43 من الدستور المصري الدولة بحماية قناة السويس وتنميتها، والحفاظ عليها بصفتها ممرا مائيا دوليا مملوكا لها، كما تلتزم بتنمية قطاع القناة، باعتباره مركزا اقتصاديا متميزا.
بدورها، تعاملت الصفحة الرسمية لمجلس الوزراء المصري مع الأزمة بوصفها شائعة توحي بأن القانون باب خلفي لبيع القناة، ونقلت تأكيدات هيئة قناة السويس وإدارتها بأنها ستظل مملوكة بالكامل للدولة المصرية وتخضع لسيادتها، كما سيظل كامل طاقم هيئة القناة من موظفين وفنيين وإداريين من المواطنين المصريين.
ضمان الاستثمار الأمثل
في هذا السياق، اعتبر الخبير الاقتصادي عبد النبي عبد المطلب، أن إنشاء صندوق تابع لقناة السويس خطوة جيدة تضمن الاستثمار الأمثل لأصول القناة وزيادة مساهمتها في التنمية المستدامة بعيدا عن التعقيدات الإدارية الروتينية، حسب وصفه.مع ذلك رأى عبد المطلب -خلال حديثه للجزيرة نت- أن قرار إنشاء الصندوق كان من الأفضل أن يتم عبر تعديل قانون الهيئة العامة لتنمية المنطقة الاقتصادية لقناة السويس وليس قانون قناة السويس.
وأردف بأن “إجراء التعديلات على قانون هيئة قانون السويس يعني أنه تعديل في نظامها الأساسي ما يشمل الممر الملاحي، أما لو كانت الحكومة عدّلت في قانون الهيئة الاقتصادية فسيكون الممر الملاحي آمنا تماما”.
وعن سبب إدراج الحكومة قرار إنشاء الصندوق الجديد ضمن قانون قناة السويس، افترض الخبير الاقتصادي حسن نية المسؤولين الحكوميين بشأن مستقبل الممر الملاحي، مؤكدا أنه كان من الأفضل الابتعاد عن كل ما يثير قلق المصريين بشأن القناة.
وبالنسبة لمخاوف المصريين من إمكانية بيع أصول قناة السويس، أوضح عبد المطلب أن مسودة القانون لم تُنشر بعد، وبالتالي لا يمكن الجزم بشيء في هذا الخصوص.
الاستدانة بضمان القناة
المخاوف تجاه مستقبل قناة السويس لا تقتصر على البعد الاقتصادي، فثمة أبعاد جيوسياسية وتاريخية واجتماعية تخص الممر الملاحي المصري، وفق تأكيد مدير المركز الدولي للدراسات التنموية، مصطفى يوسف.
وفي حديثه للجزيرة نت، قال يوسف إن النظام المصري فشل في إدارة ملف الاقتصاد، ومن ثم لجأ إلى الاستدانة، مضيفا أن القروض لم تستغل لعلاج الفشل بل للتوسع في مشروعات عديمة الجدوى الاقتصادية، لكنها تتسم بطابع الإبهار مثل القطار الكهربي والعاصمة الإدارية الجديدة.
وأبدى يوسف تخوفه من أن يتم استغلال قانون قناة السويس الجديد من أجل الاقتراض بضمان أصول الممر الملاحي، مشيرا إلى أن التاريخ يعيد نفسه، مضيفا “استولى الأجانب على أصول مصر خلال عهد الخديوي إسماعيل الذي اتسم بسياسة الاقتراض، وهو ما أدى لاحتلال البلاد في نهاية المطاف”.
وبيّن أن السلطة المصرية تبيع الأصول الرابحة والإستراتيجية -مثل شركات الأسمدة والحاويات- للأجانب الذين لا يحتفظون بالأرباح داخل مصر، بل تخرج في شكل عملة صعبة إلى الخارج.
في أبريل/نيسان الماضي، باعت مصر حصصا في 5 شركات عامة مملوكة للحكومة المصرية إلى الصندوق السيادي الإماراتي مقابل 1.8 مليار دولار، وفي أغسطس/آب الماضي، استحوذ صندوق الاستثمارات السعودي على حصص مملوكة للحكومة المصرية في 4 شركات مدرجة بالبورصة بقيمة 1.3 مليار دولار.
وعن الطريق الصحيح الذي يجب أن تسلكه الإدارة المصرية من أجل الخروج من مأزقها الاقتصادي ومن ثم تتوقف سياسة بيع الأصول، دعا الباحث في الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية إلى خروج المؤسسة العسكرية من المشهدين السياسي والاقتصادي، والقضاء على الفساد، وإقرار حرية تداول المعلومات والشفافية مع وجود برلمان حقيقي قادر على التشريع ومراقبة الحكومة.
أصول مقابل الديون
المخاوف من استغلال القناة في الاستدانة الخارجية، تأتي وسط معاناة مصر من أزمة ديون متفاقمة، حيث اضطرت في السنوات العشر الأخيرة للاستدانة من منظمات مالية دولية ودول عربية ما يقارب 120 مليار دولار.
ويبلغ حجم الدَّين الخارجي للبلاد نحو 157.8 مليار دولار، وفق تقرير البنك المركزي المصري لشهر سبتمبر/أيلول الماضي، ما يعني أنه زاد بنحو 5 أضعاف مقارنة بحجمه قبل 10 أعوام، حيث بلغ في نهاية عام 2012 نحو 34.4 مليار دولار.
ويصل إجمالي الدَّين المحلي حتى يونيو/حزيران 2020 إلى 4.7 تريليونات جنيه، ويُقدر حجم الدين العام الحكومي بنحو 86% من الناتج المحلي الإجمالي.
ووفق بيانات وزارة المالية، وصلت قيمة مخصصات فوائد الدين بالموازنة العامة للدولة خلال العام المالي الجاري إلى نحو 690.2 مليار جنيه مقابل 579.6 مليار جنيه خلال العام الماضي، بزيادة تصل نسبتها إلى 19%.
وفي عام 2018، صدر قانون إنشاء صندوق مصر السيادي برأس مال 200 مليار جنيه، وقد منح القانون رئيس الدولة الحق في نقل ملكية الأصول العامة غير المستغلة أو المستغلة إلى ملكية الصندوق.
وفي يونيو/حزيران 2020، قال المدير التنفيذي لصندوق مصر السيادي أيمن سليمان، إن الحكومة المصرية تعتزم التخلص من بعض ديونها ببيع أصول مملوكة للدولة إلى مستثمرين عرب وأجانب بالشراكة مع صندوق مصر السيادي.
وفي مقابلة مع رويترز أمس الثلاثاء، قالت رئيسة بعثة الصندوق إلى مصر، فلادكوفا هولار، إن وثيقة ملكية الدولة -التي من المقرر أن تعتمدها مصر قريبا وتهدف إلى تحديد المجالات الاقتصادية المفتوحة للاستثمار الخاص- ستكون “وثيقة أولى مهمة نحتاجها جميعا حتى نتمكن من إعداد خطة عمل أكثر قوة”.
وأضافت هولار أن خطوات تعزيز القطاع الخاص قد تصبح “إجراءات ذات أولوية” يجب اتخاذها قبل الحصول على أي دفعات مستقبلية من الصندوق.
رفض نيابي وتدخل مستشار الرئيس
ورغم تمرير مجلس النواب لمشروع القانون بشكل مبدئي، فإن هنالك أصواتا برلمانية رافضة للتشريع، وعبّرت عن هذا الرفض خلال الجلسة العامة لمناقشة القانون.
وقالت عضوة مجلس الشيوخ هدى عبد الناصر، إن مصر لا تحتاج لمزيد من الصناديق الخاصة لأن هناك الكثير منها، مؤكدة أن الحكومة تلقت عبر سنوات نصائح بكون طريق الصناديق غير مجد، لكنها استمرت في السير عليه.
وتابعت ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أن “الحكومة مصرة على عمل نفس الأشياء وتنتظر نتائج مختلفة”، مطالبة رئيس الوزراء بالمثول أمام البرلمان لتوضيح الوضع الاقتصادي الحقيقي للبلاد.
ووصف النائب أحمد فرغلي، قرار إنشاء صندوق هيئة قناة السويس “بالاختيار السيئ”، موضحا أن قانون الهيئات أعطى جميع الصلاحيات لهيئة قناة السويس لإنشاء الشركات وبناء عليه أنشأت القناة 7 شركات، متسائلا عن جدوى إنشاء الصندوق في ظل وجود هذا الكم من الشركات.
وتابع “الصندوق يتعارض مع وجود الهيئة الاقتصادية لتنمية قناة السويس، والإصرار على إنشائه هو بمثابة اعتراف بفشل الهيئة الاقتصادية”، داعيا الحكومة “لكف يدها عن قناة السويس لأنها مصدر دخل كبير للاقتصاد المصري والعملة الأجنبية”، حسب قوله.
لكن التصريح الأبرز جاء على لسان الفريق مهاب مميش مستشار رئيس الجمهورية للموانئ، والرئيس السابق لهيئة قناة السويس، حيث قال لصحف محلية إن القانون الجديد من المستحيل تنفيذه، مشيرا إلى أنه يفتح الباب لسابقة لم تحدث من سنوات طويلة، وهي وجود أجانب في إدارة قناة السويس وقد يغيرون النظام الذي تقوم عليه من سنوات طويلة ويحقق عائدات وأرباحا قياسية.
وأكد مميش -القائد السابق للقوات البحرية- أن أي تغيير في النظام أو دخول مستثمرين أجانب سيسبب حالة فزع لدى المواطنين، “خاصة مع ارتباط قناة السويس وجدانيا بالمصريين الذين شقوها في المرة الأولى بدمائهم وعرقهم وجهدهم، والمرة الثانية بأموالهم تحت رعاية وتخطيط الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أكد أنه لن يقبل أبدا بأي تفريط في نقطة ماء واحدة أو قناة السويس بشكل عام، خاصة لكونه رئيسا مخلصا لوطنه ولشعبه”.
تاريخ وأرباح
في مشهد أقرب للدراما المأساوية أُرغم آلاف المصريين -أغلبهم من الفلاحين- على ترك حيواتهم، قبل نحو 160 عاما، والاتجاه شرقا لحفر قناة ستربط بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، بمقابل مادي زهيد يجعل عملهم بمثابة سُخرة.
ولقرابة 10 سنوات لقي آلاف المصريين مصرعهم خلال عمليات حفر القناة التي أشرف عليها وأدار تنفيذها، المهندس الفرنسي، فرديناند ديليسبس، باعتباره صاحب فكرة المشروع.
في عهد الخديوي إسماعيل، وتحديدا في يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1869، افتتحت قناة السويس أمام الملاحة الدولية على أن يكون للشركة الفرنسية حق امتياز لمدة 99 سنة، وخصصت الشركة لكل دولة من الدول عددا معينا من الأسهم.
وكان للحكومة المصرية 15% من الأرباح السنوية للقناة، لكن في عام 1880 وأمام ضغوط الديون تنازلت القاهرة للبنك العقاري الفرنسي عن حقها في الحصول على نسبتها؛ وبذلك أصبحت الشركة تحت السيطرة المالية لفرنسا وإنجلترا، للأولى 56% من الأسهم وللثانية 44%.
وفي يوليو/تموز عام 1956، قرر الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، تأميم قناة السويس لتصبح شركة مساهمة مصرية تمتلكها وتديرها الحكومة المصرية، وهو ما كان سببا مباشرا للعدوان الثلاثي على مصر في العام نفسه (من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل).
المصدر : الجزيرة