لم يأت محمد شياع السوداني إلى الحكومة العراقية بيسر، ولم تكن الأرض مفروشة بالورد من حوله، فهو نتاج أزمة خلفها انفجار واقع المحاصصة وانقسام مكوناته وانفجار لغم الطائفية والدستور المليء بالألغام التي زرعها الآباء المؤسسون لنظام ما بعد 2003.
ويدرك السوداني بحكم تواصله مع المجتمع العراقيكونه لم يكن معارضاً وافداً بل متخرجاً في كلية الزراعة بجامعة بغداد، حجم المأساة التي تعيشها البلاد والفشل المتلاحق الذي أحاط بـ “العملية السياسية المحتضرة”، بوصف أحد مؤسسيها إياد علاوي أول رئيس حكومة بعد التغيير 2003.
حكومة علاوي نادت بالديمقراطية والتعددية في بلد غير مهيئ لذلك، لكنها فرضت كما أرادها صناعها بعد الاحتلال، وقبله أيام المعارضة التي كانت تفكر بطريق واحد للوصول إلى بغداد العاصمة عبر المحاصصة وتقاسم المغانم وتوزيع الثروة على القوى والأحزاب التي اشتركت بصياغة “نظام اللادولة”.
تلك الدولة الشكلية التي توزع الموازنات على الأعوان والأتباع وتعين موظفين برواتب معدلها 1000 دولار ما كان أشبه بحلم يرونه في البنوك التي تمنحهم إياه بعد سنوات الحروب والحصار، حتى ظنوا أن ذلك نتاج عالم الديمقراطية التي هبطت عليهم باجتثاث النظام الذي حرمهم نعمة الرواتب والمشاركة في الانتخابات والمجاهرة بالطائفة والقومية وشبه استقلال المناطق بحسب الإثنيات والطوائف، كما يحدث في كردستان العراق الذي طالب مراراً بالاستقلال وحق تقرير المصير، وأدرك أخيراً أن المنفعة في البقاء ضمن الدولة العراقية أجدى.
حروب ضد الفساد
لكن مشهد هذا العام من عمر الدولة وخصوصاً الأشهر الثلاثة التي أمضاها السوداني الذي خاض حروباً ضد الفساد ومحاولة استرجاع الدولة المخطوفة، بإلغاء أكثر من 400 أمر ديواني أصدرها سلفه الكاظمي في حكومة تصريف الأعمال، ووضع اليد على أكبر سرقة عراقية في القرن بلغت 2.5 مليار من أموال الأمانات الحكومية، وإيقاف العديد من المصارف التي تعمل في مزاد العملة، يبدو مختلفاً.
وفي الوقت ذاته لم يمد السوداني يده ليغير واقع المحاصصة التي أتت به إلى الحكم عبر الكتلة الأكبر للائتلاف الشيعي في حيز الإطار التنسيقي الذي يضم ست قوى شيعية كلها تملك ميليشيات تعوم فعلياً الدولة الصلبة التي يريدها، عبر سحق الدولة العميقة التي يقودها رئيسه في الإطار التنسيقي كما يظن، حتى غدا الحديث عن صدام بين الطرفين، السوداني الذي يريد للدولة الكلمة الفصل، والأحزاب التي تمثل اللادولة صاحبة كل الأسلحة خارج مشجبها.
دولة المحاصصة
العقدة الكبرى للسوداني ولسواه تكمن في المحاصصة السياسية التي أنتجت كل ذلك الفساد وعومت الدولة التي يظن رئيس الحكومة بأنها هي التي تملك قرار إدارة المشروع وتتحكم بالموازنات.
وأصل المحاصصة، كما يقول الباحث مازن صاحب لـ “اندبندنت العربية”، هي نظام عرفي خارج إطار الدستور تم من خلال اجتماع أحزاب المعارضة العراقية في لندن عام 2002 برعاية أميركية، اعتبر خلاله تمثيل الشيعة 60 في المئة من السكان والسنّة 15 في المئة والكرد 15 في المئة والمسيحيين خمسة في المئة وبقية الأقليات خمسة في المئة.
وعلى هذا الأساس، كما يضيف صاحب، تم توزيع أعضاء مجلس الحكم في أول تطبيق أميركي لنظام المحاصصة، وكان تشكيل كل الحكومات المتعاقبة حتى اللحظة قائماً على هذا التوزيع وبحسب المقاعد البرلمانية لكل مكون من المكونات الطائفية والقومية التي لا تزال تدار بما تم الاتفاق عليه في “مؤتمر لندن”، وأيضاً بموافقة أميركية ونفوذ إيراني.
الخلاص من المحاصصة
أما الخلاص من هذا النظام، وفق وجهة نظر صاحب، فيبدو شبه مستحيل إلا بتغيير قانوني الأحزاب والانتخابات، وإيجاد نموذج جديد لأحزاب وطنية عراقية لها قاعدة شعبية في أكثر من 15 محافظة، كما أن ظهور مثل هذه الأحزاب الوطنية للتصدي إلى المشاركة في انتخابات مجلس النواب الاتحادي بات أمراً مطلوباً بقوة، وعلى أقل حد ظهور تحالفات انتخابية عابرة للحدود الطائفية والقومية والمناطقية.
ويرى أن السوداني لا فكاك له من تطبيقات واقعية لإدارة نظام المحاصصة وثقافة المكونات، وربما تواجه الأحزاب المتصدية لسلطان الحكم بهذا النظام متغيراً جديداً يتمثل في شخصية السوداني الذي أعلن في منهاجه الوزاري مكافحة الفساد، وهو فساد بنيوي لكل منظومة الحكم غير الرشيد، والتحدي الذي يواجهه في قدرته على نقل مفردات منهاجه الوزاري وقدرته على إنشاء سياسية فاعلة تنتقل إلى تطبيقات للسياسات العامة للبرنامج الحكومي المعلن.
أزمة الحكومة ورئيسها
أزمة السوداني، كما يرى بعض المراقبين، أنه لن يتمكن من فتح كل ملفات الفساد التي تورط فيها حلفاؤه في “الإطار” والمتحالفون مع حكومته من الأكراد والسنّة الذين تورطوا أيضاً بعشرات الملفات التي أودعت في هيئات النزاهات البرلمانية والحكومية، بينما ينظر إليه الشعب على أنه بلدوزر مكافحة الفاسدين.
ويذهب المتخصص في الاقتصاد مازن العبودي إلى القول إن المشكلة الحقيقية تكمن في “طبيعة النظام السياسي بعد 2003 المعتمد على مبدأ توزيع المؤسسات الحكومية على الأوزان البرلمانية، ومصادرة تلك المؤسسات لحساب تلك الأوزان التي لم تصدر لنا برامج إنمائية حقيقية، بل على العكس قامت بالاستحواذ على الدولة ومؤسساتها إلى حسابها مما عطل عمل المؤسسات الرقابية وأضعفها وجعلها غير قادرة على مواجهة التغول الكبير لأحزاب السلطة”.
السياسة المالية هي السبب
الوزير السابق كريم وحيد قال لـ “اندبندنت عربية” إن “الأزمة تكمن في السياسة المالية المقلوبة، فالفائض المالي المعلن مع أن الحكومة مدينة بنحو 100 تريليون دينار، بدلاً من أن تسخر للحد من الفقر والبطالة بمعالجة الأسباب وتكف عن المزايدات السياسية إلى ما يعمق المشكلة أكثر بتسخير الأموال صوب الإنتاج والمشاريع والتنمية، تتسابق التصريحات نحو مزيد من التوظيف الحكومي وتوزيع الأموال تحت مختلف العناوين عدا الاستثمار الحقيقي، وكل تلك النفقات الاستهلاكية تصبح فيما بعد التزاماً ثابتاً على الحكومة، ولم يلتفت أحد إلى سؤال محوري، ماذا لو انخفض سعر النفط؟ وماذا عن موجات الداخلين إلى سوق العمل سنوياً؟ هنا ستكون الحكومة أمام كارثة مالية أخرى حتماً”.
تحديات متوالدة
السوداني يصطدم بتحديات مستمرة من حلفائه في “الإطار” من جهة، وتحديات الإقليم والصراعات التي تحيط بالدولة الثرية الهشة المخترقة داخلياً من جهة أخرى، مما جعل العراق حديقة خلفية لسياسات وحروب قوى إقليمية مع أخرى دولية، تضيف أعباء على البرنامج الحكومي وتحديات على الدولة العراقية، التي “تقف على كف عفريت”، كما يقول مراقبون مقربون.
ويقول الباحث مازن صاحب إنه “ربما تأتي لحظة الانفجار جراء تكديس العنف، وكل حزب بما لديهم فرحون، وحتى لحظة التشظي فربما عندها نقرأ في كتب التاريخ عن حضارة وادي الرافدين ودولة عراق حديث ما بعد الحرب العالمية الأولى، إنها معضلة تكديس العنف في هذا الخلط بين أنواع العنف الجارية في تجربة مفاسد المحاصصة التي مضى عليها 20 عاماً”.
اندبندت عربي