خلال الأيام الماضية، أفصح بعض المسؤولين الروس عن استعداد بلادهم للتفاوض مع أوكرانيا لإنهاء الحرب والتوصل إلى تسوية سلمية. تحدث أيضا بعض ممثلي الحكومة الأوكرانية والحكومات الغربية الداعمة لها عن تفضيلهم المبدئي للحل السلمي ورغبتهم في السعي إليه شريطة أن تنسحب موسكو من الأراضي التي احتلتها وعلى الرغم من شكوكهم في النوايا الروسية. كما طالبت المؤسسات الدولية على لسان السكرتير العام للأمم المتحدة والمؤسسات الدينية على لسان بابا الفاتيكان بإنهاء الحرب وحماية أرواح الناس والممتلكات العامة والخاصة.
فهل يعني ذلك اقترابنا من مفاوضات سلام تضع نهاية للحرب الأرضية الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية 1939-1945؟ الإجابة هي على الأرجح لا، وللسببين التاليين.
أولا، لا تملك القيادة الروسية المقومات اللازمة للدخول في مفاوضات سلام ناجحة. فقد حدد فلاديمير بوتين ضم الأقاليم ذات الأغلبية العرقية الروسية والواقعة داخل الأراضي الأوكرانية إلى الوطن الأم كالهدف الأساسي «للعملية العسكرية» الذي لا يمكن التنازل عنه، وتم صياغة الخطاب الرسمي الداعم للحرب لتبرير حتمية ضم تلك الأقاليم الواقعة في الشمال الشرقي من أوكرانيا كخطوة ضرورية لحماية السكان الروس من عنف وعنصرية «المجموعات النازية» التي نشطت خلال السنوات الماضية.
هذا الهدف الأساسي لروسيا يستحيل على صناع القرار في أوكرانيا، إن فلوديمير زيلينسكي أو حكومته والجيش الذي ارتفعت معدلات تسليحه بسرعة بالغة خلال الشهور الماضية، قبوله مثلما يستحيل تصور موافقة أغلبية الشعب الأوكراني عليه بعد ويلات ودمار الحرب ومعاناة الناس من الدماء والارتحال واللجوء التي رتبها العدوان الروسي.
يصعب أيضا تصور قبول صناع القرار الغربيين، وحكوماتهم تقف في الصفوف الأمامية الداعمة لأوكرانيا عسكريا واقتصاديا وماليا وتكنولوجيا، لفوز روسيا بأقاليم هي داخل أراضي دولة مستقلة ذات سيادة. فجائزة كهذه ستعني تسليم الغربيين بكون الغزو وشن الحروب العدوانية على الغير والعمليات العسكرية داخل أراضي دولة ذات سيادة هي أمور يمكن قبولها في المنظومة الدولية والاعتراف بنتائجها المتمثلة إن في انتزاع أراضي من دول ذات سيادة أو في إفلات المعتدين من العقاب. جائزة كهذه ستعني أيضا إقرار الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بنجاح استراتيجية وسياسات بوتين في الضغط على جواره المباشر لمنع اقتراب دوله من الغرب وفي إعادة الاعتبار للقوة الروسية أوروبيا وعالميا.
إبعاد أوكرانيا عن الانضمام للناتو ودفع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا إلى الموافقة عليه ليس بصعوبة انتزاع أقاليم خاضعة للسيادة الأوكرانية المعترف بها دوليا وضمها إلى روسيا
لن يقبل الغرب بإعطاء بوتين جائزة للغزو والعدوان، وذلك على الرغم من ماضي الغربيين الطويل في الغزو والاعتداء على سيادة الدول المستقلة والاعتراف بنتائج الحروب المتمثلة في احتلال أقاليم وأراضي الغير وتهجير سكانها وفرض نظم أبارتايد في وجوههم. وليس نفاق الغربيين فيما خص إسرائيل واحتلالها واستيطانها المستمر في الضفة الغربية عن ذلك ببعيد.
بالقطع، ربط الخطاب الرسمي لبوتين وحكومته والمؤسسة العسكرية بين ضم الأقاليم ذات الأغلبية العرقية الروسية إلى الوطن الأم وبين ضرورة أمن قومي ثانية هي الحيلولة دون انضمام أوكرانيا لحلف الناتو ومن ثم منع المزيد من الاقتراب الجغرافي للغربيين من الحدود الروسية. غير أن إبعاد أوكرانيا عن الانضمام للناتو ودفع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا إلى الموافقة عليه ليس بصعوبة انتزاع أقاليم خاضعة للسيادة الأوكرانية المعترف بها دوليا وضمها إلى روسيا. فواقع الأمر أن واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي لا تجمعها سياسة واحدة لجهة ضم كييف للناتو، فبينما يرفض الأوروبيون بوضوح ويشيرون إلى أهمية النظر إلى مقتضيات الأمن القومي الروسي بجدية يواصل الأمريكيون الحديث عن الأمر بأكثر من لسان ويختلفون من ديمقراطيين إلى جمهوريين حوله.
في جميع الأحوال، ليس الوصول إلى حل تفاوضي بشأن انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو بمستحيل. ويمكن تصور وساطة أوروبية ناجحة في مفاوضات سلام تعرض على كييف شيئا من الارتباط التدريجي والمنظم بالاتحاد وتزيح من قائمة أولويات حكومة زيلينسكي الناتو. كما يمكن أيضا تصور إعلان الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن عزمهم مواصلة تسليح وتدريب الجيش الأوكراني دون انضمام إلى الناتو، وكذلك تقديم ضمانات أمنية تتمثل في رفع معدلات التسليح والتدريب حال تجدد الاعتداءات الروسية.
ضم الأقاليم ذات الأغلبية العرقية الروسية وخرق السيادة الأوكرانيين هما المعضلة الكبرى لمفاوضات سلام ناجحة.
ثانيا، تورط الأمريكيون والأوروبيون، ليس فقط في فرض عقوبات واسعة على روسيا، بل في تسليح أوكرانيا على نطاق واسع وسريع وفي رفض فتح المسار التفاوضي مع بوتين وحكومته طوال الشهور الماضية.
رتب التورط الغربي في الحرب والضغط الأمريكي المكثف على الحلفاء الأوروبيين للاشتراك في تقديم السلاح والمساعدات التكنولوجية والاقتصادية والمالية لكييف نجاح الأخيرة في مواجهة الغزو الروسي وقلب الدفة عسكريا خلال الفترة الأخيرة في 2022التي نجح خلالها الجيش الأوكراني في تحرير بعض المناطق في الشمال الشرقي والضغط على الجيش الروسي وإجباره على التراجع. لم يتوقف الدمار الواقع على البنية التحتية ومصادر الطاقة وعذابات السكان بفعل الصواريخ والمسيرات الروسية والهجمات المتكررة على المدن الأوكرانية، غير أن الدعم العسكري الغربي، وهو سيستمر في 2023 بنظام باتريوت الأمريكي الذي وعدت به إدارة جو بايدن والأسلحة الألمانية الإضافية التي وعدت بها برلين، أوصل الوضع بين روسيا وأوكرانيا إلى ما يشبه التوازن العسكري مع شيء من التفوق في الشمال الشرقي لكييف التي تريد تحرير بقية الأراضي المحتلة وتفوق في قدرات التدمير في المدن والبنى التحتية وترويع السكان لموسكو.
يمكن التوازن العسكري حكومة زيلينسكي، وعلى الرغم من تواصل هجمات الصواريخ والمسيرات الروسية، من رفض التفاوض مع موسكو قبل أن تنسحب من الأراضي المحتلة ومن مواصلة مواجهة الجيش الروسي دون خوف من انهيار كامل لأوكرانيا واحتلال لكامل أراضيها. وقد كان ذلك الخوف في أذهان صناع القرار الأوكرانيين والغربيين في الأيام الأولى للحرب. كذلك يسمح التوازن العسكري بين الطرفين لحكومة زيلينسكي من إنتاج خطاب رسمي يقضي بحتمية «النصر» ويقنع الأوكرانيين بصغر المسافة بين ايقاف الجيش الروسي وتحرير بعض المناطق في الشمال الشرقي إلى ايقاف الهجمات الصاروخية (دور منظومة باتريوت) وتحرير كافة الأراضي. وفي خطوة تالية، يطالب الخطاب الرسمي المواطنين وبمقولات وطنية بالصبر واحتمال ويلات ودمار العدوان إلى أن يتحقق الانتصار الكامل.
لذلك بين غرب غير راغب في التفاوض، بما في ذلك الأوروبيون الذين يعانون الأمرين من تراجع إمدادات الغاز الروسي وعلى الرغم من ذلك يرفضون الوساطة وينفتحون على استمرار عسكرة الصراع وسباقات تسلح كارثية، وبين حكومة أوكرانية ترفض التفاوض قبل الانسحاب الروسي مؤيدة بموقف شعبي موال وروح وطنية متصاعدة، يمكن توقع تعثر التفاوض الجاد لإنهاء الحرب.
القدس العربي