نشرت هذه المقتطفات من مذكرات الصحفي الأميركي، فنسنت شيان، في صحيفة “تقرير واشنطن عن شؤون الشرق الأوسط” Washington Report on Middle East Affairs، عدد آذار (مارس) 1992، وعدد نيسان (أبريل)/ أيار (مايو) 1992. ثم أعيد نشرها في العام 2017 كجزء من إعادة نشر مواد مميزة منتخبة من أرشيف الصحيفة.
الصحيفة، المعروفة أيضًا باسم “تقرير واشنطن”، تُنشر ثماني مرات في العام، وتركز على “الأخبار والتحليلات من الشرق الأوسط وحوله والسياسة الأميركية في تلك المنطقة”. وصفتها صحيفة نيويورك تايمز بأنها “تنتقد سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط”. في العام 2005، وصفتها صحيفة “يو إس إيه توداي” بأنها “منشور غير متحزب، ومنتقد لسياسات بوش”. وانتقد ممثلون عن المنظمات المؤيدة لإسرائيل “تقرير واشنطن عن شؤون الشرق الأوسط” باعتبارها صحيفة منحازة للّوبي العربي و”معاديةً لإسرائيل”.
ينشر صحيفة “تقرير واشنطن” الاتحاد التعليمي الأميركي، الذي تأسس في العام 1982 كمؤسسة غير ربحية في العاصمة واشنطن بحكم المنظمة 501 (سي) 4 على يد ضباط متقاعدين من السلك الخارجي، من ضمنهم أندرو كيلغور، الذي كان سفيرًا للولايات المتحدة في قطر عندما تقاعد من الجهاز الخارجي للولايات المتحدة في العام 1980، وريتشارد كورتيس، الرئيس السابق للدائرة العربية في وكالة صوت أميركا، الذي كان كبير مفتشي وكالة الإعلام الأميركية عندما تقاعد من السلك الخارجي للولايات المتحدة أيضاً.
- * *
لسنوات قبل العام 1929 كنت أفكر في القيام برحلة إلى فلسطين. كان لديّ منذ وقت طويل إعجاب مبالغ فيه بالشعب اليهودي، ناجم عن خصائص البصيرة الشعرية، وكثافة الشعور، وسمو الدوافع التي بدت لي متجردة من العمومية التي يتصف بها مَن يسمون بالمسيحيين. كان هذا الموقف نوعًا من معاداة السامية المقلوبة، مثل الرداء المقلوب، التي ربما كانت، على ما أعتقد -نتاجاً للتجربة الاستثنائية التي تعرفتُ خلالها لأول مرة على اليهود عندما كنت طالبا في الجامعة- لكنها كانت، بغض النظر عن طبيعتها، قوية بما يكفي لتجعلني أنجذب نحو اليهود من معارفي والخضوع بشغف للتأثيرات التي لم يتمكنوا (سواء كانوا يرغبون في القيام بذلك أم لا) من التوقف عن إحداثها…
وعلى مستوى أكثر عملية، كنت أؤمن إيمانًا راسخًا بالأطروحة التي اقترحها رومان رولاند (1) بإسهاب في جزء من “جان كريستوف”: أن يهود أوروبا الغربية وأميركا يشكلون الطبقة الدولية الوحيدة من الثقافة التي ينتشر من خلالها كل شيء جيد في الأدب والموسيقا والفن من أمة إلى أخرى، والتي تميل ببطء إلى منح العالم الغربي علاقة أوثق بين أجزائه. كنت، باختصار، مؤيدًا للسامية بالكامل (إذا كانت هناك مثل هذه الكلمة) كما كان بإمكانك أن تجد آخرين في أي مكان… كان الغفران هو ما بدا لي أن المسيحيين يجب أن يطلبوه من اليهود -والشيء الوحيد الذي كان لهم حق في طلبه. وكلما قرأت أكثر عن تاريخ الشعب اليهودي شعرت أكثر بالخجل من سلوك المسيحيين. كانت أدبيات معاداة السامية هراء، تزخر بأفظع الاتهامات التي يمكن للعقول الغارقة في الكراهية فقط أن تخترعها (القتل الطقسي، “بروتوكولات حكماء صهيون”، تآمر اليهود لغزو العالم، إلخ، إلخ).
كانت الأدبيات التي سجلت الحقائق شأنًا مختلفًا تمامًا: قصة عرق مطرود ومضطهد إلى الأبد، محاط بكراهيات خرافية حتى أُجبر على العيش كما يعيش المسافر في رحلة صحراوية، في حالة تأهب ووعي بالموت. وحتى مع تراجع الخرافات في القرن التاسع عشر، عندما أزيلت العوائق القانونية من أمام اليهود في معظم البلدان المتحضرة، بقي نوع من التحيز الاجتماعي، إرث 2000 سنة… في الحقيقة، لم تكن الدوافع التي دفعتني نحو فلسطين في المجمل هي الاهتمام أو الفضول: كان هناك أيضًا عنصر ملموس من التشدد؛ رغبة في توجيه ضربة صغيرة ضد الكراهية العرقية، وللمساعدة، بطريقة أو بأخرى، على محاربة تشويه السمعة الذي يستهدف اليهود.
لم يكن صديقي القديم، هيليل برنشتاين، صهيونيًا هو نفسه، لكنه كان يعرف ما يكفي عن المنظمة الصهيونية ليدرك أنها ترسل أحيانًا كُتابًا إلى فلسطين للمساهمة بمقالات في منشوراتها الخاصة. وكانت فكرة بيرني أنني ربما أحصل على بعض من مثل هذه الاتصالات، وإحراز ما يكفي من التقدم في هذا لجعل إقامتي في فلسطين ممكنة. وأشار إلى أن الصهيونية مسألة جدلية، حتى بين اليهود أنفسهم، وأنه سيكون من الجيد وضع بعض الاشتراطات التعاقدية حولها -أنني لن أكتب دعاية سياسية، وأن تقديم وصف للبلد والمستعمرات الصهيونية ينبعي أن يكون كافيًا…
في موعد قام بترتيبه بيرني، ذهبت لرؤية رئيس تحرير “فلسطين الجديدة” The New Palestine، وهي مطبوعة صهيونية، وأخبرته بما أريد القيام به. اقترحتُ أن أكتب سلسلة من المقالات عن الحياة في المستعمرات اليهودية (كانت خطتي هي العيش كمستعمِر لفترة من الوقت إذا أمكن)، وأن هذه المقالات يجب أن تكون غير مثيرة للجدل وغير سياسية، لأنني لا أستطيع أن ألزم نفسي مُسبقًا بتبني أي موقف معين تجاه الأسئلة الأكبر. وأضفت أنني بقدر ما كنت أعرف المشاكل المطروحة حتى ذلك الحين، فإنني كنت متعاطفًا فعليًا مع الآراء الصهيونية، كما كان حالي منذ سنوات؛ لكنني لا أستطيع أن أضمن آرائي المستقبلية.
”الدعاية لا تفيد”
كان المحرر ودودًا ومهذبًا، ولكن بدا أنه يعتبر صياغته للموقف غير ضرورية. وقال: “لا تقلق بشأن هذا. إننا لا نريد أن يكتب الناس دعاية. الدعاية ليست مفيدة على أي حال. كم تريد؟”.
أسعدتني بساطة التعامل مع الاتفاق. وفي 15 دقيقة فقط تم ترتيب كل شيء…
سحرتني القدس منذ البداية… كانت المدينة جميلة، خاصة عندما يُنظر إليها من فوق -مدينة مثل جوهرة صغيرة، وقد اصطفت الأسطح والقباب البيضاء بنظام على سلسلة من المرتفعات والمنخفضات تحت سماء صافية بشكل مذهل. في النهار كانت السماء تضج بالزرقة. وبحلول الليل تكون صافية جدًا حتى أن النجوم تبدو قريبة في متناول اليد. كانت “التكية النمساوية”(2) حيث أقمت عميقة الجدران، هادئة وباردة في الأيام الأكثر سخونة، وساكنة مسالمة في خضم الاضطرابات. كان هناك مسجد خلفها مباشرة، وكان نداء المؤذن يوقظني في ساعات روحانية حتى اعتدت عليه. وفي الواقع، كانت المساجد في كل مكان، وكان أذان الإسلام يتخلل الهواء الساكن في المساء بحيث بالكاد استطعت رؤية صورة لأسطح القدس بعد ذلك من دون سماع نداءات المؤذن الطويلة كجزء منها.
ربما كان هذا هو الانطباع الأول الذي تلقيته عن القدس المسورة في الأيام الأولى: أنها مدينة عربية. كانت عربية مثلما هي القاهرة أو بغداد، وكان اليهود الصهاينة (أي اليهود المعاصرون) غرباء عنها بقدر ما كنت أنا. كنتُ أتوقع هذا بالطبع. كنت أعرف أن البلدة القديمة لم تتغير، وأن العدد الأكبر من السكان الصهاينة في القدس (غالبيتهم فعليًا) يعيشون في أحياء جديدة خارج الأسوار، وأن فلسطين ما تزال في أغلبها بلدًا عربيًا. لكن الحقيقة على الورق لا يكون لها التأثير نفسه الذي ينطوي عليه تجسدها المادي. وقد منحني يومان من الإقامة في القدس تصورًا أوضح للحقيقة مما كان يمكن تحصيله من مجلد من الإحصاءات. كان لدي ما يكفي من الخبرة السياسية لأدرك أن مثل هذه الأشياء يجب أن تحدد الشعور والعمل، ومنذ يومي الثاني أو الثالث في القدس بدأت أتساءل عما إذا كان كل شيء بين العرب واليهود على ما يُرام كما دُفعتُ إلى الاعتقاد سابقًا. لم أكن أعرف شيئًا؛ ولكن بوسع أي شخص أن يرى، في نصف ساعة، أن العناصر المادية للصراع حاضرة بوضوح…
عندما جئت إلى القدس كان البريطانيون يملكون المدينة منذ أكثر من 10 سنوات. كان الانتداب على فلسطين، الذي من المقرر أن تدير بريطانيا بموجبه البلاد كأمانة من أجل إنشاء وطن قومي لليهود، يعمل منذ سبع سنوات، لكن سياسة الهجرة الصهيونية كانت تحرز تقدمًا ببطء، بحيث أنه بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى البلاد لم يعد هناك 10 عرب مقابل كل يهودي، وإنما حوالي ستة فقط -كانت الأرقام المعطاة تقريبًا هي 750.000 عربي إلى 150.000 يهودي.
لمدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع بذلت قصارى جهدي لتجنب علامات المتاعب… استوعبتُ ما استطعت، واستمعت إلى الجميع، وكتبت (حول هذا الموضوع، أعني) لا شيء. لم تكن لدي أي نية لكتابة كلمة عن البلد حتى يكون لدي ما لا يقل عن ثلاثة أو أربعة أشهر من المشاهدة. ولم يكن بوسعي أن أتوقع مدى الإثارة التي ستنطوي عليها تلك الأشهر الثلاثة أو الأربعة.
كان فقط في 9 تموز (يوليو)، حين تعرضت لأول هزة خفيفة. أعلنت صحيفة عربية في ذلك اليوم أنني جئت إلى فلسطين، وأضافت، محقة، أنني كنتُ مأجورًا لدى اليهود.
وكانت هناك تعليقات أخرى، لكن هذا هو التعليق الذي شد انتباهي وتأملته بعناية. هل كنت أتقاضى أجرًا من اليهود أم لا؟ إذا لم أكن أفعل، فلماذا جعلني البيان أغضب؟ وإذا كنت كذلك، فماذا إذن؟ واستغرق الأمر مني حوالي نصف ساعة لأرى أنه يجب علي أن أحسم أمري، إما بأن أكون، كما قالت الصحيفة العربية، “مأجورًا لدى اليهود”، وأن أقبل بأي تعليق قد يأتي حول هذا الموضوع، أو أن أقطع علاقتي بالصهاينة تمامًا وأذهب في طريقي الخاص.
تسجل مفكرة يومياتي (التي كانت تظل ممتلئة جدًا، ممتلئة للغاية، في فلسطين) النتائج في يوم الخميس، 11 تموز (يوليو)، بهذه الكلمات:
”… على الرغم من أنني قلت دائمًا إنني لن أسمح بالتأثير على آرائي، كيف يمكنني أن أتأكد؟ بعد كل شيء، لقد أخذت بالفعل سلفة قدرها 500 دولار وأتوقع 1.500 دولار إضافية! كل هذا يظهر تحت ضوء مختلف تمامًا هنا. قررت أخيرًا أنني لا أستطيع أن أفعل هذا. كتبتُ إلى ويسغال، في نيويورك أو في زيورخ، وأخبرته بأنني لا أريد المزيد من المال ولا أريد أن يكون لي أي انخراط مع أي فرع تابع للمؤسسة الصهيونية. وأوضحت أنه يجب علي أكتب وأتحدث كما يحلو لي. وقد خفف هذا من توتر مشاعري إلى حد ما، على الرغم من أن الله وحده يعلم كيف سأتدبر أمري من دون هذا المال. والأسوأ من ذلك هو أنني إذا لم أتمكن من كتابة بضع مقالات تناسب أفكار الصهاينة، فسوف أضطر إلى إعادة الخمسمائة دولار التي تلقيتها مُسبقاً…”.
في غضون ثلاثة أسابيع كنت قد ولّدتُ بالفعل شكوكًا جدية حول حكمة السياسة الصهيونية. كنت ما أزال لا أعرف شيئًا عن عرب فلسطين، لكنني كنت أراهم في كل مكان من حولي، وإذا كانت تجربتي الطويلة في الصحافة السياسية قد علمتني أي شيء، فهو أن أي شعب لا يحب أن يهيمن عليه شعب آخر أو يتدخل فيه في وطنه الخاص. وبدت لي هذه الأشياء واضحة، بما لا يقبل الجدل. كان ما أردت أن أسمعه هو ما يفعله الصهاينة… لقد اتخذَت تعليقاتهم على العرب شكلاً بدا لي غبيًا دائمًا، في فلسطين أو في أي مكان آخر: شكل التقليل من شأن الخصم. سيقول لك صهيونيك العادي، بالكثير من الكلمات: “ليس علينا أن نقلق بشأن العرب. سوف يفعلون أي شيء مقابل المال”. ولم أكن أعرف أي عرب فلسطينيين، ولكن ما لم يكونوا مختلفين تمامًا عن العرب الذين عرفتهم في المغرب والعراق وبلاد فارس، فإن هذه لا يمكن أن تكون الحقيقة…
بينما أتعقب، بمساعدة مذكراتي القديمة، الخطوات التي غيرتُ بها آرائي الأولى حول التجربة الصهيونية، فإنني أرى أن الأمر قدَّم نفسه لي كل الوقت كمشكلة عملية. كانت الخطوات صغيرة، كل واحدة منها تحددها حقيقة معينة. للحصول على أفكار أكبر -للتمكن من النظر في ما قد يعنيه الأمر برمته- كان علي أن أنتظر حتى أترك فلسطين ورائي؛ لم يكن من الممكن تحقيق “رؤية بعيدة” في ذلك البلد المكلوم. كنت قد وصلت في 25 حزيران (يونيو) بتعاطف حقيقي، مهما كان جاهلاً أو رومانسيًا، مع الجهد الصهيوني. وبين 25 حزيران (يونيو) و9 تموز (يوليو)، أصبحت منزعجًا من التكوين المادي للمشكلة، من مشهد وصوت البلد العربي الذي تبذل فيه الصهيونية جهدها. في 9 تموز (يوليو) تلقيت هزة ذات طبيعة شخصية، قطعت نتيجة لها علاقتي مع الصهاينة واستأنفت حريتي: كل هذا من دون أن أنقلب بوعي ضد الفكرة الصهيونية. وخلال الأسبوع التالي ذهبت إلى تل أبيب والمستعمرات، وتحدثت، وتحدثت، وتحدثت، واستمعت أكثر. رأيت جزرًا يهودية في بحر عربي: هذا ما رأيته. وعلى العموم، بدا لي التجاهل اليهودي للعرب (من وجهة نظرهم الخاصة) محفوفًا بالمخاطر إلى أقصى الحدود. لم أستطع أن أصدق أن عرب فلسطين كانوا مختلفين جدًا عن العرب الآخرين لدرجة أنهم سيرحبون بمحاولة إنشاء دولة يهودية في بلدهم.
وهكذا، بعد 17 تموز (يوليو) حاولت أن أعرف كيف هُم عرب فلسطين. بقيت على اتصال مع الصهاينة، وزرت تل أبيب، وواصلت قراءة الأدب الصهيوني والتحدث إلى الأصدقاء الصهاينة. لكنني لم أعد أحاول تجاهل حقيقة أن فلسطين هي، بالأغلبية الساحقة من سكانها، بلد عربي. بدا لي من المهم أن أحدد بنفسي ما الروابط القائمة بين هؤلاء السكان والأرض التي يسكنونها. إذا كانت الروابط ضئيلة -لو كان عرب فلسطين مجرد واضعي يد لمدة 13 قرنًا- لكان من الممكن للصهاينة، عن طريق الشراء، والإقناع والضغط، إخراج العرب عاجلاً أم آجلاً من البلد وتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود. وكان الصهاينة قد أشاروا، في المحادثة والكتابة، إلى أن هناك الكثير من العرب والكثير من المناطق التي يمكن للفلسطينيين الذهاب إليها حول كل فلسطين: سورية، والعراق، وشرق الأردن والصحراء العربية كلها دول عربية. فما الذي يربط عرب فلسطين بفلسطين؟
كانت معرفتي بالعالم العربي بشكل عام تشير إلى أن الإجابة ستكون موجودة في الشعور الديني الإسلامي… لم أكن أعرف مسلمًا لم ينظر إلى المبادئ المركزية للعقيدة الإسلامية بتفان شديد وحصري. كان علي أن أجد العلاقة الدينية بين العرب وفلسطين -ووجدتها، بطبيعة الحال، على بعد خمس دقائق سيرًا على الأقدام من “التكيّة النمساوية”، في الحرم الشريف.
الحرم الشريف
كان الحرم الشريف، الذي يحتل “منطقة الهيكل” التقليدية لليهود، أحد الأماكن المقدسة العظيمة في الإسلام، حيث يأتي في المرتبة الثالثة مباشرة بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة. كما أنه يحتوي، كما اكتشفت وبما أسعدني، على واحد من أجمل المباني في العالم. ذهبت إلى هناك أولاً يوم الخميس 18 تموز (يوليو). وفي ذلك الوقت والأيام التالية، واجهت صعوبة كبيرة في تجاوز المبنى الرائع الوحيد، قبة الصخرة. وبنيت قبة الصخرة فوق الصخرة السوداء العظيمة لتضحية إبراهيم، التي كانت تدعم ذات مرة “مذبح القرابين المحروقة” في “هيكل سليمان”…
قبة الصخرة (التي يطلق عليها المسيحيون الغربيون عادة اسم “مسجد عمر” بسبب الاعتقاد الخاطئ بأن الذي بناها هو عمر الفاتح) لم يكن يزورها اليهود الأرثوذكس لأنهم كانوا يعتبرونها أقدس جزء من هيكلهم، وكانوا يخشون أن يدوسوا عن غير قصد على قدس أقداسهم. لكن الصهاينة -الذين كان معظمهم، حسب تجربتي، من دون أي شعور ديني- اعتادوا زيارتها كما فعلتُ أنا، من منطلق الاهتمام الجمالي العادي. ولم يكن لدى المسلمين أي اعتراض على مثل هذه الزيارات. في هذا الصدد وفي جوانب أخرى، بدا مسلمو فلسطين أقل غيرة على أماكنهم المقدسة من المسلمين في أماكن أخرى. لم يُسمح لي أبدًا بدخول مسجد كبير في المغرب أو بلاد فارس، لكن الحرم الشريف، وهو مكان أقدس بكثير للعالم الإسلامي، كان مفتوحًا لي أو لأي شخص آخر طوال اليوم.
تمدد الأهمية عبر الزمن
ينطبق الشيء نفسه على المسجد الأقصى الذي كان في يوم من الأيام كنيسة مسيحية، والذي يشكل أحد الأجزاء الأخرى للحرم. وسيكون من باب الحقيقة تمامًا القول إنه تم التعامل مع الحرم الشريف (جبل الهيكل، أو المعبد، الملاذ المقدس)، على الرغم من التقاليد الدينية التي جعلته واحدًا من أقدس ثلاثة أماكن في الإسلام، كنصب عام، مثل القديس بطرس في روما أو كنيسة القيامة في القدس. وكلما عرفتُ أكثر عن تقاليد المكان، فوجئت أكثر بهذا الواقع. لم يكتف النبي محمد بزيارة المكان ليلاً (حيث انتقل بأعجوبة من مكة)، وصعد منه إلى السماء من صخرة إبراهيم، ولكنه سيأتي إلى هناك مرة أخرى يوم القيامة، عندما يحرس النبي عيسى والنبي محمد نهايات الجسر عبر وادي يهوشافاط. هذه المعتقدات وغيرها، بعضها تأسس على القرآن وبعضها مجرد فولكلور، أحاطت المكان بأهمية تمتد عبر الزمن من بدايات الدين اليهودي- المسيحي- الإسلامي إلى اللحظة الأخيرة التي تم فيها تأمل الوجود الأرضي في فلسفته. ومع ذلك، بما أن المرء يخلع حذاءه، فلا بأس من قضاء يوم بعد يوم في المكان، وحتى تصويره.
ولما كان الأمر كذلك، كان من الممكن، في البداية، افتراض أن مسلمي فلسطين لم ينظروا إلى أقدس أقداسمهم بالعاطفة الدينية المتطرفة التي تميز بها المسلمون في أماكن أخرى. وقد توافق هذا الافتراض مع الفكرة الصهيونية القائلة إن عرب فلسطين هم بشكل عام أناس مهمِلون وسهلو القياد. ولكنْ كانت لدي شكوك قوية، بالمقدار نفسه… بدا لي أكثر احتمالاً أن ما حدث مع الحرم الشريف كان بسبب الطابع المتأثر بالغرب للحياة في القدس: لقد وقع هذا المكان تحت العديد من أنواع الحكم المختلفة، وشهد هذا المزيج من الغزوات وهذا الاستيعاب للثقافات لدرجة أن قادته المسلمين تأثروا بالذوق والأخلاق الغربية حتى أنهم سمحوا بفتح حرمهم العظيم لزيارات الكفار. ولم أعتقد أن هناك تحت هذه المسحة الأوروبية للذوق والأخلاق أي تهاون أو تراخٍ في الحماس والغيرة والحمية نفسها التي ينظر بها المسلمون في كل مكان إلى مكان قدّسه النبي نفسه.
كان من شأن هذه الاعتبارات -في معزل عن المشاكل الراهنة، وعن “الحوادث” التي تملأ الصحف كل أسبوع بشأن هذا الموضوع- أن تقودني على أي حال إلى دراسة مسألة “حائط المبكى”. (يُتبع) - الغد