تستعد الحرب الروسية على أوكرانيا لدخول عامها الثاني، ولا يبدو أن الأفق سانح للحلول السياسية هذا الشتاء. بل إن أكثر المؤشرات تظهر أن التوتر يتصاعد، والصراع يحتدم، والحرب طويلة الأمد. في الوقت نفسه تداعيات الحرب على القارة الأوروبية ككل وعلى الداخل الروسي وعلى العالم بأسره تزيد. إلى أين يمكن أن تصل هذه التداعيات؟ وهل يبقى الصراع محصورا في رقعته الحالية؟ يكذب من يقول لك إنه يمكنه استشراف ذلك بوضوح الآن. هذه حال غير مسبوقة عالمياً، وفي خلفيتها ثمانية أعوام من الشلل المطبق في مجلس الأمن الدولي، وبالتالي على صعيد النظام الدولي. روسيا، وإن كانت أضعف بكثير من الاتحاد السوفييتي في أيام الحرب الباردة، لكن حرب الغزو والضم والتعثر التي تخوضها ضد أوكرانيا هي أخطر على السلامين الأوروبي والعالمي من اللحظات الأكثر حرجاً وتصادمية أيام الحرب الباردة.
ما هو واضح الآن أنه ليس هناك من عقل بعد قادر على وقف الحرب التدميرية الحالية. وفي الوقت نفسه فاتورة روسيا في هذه الحرب ترتفع دون أن يجرها ذلك قيد أنملة لمراجعة أو حتى تليين موقفها. لا العقوبات الاقتصادية والمالية جعلتها تراجع خياراتها العسكرية، ولا النتيجة المخيبة لقطاعاتها العسكرية نفسها على جبهة القتال تجعلها في عجلة من الأمر لأجل البحث عن تسوية سياسية. وأكثر، في الوقت الراهن، طرفا النزاع المباشران لا يبحثان عن تسوية سياسية عاجلة؛ الروس لاعتقادهم بأنه الجنرال «وقت» هو من بمستطاعه التعويض عن الفجوات في قطاعاتهم العسكرية المختلفة تباعاً، والأوكران لاعتقادهم بأن مسلسل الخيبات الروسية سيطول كلما امتدت الحرب.
لا تزال موسكو تتعامل مع المواجهة على أنها قصة حياة أو موت لروسيا ككل ولا مجال للتراجع في المواجهة حتى ولو لم يكن ثمة مجال لتحقيق مكاسب ملموسة. لا يلغي ذلك أن الخسائر التي يمنى بها الجيش الروسي على جبهات القتال ما عاد بالمتسع تحجيمها أو التقليل من فداحتها بالنسبة إلى الداخل الروسي. ويأتي عدد قتلى الجيش الروسي الكبير في ماكيفكا بصواريخ أنظمة هيماريس الأوكرانية الأمريكية الصنع ليلة رأس السنة ليظهر من جهة، زيادة منسوب الدعم الأمريكي والغربي العسكري لكييف، وانتقال الذهنية القتالية في كييف من الدفاع إلى الهجوم المضاد بشكل أكثر تصميماً يوماً بعد يوم. ويظهر أن ثمة موقفا شعبيا روسيا مستاء أكثر فأكثر من ارتفاع كلفة الحرب الدموية ومن أداء الجيش ولو ما زال مبكراً التأطير السياسي لهذا الموقف لوجود قناعة لا تزال قوية بأن أي تراجع لموسكو يعني انتقال الأزمة الحادة إلى الداخل الروسي نفسه. بالتوازي، الإعلام الروسي وإن كان يخفف عدد القتلى من جنوده نسبة لما يبثه الإعلام الأوكراني، إلا أنه يتوقف ملياً أمام قصف ماكيفكا وسواها، كي يعطي مسوغات إضافية للهجمات الروسية ضد البنية التحتية في أوكرانيا، كما لإسباغ الحرب أكثر فأكثر بالصبغة الوجودية المصيرية. في المقابل، الأداء الغربي يختلف عن زمن الحرب الباردة. أيامها، كانت دعاية الغربيين تنصح مواطني الدول الاشتراكية بالتحرر من أنظمتهم وتبني النظام السياسي والاجتماعي المعمول به غرباً. الآن ما هو «العرض» المقدم لمواطني روسيا الاتحادية؟ هنا الدعاية البوتينية تجيب بأن الغرب يعمل على تدمير روسيا نفسها. وحتى الآن لم يعط الجهد الكافي للرد على هذه المسألة بشكل يمكن أن يلتقطه الشارع الروسي المستاء من أكلاف الحرب دون أن تثمر فيه بعد دعوات ناشطة على نحو واسع من أجل السلام.
القدس العربي