مع بداية العام الجديد تزداد حدة الاستقطاب السياسي في الشرق الأوسط، وتتجه محركات القوة إلى العمل في اتجاهات متعارضة، كما أن فشل دول المنطقة في حل أزماتها المتراكمة منذ سنوات طويلة، يغذي الاتجاه إلى طلب الحلول لمشكلاتها
وأزماتها خارج حدود المنطقة وليس داخلها. هذه الملامح التي تكسو التطورات السياسية في الشرق الأوسط من شأنها ترسيخ حالة «اللانظام الإقليمي» واستمرار الاستقطابات. ولا يبدو أن هذه الحالة ستنزاح قريبا، إلا مع توفر عاملين أساسيين، الأول هو وجود قيادة إقليمية، وهي غير موجودة عمليا، بصرف النظر عن طموحات بعض القوى. والثاني هو أن تعمل محركات القوة الداخلية في اتجاه خلق التوافق لإقامة نظام منسجم مع نفسه، وليس في اتجاهات تؤدي لتعميق التنافر والانقسام. العامل الأول، القيادة، هو أهم عوامل تشكيل نظام إقليمي جديد، ومن دونه لا يوجد نظام وتستمر حالة الخلل واللانظام. أما العامل الثاني فإنه أساس استقرار أي نظام إقليمي، ومن دونه يرتبك النظام القائم، ثم يختل ويدخل إلى مرحلة التحلل.
ولا يشترط أن تكون القيادة في النظام الإقليمي أو العالمي منفردة، بل إن النمط الأكثر شيوعا في العلاقات الدولية يميل إلى تغليب نمط القيادة المتعددة الأطراف أو الثنائية. وكانت القيادة الثنائية هي النمط الذي ساد في العلاقات الدولية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي)، وهو النمط الذي ساد أيضا في العالم العربي، خلال الفترة الممتدة من حرب يونيو 1967 وحتى توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 (مصر والسعودية). وتمثل أزمة القيادة واحدا من أهم أسباب اضطراب النظام العالمي في الوقت الحاضر، كما يقول هنري كيسنجر. واشتقاقا من ذلك نقول، إن أزمة القيادة في الشرق الأوسط تمثل أهم أركان استمرار حالة اللانظام الإقليمي في المنطقة.
من يطلب القيادة بلا قوة لا ينالها، لكن امتلاك القوة لا يبرر حرية استخدامها لطلب النفوذ، أو فرضها بالإكراه؛ فاستخدام القوة محكوم بنسق من القواعد والمعايير
ولا ينعقد لواء القيادة لقوة من القوى بالتمني، ولكن «تؤخذ الدنيا غلابا»، كما يقول أمير الشعراء أحمد شوقي. وكانت الغلبة في معظم الأزمان تتحقق بالقوة الخشنة. لكن تنوع مصادر القوة، فتح طرقا أخرى لها، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أبدا تجاهل مقومات القوة الخشنة، ومن الضروري البدء أولا بعملية «صناعة القوة الشاملة»، التي تتضمن مقومات القوة الخشنة والقوة الناعمة جنبا إلى جنب. ومن يطلب القيادة بلا قوة لا ينالها، لكن امتلاك القوة لا يبرر حرية استخدامها لطلب النفوذ، أو فرضها بالإكراه؛ فاستخدام القوة محكوم بنسق من القواعد والمعايير، أولها أن يكون استخدام القوة مقبولا من الآخرين. ولا يكون استخدام القوة مقبولا لمجرد القدرة على فرضها، فذلك يؤدي إلى مقاومة، ثم إلى نتائج عكسية، ثم إلى اضمحلال القوة وانهيار النفوذ. وقد حمل العام الجديد معه من الأنباء ما يثير قدرا كبيرا من القلق على الحالة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط، وهي أكثر مناطق العالم انكشافا لصراعات القوى، التي تشتبك فيها أطراف خارجية، كما إنها أيضا من أكثر مناطق العالم ازدحاما بعناصر الصراعات المحلية والداخلية. وبسبب ضعف محركات القوة الداخلية، وكثرة النزاعات، واشتباك مصالح الأصدقاء والخصوم في مسار وقائع الحياة اليومية، فإن عملية تسوية أو حل النزاعات القائمة، تتوقف على تدخل قوى خارجية، سواء بالتوافق على اقتسام النفوذ، كما فعلت بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى وتصفية نفوذ الدولة العثمانية، أو كما فعلت الولايات المتحدة بعد انسحاب بريطانيا من شرق السويس، وتصفية نفوذ الاتحاد السوفييتي إلى حد كبير بعد حرب أكتوبر 1973. وما تزال المنطقة حتى الآن تبحث عن حلول لمشكلاتها وأزماتها خارج حدودها، لكن «عصر الاضطراب العالمي» أو الارتباك في النظام العالمي الراهن، لا يسمح لها، ولا يساعدها، على إدراك هذه الحلول منذ بداية القرن الحالي تقريبا. ومن ثم فإن المنطقة التي تلعق جراحها، تجد نفسها مضطرة إلى ترحيل مشاكلها من عام إلى آخر، وسط عجز فادح عن إنتاج حلول إقليمية لها. على سبيل المثال: يحاول العرب تسيير الصراع العربي – الإسرائيلي في طريق «إدارة القضية الفلسطينية» وليس حلها. وفي المقابل فإن إسرائيل تتبنى طريقا معاكسا، يحاول إجهاضها تماما، بإعادة تقديمها للعالم على أنها «خلافات على أراض متنازع عليها مع السكان الفلسطينيين». وعلى الرغم من أن إسرائيل نجحت على مدى 15 عاما على الأقل في إقامة «معسكر» تابع لها داخل العالم العربي، تسعى من خلاله إلى فك العلاقة بين ما كان يسمى «الصراع العربي- الإسرائيلي»، وما تسميه هي «الخلافات مع الفلسطينيين بشأن أراض متنازع عليها»؛ فإن هذا المعسكر الموالي، لا يوفر لإسرائيل حتى الآن مشروعية لتبرير الاحتلال، وتوسيع الاستيطان وقهر الشعب الفلسطيني بالقوة. وفي المقابل فإن «دولة فلسطين» حققت «نصرا في الأمم المتحدة»، بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى المحكمة الدولية للحصول على «فتوى قانونية» توضح الوضع القانوني لقوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، وما إذا كانت هذه القوات تخضع لقواعد اتفاقيات جنيف الدولية، بشأن مسؤوليات سلطة الاحتلال تجاه الأرض والسكان في المناطق المحتلة. لكن صدور فتوى لصالح الفلسطينيين لن يغير الحقائق على الأرض، التي ستزداد سوءا مع سلطة «حكومة طالبان اليهودية» في إسرائيل.
وهناك أمثلة أخرى كثيرة، تقدم الأدلة الكافية على ترسيخ حالة «اللانظام الإقليمي» في الشرق الأوسط، وارتكان القوى الإقليمية بشكل عام إلى طلب الحلول لأزماتها خارج المنطقة وليس داخلها. وإذا أردنا اختصار الصورة في لقطات سريعة جدا، فإننا نشير إلى أن طلب الحلول للأزمة السورية (سياسيا وعسكريا) يتم عبر موسكو، وأن طلب الحلول للأزمة اليمنية يتم عبر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وأن طلب الحلول للأزمة الليبية يتم عبر برلين وروما، وأن طلب الحلول للأزمة السياسية في تونس يتم عبر فرنسا، وأن طلب الحلول للازمة السياسية في السودان يتم عبر بريطانيا والولايات المتحدة. ومع ذلك فإننا لا نستطيع تجاهل أن بعض القوى الإقليمية أصبحت تملك أوراقا ومصادر للقوة تجعلها لاعبا قادرا على «إفساد اللعبة» إقليميا إذا أرادت. ومن الأمثلة على ذلك دور تركيا في ليبيا، ودور إيران في لبنان واليمن والعراق وسوريا. ويحمل العام الحالي زيادة في نشاط ثلاثة محركات جديدة للقوة، سوف تسهم إلى حد كبير في تشكيل ملامح النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط، وهو نظام وإن كان لم يتشكل بعد، فإن ملامحه تتشكل ببطء في بطن حالة اللانظام الإقليمي الحالي. هذه المحركات الثلاثة هي أولا، صعود القوة السعودية، مع التركيز على عملية صناعة القوة المحلية، وتطوير النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، واتباع دبلوماسية ذكية تجاه العالم. وثانيا، اتجاه الولايات المتحدة نحو القبول بفكرة «التعايش مع إيران نووية». وثالثا، انحسار الدور الإقليمي لإسرائيل، مع زيادة انقساماتها الداخلية، وتراجع نفوذ معسكرها الخليجي، وانخفاض مستوى التعاطف معها في أوروبا والولايات المتحدة. ومن الضروري أن نلفت النظر هنا إلى أن كل واحد من هذه المحركات الثلاثة ليس قائما بذاته أو منفصلا عن غيره، وإنما توجد علاقات تفاعل ديناميكية بين كل منها وفيما بينها جميعا. كذلك فإن صعود القوة السعودية، أو التعايش الأمريكي مع «إيران نووية»، أو انحسار الدور الإقليمي لإسرائيل، يرتبط كل منها بكثير من محركات القوة الأخرى على النطاق العالمي، خصوصا مع محركات القوة في الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والدول الجيوقتصادية الصاعدة في العالم، مثل الهند وجنوب افريقيا والبرازيل. إن نظرة محلقة من بعيد على آفاق التغيرات الجارية إقليميا، تضع الدبلوماسية السعودية على وجه التحديد أمام اختبار حاسم في شأن تجاوز حالة «اللانظام» الإقليمي، وبناء مقومات نظام إقليمي جديد، يكون قادرا على التفاعل مع التغيرات الجارية على المستويين العالمي والإقليمي. وقد التقط بنيامين نتنياهو بذكاء طرف الخيط من الاتجاه النقيض، بقوله إنه يسعى إلى تركيز سياسته الإقليمية على إقامة تطبيع مع السعودية، وتعميق التطبيع مع العالم العربي، وتأكيده على أن نجاحه في ذلك يعني عمليا إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي للأبد. استنتاجات نتنياهو صحيحة، إلى حد كبير، لكن السعودية في هذه الحالة ستفقد أهمية محركات صعود قوتها الإقليمية والعالمية، لتتحول إلى مجرد قناة من قنوات الإمداد، التي تغذي القوة الإسرائيلية، وهو الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه دولة الإمارات. السيناريو الذي يطرحه نتنياهو ضمنا، هو سيناريو تقسيم المنطقة بين قطبين، وتنصيب إسرائيل في موقع «قيادة التحالف السني» في مواجهة معسكر إيران «الشيعي»، وحرمان القوة السعودية من الصعود.
القدس العربي