تنظيم «الدولة الإسلامية» الجديد ما هو إلا تنظيم «الدولة الإسلامية» القديم

تنظيم «الدولة الإسلامية» الجديد ما هو إلا تنظيم «الدولة الإسلامية» القديم

ParisISISTerrorBulletRTS754X-198x132

أظهرت الهجمات الأخيرة في باريس وبيروت وشرم الشيخ لقادة العالم أنهم يواجهون مشكلة خطيرة: فإذا كان تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية» محصوراً على ما يبدو ضمن سوريا والعراق سابقاً، فقد أثبتت الهجمات الأخيرة عكس ذلك تماماً، إذ تستطيع الجماعة تنفيذ عمليات خارجية حتى مع انحسار الأراضي الخاضعة لسيطرتها. وقد ولدت هذه الهجمات نقاشاً في غاية الأهمية حول ما إذا كان ذلك تحولاً استراتيجياً قام به تنظيم «الدولة الإسلامية» في الآونة الأخيرة للتركيز بصورة أكثر على الإرهاب في الخارج، أو أنه بالأحرى سلسلة من الانتصارات التكتيكية التي تمثل ذروة لاستراتيجية وضعها التنظيم منذ وقت طويل.

ووفقاً لأولئك الذين يعتبرون أن الهجمات الأخيرة تشير إلى تحول استراتيجي، قرر تنظيم «الدولة الإسلامية» تخصيص المزيد من الموارد للعمليات الإرهابية في الخارج، نتيجة لفقدانه الأراضي. ووفقاً لهذه الحجة، بما أنه يتعذر على الجماعة إحراز تقدم على أرض المعركة بفعل خسارة الأراضي، فهي تحتاج إلى التركيز بصورة أكثر على الإرهاب العالمي للمحافظة على سمعتها وتدفق مجنديها. وتُعتبر هذه الحجة منطقية، لا سيما على ضوء الهزائم التي تكبدها مؤخراً تنظيم «الدولة الإسلامية» في سنجار وشمال سوريا، ولكن هناك عوامل أخرى تشير إلى أن النجاحات التي حققتها الجماعة مؤخراً في الخارج تشكل جزءاً من جهود عالمية كان قد بدأها التنظيم قبل تقلص حجم دولته المزعومة بوقت طويل.

ولم تكن اعتداءات 13 تشرين الثاني/نوفمبر في باريس المرة الأولى التي حاول فيها مناصرو تنظيم «الدولة الإسلامية» أو أتباعه استهداف الدول الغربية. وفي الواقع، تم إحباط سلسلة من المخططات النشطة للتنظيم في كافة أنحاء أوروبا في العام الماضي، كان من المفترض تنفيذها بينما كانت الجماعة تحقق أهم مكاسبها من ناحية الاستيلاء على الأراضي. وقد ارتبط اسم العقل المدبر لاعتداءات باريس،عبد الحميد أباعود، بمخطط آخر تم إحباطه في بلجيكا على يد الشرطة البلجيكية في كانون الثاني/يناير من هذا العام، وكان على اتصال بخلايا أخرى متطرفة في أوروبا. وحتى أن مسؤولين أوروبيين أشاروا أن مخطط بلجيكا في كانون الثاني/يناير يُحتمل أنه كان بتوجيه من قيادة تنظيم «الدولة الإسلامية». ولو قُدِّر للمخطط النجاح، لكان الهجوم قد تزامن مع تقدم مهم للجماعة على الأرض في سوريا والعراق. وتجدر الإشارة إلى أن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون صرح الأسبوع الماضي أن الأجهزة الأمنية البريطانية قد أحبطت سبعة مخططات محلية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية». وقد كُشفت محاولات أخرى في إسبانبا وإيطاليا، كما تمكنت الولايات المتحدة من إحباط عدة مخططات.

ولا بد من الإشارة إلى أنه مقابل كل مخطط محبط تمت تغطيته إعلامياً، من المحتمل أن تكون هناك حوادث أخرى لم يتم التبليغ عنها، نظراً لخشية الحكومات من أن تخلق الذعر في صفوف مواطنيها. وبالطبع، تقوم بعض هذه المخططات على عمل أفراد معينين ملهَمين، وليست منبثقة عن قيادة تنظيم «الدولة الإسلامية». بيد، كانت بعض العمليات الإرهابية المخططة مرتبطة بشكل واضح بعناصر التنظيم في سوريا، كما هو الحال مع مخطط بلجيكا.

وهناك شيء آخر يجدر ذكره وهو أن التخطيط لهذه الهجمات وتنفيذها، على غرار الاعتداءات الأخيرة في باريس، يستغرقان وقتاً. وما زالت تفاصيل كثيرة مجهولة حول هجمات باريس، ولكن ما هو معروف أن ثلاث فرق، مؤلفة من حوالي ثمانية مهاجمين، نسقت الهجمات في ستة مواقع في باريس. ويبدو أن ستة من المهاجمين أمضوا وقتاً في سوريا، واستخدموا أسلحة أوتوماتيكية وأحزمة ناسفة من صنع أخصائيين محترفين. كما استأجر المهاجمون ورفاقهم ثلاثة مخابئ مختلفة في باريس، وحرصوا على بقائهم على اتصال مع بعضهم البعض أثناء وجودهم في المدينة. ومثل هذا الهجوم المعقد يستغرق بعض الوقت ولا يمكن التخطيط له في أعقاب خسارة الأراضي التي تكبدها التنظيم في الأشهر الأخيرة.

أولاً، إن تشكيل الفريق المناسب من العناصر وإرسالهم من سوريا إلى أوروبا بشكل خفي يستغرق وقتاً. كما أن التحضيرات اللوجستية، التي حصلت في بلجيكا وفقاً لبعض التقارير، تتطلب الموارد والوقت. ويشمل ذلك الحصول على المتفجرات والأسلحة وتجميع السترات الواقية وإيجاد أسهل الطرق وأسرعها للدخول إلى فرنسا من دون إثارة الشبهات. وإذا افترضنا أن لدى الفريق أتباع في فرنسا، فقد احتاج هؤلاء أيضاً إلى جمع الاستخبارات المتعلقة بالأهداف، من خلال دراسة مستوى الأمن في تلك الأماكن واكتشاف ساعات الذروة فيها. ولا بد أن تكون العناصر قد اضطرت إلى إيجاد شقة يمكن استخدامها كملاذ آمن من أجل التخطيط للاعتداء.

وجميع هذه الأمور تستغرق وقتاً، وهذا يعني أنه إذا صدر أمر عن قيادة تنظيم «الدولة الإسلامية» بتنفيذ اعتداء في أوروبا، لكان قد تم ذلك منذ زمن بعيد. على سبيل المثال، احتاجت اعتداءات مومباي عام 2008، والتي أفاد بعض المحللين أنها كانت مصدر وحي لمنفذي اعتداءات باريس، أكثر من عام للتخطيط لها وتنفيذها.

ولطالما أعلن تنظيم «الدولة الإسلامية» أنه سيستهدف الغرب. ففي كانون الثاني/يناير الماضي، وجه الناطق باسم الجماعة، أبو محمد العدناني، التهديد التالي: “[… وقد رأيتم ما فعل مسلم واحد بكندا وبرلمان شركها، وما فعله إخواننا بفرنسا وأستراليا وبلجيكا رحمهم الله جميعا، وجزاهم عن الإسلام خيراً،] وغيرهم الكثير ممن قتل ودهس وهدد وأرعب وأرهب، حتى رأينا الجيوش الصليبية تستنفر في أستراليا وكندا وفرنسا وبلجيكا وغيرها من معاقل الصليب، والتي نعدها إن شاء الله باستمرار حالة التأهب والرعب والخوف وفقد الأمن [والقادم أدهى بإذن الله.”….]

وبالطبع، إن هذه مجرد تصريحات. ولكن هذه التصريحات، بالإضافة إلى عدد من المخططات التي تم إحباطها في أوروبا، تثبت أن تنظيم «الدولة الإسلامية» حاول مسبقاً ترجمة هذه التصريحات على أرض الواقع. فقد أحبطت وكالات إنفاذ القانون الغربية محاولات بعض أتباع التنظيم خلال العام الماضي كما أشرنا سابقاً، ولكن كان متوقعاً أن يتكيف تنظيم «الدولة الإسلامية» مع ذلك ويحاول إيجاد طرق جديدة لتخطي تجاربه الفاشلة.

وبما أن التخطيط لمثل هذا الهجوم يتطلب وقتاً طويلاً وجهداً حثيثاً، تبرز الحاجة للموارد والمراقبة الدقيقة، وكلاهما متوفران لدى تنظيم «الدولة الإسلامية». وكما أشار عدة خبراء، بمن فيهم زميلي ماثيو ليفيت، لا يتطلب تنفيذ اعتداء في الغرب تكلفة مرتفعة. فقد أشارت بعض التقديرات إلى أن هجمات باريس كلفت حوالي 10,000 دولار. وإذا صحت هذه التقديرات، فلدى تنظيم «الدولة الإسلامية» ما يكفي من الموارد لدعم مثل هذه العملية، وفي الوقت نفسه تخصيص معظم موارده إلى الحوكمة والقتال في سوريا والعراق، إذ أن ميزانية الحرب الخاصة به تقدَر ما بين مليار وملياري دولار.

وماذا عن المراقبة الدقيقة؟ كتب زميل أقدم في معهد بروكينغز دانيال بيمان أن تنظيم «الدولة الإسلامية» لطالما ركز طاقاته على المستويين المحلي والإقليمي وأن التمرد كان أولويته القصوى. ويُعد رأيه هذا صائباً بعض الشيء، إلا أن ذلك لا ينفي عنصر العمليات الخارجية. فالتنظيمات الإرهابية تستطيع أن تنشط على عدة محاور في الوقت نفسه. ويمكنها أن تشارك في القتال وتنفذ هجمات إرهابية في الخارج بموازاة ذلك. على سبيل المثال، لدى «حزب الله» وحدة مخصصة بالكامل للعمليات الخارجية، هي الوحدة 910. فعندما فجر «حزب الله» حافلة ركاب في بلغاريا، أدت إلى مقتل عدة إسرائيليين وبلغاري واحد في تموز/يوليو 2012، توجهت كل الأنظار نحو الوحدة 910. وقد وقع ذلك الهجوم بينما كان «حزب الله» يشارك بالفعل في الحرب الأهلية السورية، الأمر الذي يعني أن التنظيمات الإرهابية القوية قادرة على تنفيذ عمليات خارجية في الوقت الذي تقاتل فيه على الأرض.

لماذا من المهم معرفة ما إذا كانت الهجمات الأخيرة تشكل تحولاً استراتيجياً أو مجرد انتصار تكتيكي؟

إن التحول الاستراتيجي يعني أساساً أن تنظيم «الدولة الإسلامية» كان يحاول استهداف الغرب منذ وقت طويل، إلا أنه وجد حالياً أيضاً طريقة للقيام بذلك من خلال تكييف تكتيكاته مع الواقع. وتُظهر هجمات باريس أن عناصر الجماعة تعلمت كيف تتكيف مع بعض الإجراءات الأمنية التي اتخذتها الدول الأوروبية. فإذا كان عبد الحميد أباعود قد نجح في الدخول إلى فرنسا في الخفاء، بالرغم من اضطلاع وكالات الاستخبارات المسبق على دوره في تسهيل عمل عدة خلايا إرهابية في أوروبا، فذلك يعني أن أباعود بنفسه قد وجد ثغرة أمنية، يمكن استخدامها من قبل عناصر أخرى في تنظيم «الدولة الإسلامية». وقد يعتبر البعض إن ذلك استثناء وليس القاعدة بالضرورة، وهذا يعني أن أباعود كان “محظوظاً” وأن ذلك لا يعكس بأي طريقة من الطرق أن هناك اتجاهاً أكبر. ولكن واقع انتقال عدة مهاجمين من سوريا إلى أوروبا، وعدد الأشخاص المشاركين في المخطط، واستخدام الأحزمة الناسفة، الأمر الذي يفترض مشاركة صانع قنابل بذلك، والاستخدام المحتمل لرسائل مشفرة، تشير كلها إلى حقيقة أن الهجمات لم تكن مجرد لعبة حظ بل أن منفذيها كانوا يعرفون تماماً ماذا يفعلون.

ولم يحرز تنظيم «الدولة الإسلامية» الكثير من النجاحات حتى الآن، لأن وكالات الاستخبارات ووكالات إنفاذ القانون غالباً ما كانت فعالة جداً، كما أن تنفيذ العمليات المعقدة، مثل تلك التي وقعت في باريس، يستغرق وقتاً. وقد استخلصت الجماعة على ما يبدو العبر من إخفاقاتها الماضية. لقد حان الآن الوقت لكي يحذو الغرب حذو تنظيم «الدولة الإسلامية» ويعمد مجدداً إلى تقليص القدرات العملياتية الخارجية للجماعة. ويشكل التحقيق المتكامل في هجمات باريس والتعاون الوثيق بين وكالات الاستخبارات ووكالات إنفاذ القانون لاستيعاب حقيقة ما حصل، نقطة انطلاق جيدة.

نداف بولاك

معهد واشنطن