القاهرة- بدأت الحكومة المصرية تقترب من الخطوة الأكثر صعوبة في تطبيق برنامجها للإصلاح الاقتصادي والاستجابة لتوصية صندوق النقد الدولي على طريقتها بشأن رفع الدعم عن الخبز لتجنب هزة اجتماعية مع تفاقم أزمة اقتصادية عالمية كانت لها أصداء حادة في مصر، أربكت نظامها في التعامل مع تداعياتها المحلية.
وكشف وزير التموين المصري علي مصيلحي الاثنين أن الحكومة ستبدأ في بيع الخبز بسعر الكلفة للمواطنين الذين لا تشملهم منظومة دعم الخبز في إطار جهودها لمواجهة التضخم المتزايد، وهي إشارة واضحة إلى عدم المساس بالفقراء الذين يمثلون شريحة كبيرة في المجتمع المصري ويمثل لهم الخبز الذي يوصف في أدبياتهم الخاصة بـ”العيش” كدلالة على أهميته، عنصرا أساسيا في وجباتهم الغذائية اليومية.
وتبدو هذه الخطوة تجاوبا مع توصية كشف عنها صندوق النقد الدولي قبل أيام تتعلق برفع الدعم عن الخبز والوقود، وهما من أهم السلع التي حافظت الحكومة على استمرار دعمها، غير أن سياسة الدعم أصلا لم تعد مقبولة من جانب الصندوق ويمكن أن تعرقل مساندته للقاهرة في برنامجها الذي يواجه تحديات كبيرة.
وأوضح مصيلحي أن المصريين غير المشمولين في منظومة الدعم يمكنهم شراء أرغفة خبز يزن الواحد منها 90 غراما بسعر الكلفة باستخدام بطاقات مسبقة الدفع، وأن السعر لم يتحدد بعد، وسيكون أقل من جنيه مصري واحد (0.03 دولار)، على أن تبدأ الفترة التجريبية غدا الأربعاء، والهدف إتاحة هذه السلعة الهامة دون مبالغة في المكسب، ويزيد القرار سعر الخبز الذي تبيعه الحكومة بنسبة تصل إلى عشرة في المئة.
ويعد المساس بالخبز ورفع أسعاره من أكبر الأزمات التي واجهت حكومات مصرية متعاقبة، حيث تولدت قناعة لدى المسؤولين بأن الاقتراب منه ورفع الدعم أصبحا عنصريْن مخيفين لهم عقب اندلاع مظاهرات في يناير عام 1977 خلال عهد الرئيس الراحل أنور السادات عندما قام بزيادة سعره بصورة طفيفة.
وتحول الحادث إلى ما يشبه الشبح الذي أزعج أنظمة مصرية تالية، وجعلها تلجأ إلى رفع الدعم عن غالبية السلع ثم تأتي عند الخبز وتتردد وتوقف خطواتها لتعديل أسعاره بما يتناسب مع أسعار السوق خشية تكرار خروج تظاهرات جديدة.
ويقول مراقبون إن الأوضاع المتأزمة في مصر حاليا كفيلة بردع الحكومة عن التفكير في رفع الدعم عن “العيش” حتى لو كان ذلك من بين مطالب صندوق النقد، لأن الخطوة يمكن أن تتحول إلى ما يشبه “الانتحار السياسي” وتطلق العنان للغضب المكبوت.
◙ أزمة تبقى رفع الدعم عن الوقود الخطوة التالية بعد تجاوز أزمة الخبر بأقل الخسائر الممكنة، والتي لا مفر منها بسبب التزام القاهرة أمام صندوق النقد الدولي بها
ويضيف هؤلاء المراقبون أن الحكومة تتصرف بذكاء في هذه المسألة عبر تأكيدها على عدم المساس بالمستفيدين من الخبز المدعوم، ويمكنها أن تلجأ إلى طريقة للالتفاف على مطلب صندوق النقد دون إثارة غضب الفقراء من خلال التفرقة بين الفقراء والأشد فقرا، فضلا عن المزيد من حصر أعداد المستفيدين الحقيقيين أو المستهدفين من الدعم، وهي خطوة بدأتها منذ فترة.
وتبذل الحكومة جهدا كبيرا لخروج شرائح جديدة قادرة على شراء الخبز بالسعر الحر، وزيادة البرامج الحمائية للفقراء التي تضمن توصيل “العيش” إلى مستحقيه.
قال أستاذ الاقتصاد بالأكاديمية العربية للنقل البحري علي الإدريسي إن قرار وزير التموين ينطوي على تنافسية جديدة مع المخابز السياحية التي رفعت أسعار الخبز بصورة كبيرة وخفضت وزن الرغيف، وإن أسعار الكلفة التي ستبيع بها الحكومة للمواطنين مؤشر على ارتفاع أسعار الخبز أو انخفاضها.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن كلفة رغيف “العيش” لغير المشمولين بمنظومة الدعم ستكون حسب أسعار القمح العالمية وقيمة العملة المتعاقد بها، وتطبيق نظام البطاقات مسبوقة الدفع يرمي لمنع التلاعب من جانب المخابز التي سيتوفر من خلالها هذا الخبر، بما يرشّد استهلاك المواطنين.
وتوفر الحكومة المصرية بالفعل الخبز المدعوم بشكل كبير لأكثر من 70 مليونا من أصل 104 ملايين مصري، ويبلغ ما تحصل عليه هذه السلعة من دعم حكومي 51 مليار جنيه سنويا (حوالي 1.8 مليار دولار).
وبذل المستوردون والمطاحن من القطاع الخاص جهودا مضنية لسداد ثمن مئات الآلاف من أطنان القمح العالقة في الموانئ منذ أشهر بسبب شح الحصول على العملات الأجنبية الواجب تحصيلها للإفراج الجمركي، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الخبز.
وبدأت الهيئة العامة للسلع التموينية، وهي المشتري الرئيسي للحبوب بمصر، في بيع طحين القمح لمطاحن خاصة عبر بورصة السلع حديثة التدشين في محاولة لإزالة العقبات أمام التجارة الداخلية.
وتعمل الحكومة على شراء نحو أربعة ملايين طن من القمح في موسم الحصاد المحلي في شهر أبريل المقبل، بينما قالت إنها اشترت العام الماضي 4.2 مليون طن، وتبذل جهودا للحصول على القمح من روسيا وأوكرانيا وسط الحرب المندلعة بينهما، باعتبارها أكبر مستورد للقمح على مستوى العالم.
وتبقى أزمة رفع الدعم عن الوقود الخطوة التالية بعد تجاوز أزمة الخبر بأقل الخسائر الممكنة، والتي لا مفر منها بسبب التزام القاهرة أمام صندوق النقد الدولي بها، وتحتاج أيضا إلى استعدادات خاصة لتحاشي حدوث هزات اجتماعية، فقد تتحرك أسعار الوقود بنسبة تصل إلى نصف السعر الحالي، ما يعني أن الحكومة المصرية ستضطر قريبا إلى عدم التقيد بسياسة الرفع التدريجي لأسعار الوقود بشكل ربع سنوي.
وذكر علي الإدريسي لـ”العرب” أن ارتفاع أسعار الوقود سيزداد خلال الأيام المقبلة مع ارتفاع ضغط فاتورة الدعم الحكومي على الموازنة العامة، بما يحقق أيضا أهداف الترشيد، وفي المقابل على الحكومة التوسع في برامج الحماية الاجتماعية وزيادة قاعدة المستفيدين منها كي تحافظ على الاستقرار المجتمعي.
وتأتي خطورة رفع الدعم تماما عن الوقود من انعكاساتها على ارتفاع أسعار المواصلات العامة التي يستعملها البسطاء قبل أن تنتهي الحكومة من تسيير الخطوط الجديدة لمترو الأنفاق والمونوريل والقطار الكهربائي السريع.
العرب