ليس غريباً أن يقود الانسداد السياسي في الخروج من الشغور الرئاسي، إلى طرح أفكار من خارج الصندوق. الغريب هو ادعاء الطرف القوي الذي يفرض الانسداد أنه الحريص على النظام، وإن كان صاحب مشروع لتغييره في وقت ما إلى ما هو أسوأ. لكن لبنان ليس في أزمة نظام في الواقع، فكل مشكلة في النظام لها حل دستوري. وما يمنع الحل الدستوري اليوم هو أن الدستور معلق بقوة السلاح واحتكار التمثيل المذهبي. وما نحن فيه هو أزمة حكم أدت إلى أزمات وطنية وسياسية ومالية واقتصادية واجتماعية خطرة.
ولو كان الاحتكام إلى الدستور مستمراً لما وصلنا إلى أزمة انتخاب رئيس للجمهورية ومعها أزمة حكم. فالنظام ليس مغلقاً، وإن كان “صارماً جداً ويحتاج إلى مرونة لإعادة توزيع السلطة”، كما كتب فرنسيس فوكوياما. وما سماه فوكوياما “الديمقراطية التنازلية” في لبنان، حيث يتم “رسم الصلاحيات السياسية وفق الاعتبارات الطائفية والمذهبية”، صارت مضروبة عملياً. بماذا؟ بإصرار الطرف القوي على فرض خياراته ومرشحه لرئاسة الجمهورية، ودعوة الأطراف الأخرى إلى الموافقة على خياره وإلا بقي البلد في فراغ. فالرئيس الذي يريده تحت شعار “عدم طعن المقاومة في ظهرها”، سيكون عملياً رئيس التخلي عن المصلحة الوطنية العليا من أجل مصلحة “المقاومة الإسلامية” ومشروعها الإقليمي الذي تديره إيران عبر الحرس الثوري والميليشيات المرتبطة به. والهوية الجديدة التي يراها البديل من هوية لبنان التاريخية هي الانتقال الكامل إلى “محور المقاومة” بعد عقود من الميثاق الوطني لعام 1943، الذي خلاصته “لا وصاية، لا حماية، لا امتياز ولا مركز ممتازاً، لا شرقية ولا غربية”.
والمشكلة مزدوجة بعد سنوات من الوصاية السورية ثم سنوات من الوصاية الإيرانية، وبينها أخيراً ست سنوات من عهد حليف “حزب الله” الرئيس ميشال عون، الذي رآنا ذاهبين إلى “جهنم” ثم قال في النهاية: “ما خلونا” نعمل. فلا بديل من التعايش سوى التقاتل. ولا بديل من اتفاق الطائف سوى المخرج الذي فتحه الاتفاق نفسه، وهو الانتقال المرحلي ضمن النظام الديمقراطي من الدولة الطائفية إلى دولة المواطنة المدنية. وهذا صار حلماً، وسط التراجع من العصبيات الطائفية إلى العصبيات المذهبية. وليس أصعب من تطبيق الطائف، كما يطالب كثيرون، سوى الخروج منه أو الخروج عليه. فالتطبيق ممنوع بالقوة لأنه يفرض المساواة في السلطة بين كل الطوائف الممثلة في مجلس الوزراء، ويقوي ارتباط لبنان بمحيطه العربي. وهذا ما يضع عقبة أمام الهيمنة الفئوية والمشروع الإقليمي الإيراني. ولا فرصة للبحث في الفيديرالية أو اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة بحجة أنها تقود إلى “التقسيم” مع أنها أنظمة الدول الناجحة في العالم.
ولم يكن أمراً عادياً أن يتحدث رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أخيراً عن عودة العراق “جزءاً من المنطقة العربية” وحرصه “على إدامة العلاقات مع دول الخليج العربي”. ولا كان خارج المألوف والعصبيات الفارسية أن تحتج طهران على استخدام تعبير الخليج العربي، مصرة على تسمية “الخليج الفارسي”، بصرف النظر عن التاريخ وحقائق الجغرافيا حيث كل دول الخليج، باستثناء إيران، دول عربية، فما يعانيه لبنان هو ضغط أكبر لإساءة علاقاته مع الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليين، وما يفاخر به أمين عام “حزب الله” حسن نصر الله هو أن “المقاومة مسألة وجود، شرط وجود، ونحن وحلفاؤنا الأقوى في المنطقة، والمستقبل لنا”، حيث لا وجود لقوات أميركية غرب آسيا.
والطائف في النهاية لم يكن مجرد اتفاق بين نواب لبنانيين في مدينة الطائف السعودية لوقف الحرب، بمقدار ما هو اتفاق محلي وعربي ودولي لإنقاذ حاضر لبنان ومستقبله. وما يهدد الطائف بالفعل هو من يتمسك بفرض الانسداد السياسي والفراغ السلطوي، إن لم يتنازل له الجميع، ليجعل لبنان مجرد مساحة جغرافية تشكل منصة لحماية المشروع الإيراني.
اندبندت عربي