ابنة الأنبار، البغدادية التي تغفو على الفرات، وتحصّن نفسها، فجر كل يوم، بتلاوة مآذن بقيت صامدة، على الرغم من كل ما تعرّضت له من ويلات وحروب وقصف، تفنن به قاصفها، ظناً منه أنه بذلك يقضي على جذوة مدينةٍ، شكلت، يوماً، بداية حركة تحرير كبرى، اجتاحت العراق، وانتهت بطرد غزاة القرن الواحد والعشرين، يجرّون وراءهم أذيال خيباتٍ أعادت لهم شريط حربهم الفاشلة في فيتنام، بل ربما أكثر.
الفلوجة، لا يعرف عن هذه المدينة أنها تختلف عن بقية مدن العراق، فهي تبعد عن بغداد نحو 40 كيلومتراً غرباً، ربما هي تختلف بأنها مدينة وجدت المساجد طريقها بين أحيائها، حتى لقبت بأم المساجد، كيف لا وهي تضم أكثر من مائة مسجد، ولا تتجاوز مساحتها 30 كيلومتراً مربعاً؟.
عندما دخل الأميركان بغداد في ربيع عام 2003، كان حجم الصدمة والذهول كبيراً جداً، سواء على العراقيين الذين شاهدوا لأول مرة دبابة غازية تجوب شوارع عاصمتهم، أو على الشعوب العربية والإسلامية، وهي تشهد احتلال واحدةٍ من أهم العواصم العربية التي كان يعوّل عليها كثيراً.
صحيح كانت المقاومة العراقية الأسرع اشتعالاً بوجه الغزاة الجدد، حتى صنفت على أنها الأسرع في التاريخ، لكنها لم تكن كافية لاسترداد ما أهدر من كرامة العراقيين والعرب، يوم أن دخلت الدبابات الأميركية بغداد في التاسع من أبريل/نيسان عام 2003.
احتاجت النفوس الغاضبة الثائرة ضد هذا الاحتلال عاماً كاملاً، حتى تستعيد توازنها، وتسترد شيئا من الكرامة التي أهدرت، احتاجت إلى الفلوجة، لتعيد تسمية الأشياء.
عقب الاحتلال الأميركي، كان مشروع تقسيم العراق جاهزاً على طاولة الغزاة، ولم يكن ينقصهم شيء، حتى الأدوات كانت جاهزة، 25 عراقيا، تم تقسيمهم إلى شيعة وسنة وأكراد وأقليات، حتى جاءت الفلوجة ربيع 2004، لتعيد إلى العراقيين توازنهم، وتؤكد أن المقاومة سبيل للتحرير والحفاظ على وحدة الوطن.
“نريد أن نذكّر الشعوب، شعوبنا العربية والإسلامية، بأن هناك مدينة تقصف يومياً، مدينة كانت ذات يوم عنواناً للكرامة ورمزاً للمقاومة”
الفلوجة كانت، ربيع عام 2004، أول مدينة عراقية تتحرر من الاحتلال الأميركي، عقب معركة دامت 33 يوما، سعت فيها القوات الأميركية، مستعينة، بكل ما أوتيت من قوة، إلى استعادة السيطرة على المدينة، غير أنها فشلت.
يومها، استبسل الرجال الرجال، فشلت تلك المعركة، عادت أميركا تجر خيباتها، اضطرت للتفاوض، جلست مرغمة مع رجال المدينة، فاوضت مضطرةً، بعد أن كانت تمني النفس بكسر هيبة المدينة. يومها كان العراق موحداً خلف مدينة وحدته، لم يكن صعباً أن تجد أغاني للفلوجة تذاع في شوارع مدن الجنوب. لم يكن وقتها هناك عراقي يختلف عن الآخر إلا بقدر حبه وتضحيته للوطن، ومجابهته الغزاة. لذا، كانت الفلوجة شوكة في فم من أراد ابتلاع العراق.
أشهر مضت، والفلوجة محرّرة داخل وطن محتل، تدير نفسها بنفسها، حتى أغاظتهم كلهم، محتلين وأذناباً ممن ارتضوا أن يكونوا رهائن ذل وعار بيد القادمين من خلف الحدود، فأعدت أميركا حشدها، وجيّشت قوات التابع توني بلير معها، والآلاف من الذين تدربوا في إيران، كلهم يريد أن يقتص من المدينة، وفشلوا، حتى عادت أميركا بأسلحتها غير المجرّبة، فجرّبتها هناك. كانت جثث الضحايا تذوب، لا يبقى منها سوى العظام.
واليوم، وبعد سنوات على موقعة الفلوجة، أولها وثانيتها، تعود غربان الشر لتنتقم من المدينة، والحجة دوماً جاهزة، وجود الإرهابيين، كما ادعت قبلهم أميركا أن الفلوجة تؤوي أبو مصعب الزرقاوي، زعيم القاعدة، عام 2004. تحولت المدينة، ومنذ مطلع عام 2014، إلى مدينة للموت، فكل يوم تقصف بشتى أنواع القذائف، وكل يوم يتم تجييش الشارع ضدها، بحجة وجود الدواعش فيها، ويتناسون، عن قصد، وجود أكثر من 150 ألف مدني داخل المدينة لم يتمكنوا من الخروج، لأنهم لا يريدون أن يكونوا ضحية ابتزاز حكومة العار ومليشياتها على جسر بزيبز، يتوسلون إليهم كي يدخلوا بغداد بعد إحضار الكفيل.
اليوم، وعلى الرغم من كل القصف الهمجي على الفلوجة، فإن عشرات من عوائل مدينة الرمادي التي انتظرت طويلاً على جسر بزيبز للدخول إلى بغداد، قرّرت الدخول إلى الفلوجة، لتعيش هناك، على الرغم من كل القصف اليومي، فهو، من وجهة نظر هؤلاء، أرحم من الوقوف على جسرٍ تنتهك فيه كرامتهم بأبشع الصور.
الفلوجة اليوم تقصف، وليس المراد، هنا، مخاطبة ضمير العالم النائم، ولا عين إنسانيته العوراء التي لا ترى إلا ما تريد، وإنما فقط نريد أن نذكّر الشعوب، شعوبنا العربية والإسلامية، بأن هناك مدينة تقصف يومياً، مدينة كانت ذات يوم عنواناً للكرامة ورمزاً للمقاومة، فلا تبخلوا عليها بتغريدة، ولا بدعاء، ولا بكسرة خبز تعين أهلها، فالدم الذي دفعته المدينة وأبناؤها أغلى من أي فعلٍ نقدمه لهذه المدينة الصامدة.
اياد الدليمي
العربي الجديد