منذ سقوط طائرة “السوخوي”، قبل نحو أسبوعين، بصورة أصابت كبرياء العسكرية الروسية في الصميم، وكادت تخرجها عن طورها، تردد تعبير “الحرب العالمية الثالثة” في وسائل الإعلام على نحو غير مسبوق، وجرى تناقله على ألسنة العامة بوتيرة متصاعدة، سواء بصيغة استفهامية تشي بالقلق، أو بأخرى استنكارية داحضة لفكرة الحرب الكونية من الألف إلى الياء.
وفي واقع الأمر، لم يتداول الإعلام والساسة وعامة الناس، مفهوم الحرب الكارثية هذه، منذ أن فرض رعب توازنات الأسلحة النووية منطقه على الدول الكبرى، وجعل كل النزاعات مجرد حروب بالوكالة، وتحت السيطرة، إلا في هذه الآونة المشحونة بتوترات متراكمة، بلغت ذروتها القصوى بعد تحول سورية إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.
ومع أننا ما نزال بعيدين عن حافة هذه الحرب الرهيبة، والواقعة قد لا تقع بتاتا، إلا أن العالم بات الآن أقرب إليها أكثر من أي وقت مضى منذ 70 سنة، بفعل ازدحام السماء السورية بالطائرات، واشتداد “ديناميات” المواجهات الدائرة بكامل طاقتها، حيث تغذيها الآن مشاعر إهانة القيصر بقوة، وتزيدها اشتعالا الرغبة الروسية الجامحة في استعراض عضلات العظمة أمام الغرب، لإعادة إملاء القطبية الثنائية كحقيقة مستجدة.
وأحسب أن طموح الكرملين الشديد لانتزاع اعتراف دولي كامل بمكانة روسية مكافئة للمكانة الأميركية على مائدة غير مستديرة، هو المحرك الأول لانخراط موسكو المتزايد في أتون الحرب السورية، والباعث الحقيقي للعبتها الجارية على حافة الهاوية، ليس للدفاع عن الحصان المحتضر في دمشق، أو لمحاربة الإرهاب بتعريفه الروسي الواسع، وإنما لإملاء الذات، واستعادة أمجاد الحقبة السوفيتية.
ولعل استخدام روسيا المكثف للصواريخ الباليستية، ناهيك عن استقدام قاذفات “التوبولوف” الاستراتيجية، كانا مجرد رسائل ساخنة تخاطب حلف شمال الاطلسي، أكثر من كونها موجهة ضد كتائب المعارضة السورية. كما أن توضيع منظومة الدفاع الجوي من طراز “S-400” لأول مرة خارج الحدود الروسية، كان أكثر دلالة على عزم الكرملين تغيير قواعد اللعبة الراجحة لصالح الغرب منذ نهاية الحرب الباردة.
على هذه الخلفية، جاء فهم موسكو لإسقاط المقاتلتين التركيتين لطائرة “السوخوي”، على أنها محاولة أطلسية صريحة لكبح جماح اندفاعتها العسكرية في الديار الشامية، من دون أخذ فائض القوة الروسية في الحساب بدقة كافية، أو التحسب لتداعيات اختبار إرادة قتالية ما تزال في ذروتها، إن لم نقل في غمرة عملية استرداد الكرملين لدوره على ساحة الشرق الأوسط، الأكثر أهمية من جورجيا، وربما من جزيرة القرم وشرقي أوكرانيا.
غير أن الإشكالية التي تواجه روسيا هذه المرة، أن حائط الصد التركي أعلى بكثير من حائط الممتلكات السوفيتية السابقة، فضلاً عن أن الثورة السورية المسلحة متجذرة، وأشد بأساً وأكثر مراساً من المقاومات التي واجهت موسكو في مناطق نفوذها التقليدية وسط آسيا وشرقي أوروبا. وهو ما يضاعف مخاطر المغامرة في أكثر مناطق العالم حساسية، وأشدها تعارضاً في الأجندات، وتقاطعاً في الاهتمامات، فضلا عن كونها دفيئة تاريخية لصراعات الحضارات.
من هنا أتت الخشية المتعاظمة إزاء الانجراف الروسي الشامل أكثر فأكثر وراء هذا الطموح المكلف. وهكذا أيضا استيقظ تعبير الحرب العالمية الثالثة من سباته العميق، وجرى سحبه من عهدة المؤرخين إلى قيد التداول، لاسيما أن موسكو، التي تتحسب من إطالة أمد الحرب، وتتذكر السابقة الأفغانية بكثير من المرارة، ترمي بثقلها العسكري بالكامل، وتستعجل حسم معركتها المتدحرجة، قبل أن تدفع ثمنا بشريا وأخلاقيا باهظا، إذا ما طال أمد حربها، واضطرت للنزول من عنان السماء إلى الأرض مكرهة.
ومع أن الحذر ما يزال سيد الموقف، إذ لم تتجاوز موسكو بعد حدود الكلام، وسقف العقوبات الاقتصادية، كما لم تختبر بما يكفي صلابة الالتزامات الأطلسية تجاه غريمها التركي، الذي سبق أن حاربها اثنتي عشرة مرة في غضون أربعمائة سنة، إلا أن الحرب أولها كلام في العادة، والتوقعات السيئة تحقق نفسها بنفسها على الأغلب. كما أن أي خطأ في الحساب، أو سوء فهم للنوايا، من شأنه أن يخرج الموقف عن التحكم، ويدخل العالم في طاحونة موت قد تبدأ نووية، وفق ما تفضله، وتتحدث عنه، بعض أوساط وزارة الدفاع الروسية.
عيسى الشعيبي
جريدة الغد الاردنية