في ضوء الضائقة المالية الخانقة التي يشهدها الإقتصاد العراقي بسبب الانخفاض الكبير في أسعار النفط، يناقش المعنيون وخبراء الخيار الأنسب لتحديد سعر صرف الدينار. وكان البرلمان العراقي ناقش قبل فترة إمكان خفض سعر صرف الدينار في مقابل الدولار بنسبة 10 في المئة إلى 1300 دينار ليوفر للموازنة العامة 5 تريليونات دينار (4.2 بليون دولار)، أو خفضه 20 في المئة إلى 1400 دينار ليوفر 9 تريليونات دينار.
لا شك في أن خفض الدينار بأي نسبة كانت سيوفر موارد إضافية للموازنة العامة لأنه سيزيد كمية الدينار العراقي الذي تحصل علية وزارة المال في مقابل استبدال عائداتها من النفط أو القروض الخارجية بالدولار مع المصرف المركزي. لكنها طريقة مصطنعة لزيادة موارد الحكومة على حساب المواطنين. فالمتضرر هو المواطن العادي خصوصاً ذوي المداخيل المحدودة إذ ستنخفض القوة الشرائية لمداخيلهم خصوصاً أسعار السلع المستوردة، كما سيتضرر الدائنون بالعملة المحلية ومن ضمنهم حملة سندات الحكومة العراقية في الداخل.
إن اعتماد العراق كلياً تقريباً على عائدات النفط وضعف الموارد الأخرى كسلع وخدمات عدا النفط أو وجود استثمارات مالية في الخارج أو احتياطات أجنبية كبيرة، وارتفاع كلفة الاقتراض الخارجي، كلها مؤشرات إلى قلة الخيارات المتوافرة لمعالجة مشكلة النقص الحالي في الموارد الحكومية من النقد الأجنبي. وهذا يجعل تقليص الإنفاق من جهة ومحاولة زيادة بعض أنواع الضرائب المباشرة والرسوم وإصدار سندات خزينة في السوق المحلية حلولاً لا مناص منها.
إن المتتبع لمسيرة سعر صرف الدينار العراقي عندما كان مساوياً لـ 3.3 دولار قبل بدء الحرب العراقية – الإيرانية إلى أن وصل إلى 3000 دينار للدولار، أثناء السنوات الأخيرة من الحصار الاقتصادي، أي 1990 – 2003، يدرك أن المشكلة تكمن ببساطة في الفارق بين عرض الدولار والطلب عليه من جهة، وبين عرض الدينار والطلب عليه من جهة أخرى. وهي معادلة بسيطة تحكم أسعار ليس فقط العملات وإنما كل أنواع السلع والخدمات. لذلك إذا كان يصعب تحكم الدولة بأحد طرفي المعادلة عليها أن تتحكم بالطرف الثاني لتضمن عدم مداخيل سعر الصرف في فوضى.
عندما كانت موارد العراق من النفط محدودة قبل التعديل الأول لأسعار النفط في 1973، استعان بقانون العملة، الذي هو من بقايا قاعدة الذهب، ويفترض تغطية 70 في المئة من العملة المصدرة بذهب وعملات أجنبية، للسيطرة على مقدار عرض الدينار من خلال الإنفاق الحكومي. وبسبب الحرب العراقية – الإيرانية أُلغِي قانون العملة واختل التوازن بين عرض النقد الأجنبي والطلب عليه نتيجة تزايد الإنفاق الحكومي العسكري والمدني. وسمحت الحكومة للقطاع الخاص باستيراد السلع من موارده وبيعها بأسعار لا تخضع لسيطرتها. وبذلك أصبح هناك سعران للصرف: رسمي ظل محافظاً على 3.3 دولار ويُستعمَل للنفقات الرسمية، ومواز يتحدد بالعلاقة بين عرض العملة الأجنبية والطلب عليها. وتوسع الفارق كثيراً بين السعرين بعد فرض الحصار الاقتصادي على العراق في 1990 فارتفع الموازي إلى 3000 دينار أحياناً.
وبعد الاحتلال والسماح مجدداً بتصدير النفط وتحرير الودائع العراقية المجمدة، كان متوقعاً أن يقوم العراق بإصلاح نقدي يسحب بموجبه الأوراق النقدية الفائضة من التداول. لكنه استخدم مزاد العملة اليومي الذي تُباع فيه مبالغ محددة من الدولار إلى القطاع الخاص والمصارف لسد الطلب المحلي على العملة الأجنبية خصوصاً لأغراض الاستيراد. وأدت الزيادة المستمرة في إيرادات النفط إلى تحسن تدريجي في أسعار الصرف حتى بلغ 1220 ديناراً للدولار.
ويعتبر العديد من السياسيين والتقنيين أن مزاد العملة اليومي وسيلة لتهريب الدولار من قبل المصارف الخاصة بحجة الاستيراد. وزاد انتقادهم في ضوء الأزمة المالية الحالية. والسؤال الذي يتناوله المعنيون في العراق الآن هو: هل يجب الاستمرار في مزاد العملة اليومي على رغم الاتهامات الموجهة إلى المزاد؟ أم هل يجب وقف العمل به واللجوء إلى وسيلة أخرى كأن يصبح بيع الدولار وشراؤه عملية حرة وبلا قيود كما يقترح البعض؟
إن اختيار سعر الصرف المناسب لأي دولة عملية دقيقة وتتعلق بالوضع الاقتصادي والمالي للدولة وبإيديولوجيتها الاقتصادية. فالدولة التي تختار التعويم الكامل لعملتها وتجعل بيع العملة وشراءها حرين ومن دون قيود هي عادة الاقتصادات المتطورة القوية التي تتمتع بمصادر مهمة ومتعددة للعملة الأجنبية وتكون عملاتها ذات أهمية في التجارة الدولية وفي تدفق الاستثمارات ولديها احتياطات كبيرة من العملات ذات الوزن الدولي.
أما الدول التي تثبت عملاتها بعملة أجنبية واحدة كالدولار أو سلة من العملات، فلتحافظ على هذا السعر أمامها خياران: الأول، أن تكون لديها احتياطات كبيرة من العملات الأجنبية والذهب تمكنها من التدخل لدعم سعر العملة المثبت عند اللزوم، ومثال على ذلك دول مجلس التعاون الخليجي. والثاني، أن تحافظ على سعر الصرف من خلال إدارة هذا السعر من قبل السلطة النقدية التي تؤثر في العوامل التي تحدد الطلب على العملة الأجنبية. وهذا ما كان يفعله العراق قبل الطفرة النفطية الأولى.
أما في العراق حالياً، فالحكومة ليس لديها سعر رسمي للدينار في مقابل الدولار أو سلة من العملات. والسعر القديم 3.3 دولار لم يعد مستعملاً لأي نوع من أنواع التعاملات على رغم أنه لم يُلغَ رسمياً. وعليه وفي ضوء الموارد المحدودة حالياً من العملة الأجنبية وصعوبة التوسع إلى ما هو أبعد من موارد النفط، لا بد من أن تدير الدولة سعر الصرف الحالي من خلال وضع المصرف المركزي موازنة للنقد الأجنبي تحدد حصة كل فقرة من استيرادات السلع والخدمات والتحويلات من دون مقابل وغيرها. وبذلك يمكن الحفاظ على استقرار السعر الحالي من جهة، وحصر النفقات بالعملة الأجنبية بحدود الموارد المتوافرة من جهة أخرى، إلى أن تصبح الظروف مؤاتية لإجراء إصلاح نقدي وتبني سعر صرف رسمي ملائم.
نقلا عن صحيفة ” الحياة “