تركيا والولايات المتحدة حظيتا بشراكة تاريخية طويلة، بما في ذلك سنوات من العمل معاً في مواجهة الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة. ورغم أنهما حليفان في الناتو لمدة سبعة عقود، إلا أن واشنطن وأنقرة غالبا ما اختلفتا بشأن السياسة الخارجية. التواصل التجاري مع روسيا رغم العقوبات الغربية، صفقات التسلّح، المشكلة الكردية وغيرها من الملفات الشائكة، التي يتصاعد الخلاف الدبلوماسي بشأنها في كل مرة. وفي الأغلب، تبقى الطريقة التي ستنسحب بها الولايات المتحدة من سوريا، هي التي ستكون الاختبار الأساسي لتوافق الأولويات الاستراتيجية الكبرى لتركيا والولايات المتحدة.
الولايات المتحدة الأمريكية تدرك أنّ تركيا أحد المفاتيح المهمة للسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان
التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية دفعت الرئيس أردوغان إلى إجراء تغييرات واسعة في سياسته الخارجية، وكأنها عودة إلى تفعيل سياسة «صفر مشاكل» التي تبنَّتها تركيا مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في نوفمبر 2002. هذه التغييرات شملت تحسين العلاقات مع السعودية والإمارات، وإسرائيل ومصر وإيران، وغيرها.
من ناحية أخرى، يبدو العامل الاقتصادي الذي تعزز بعد أزمة أوكرانيا، مرتبطا خصوصا بإمدادات الطاقة، التي أخذت حسابات دول شرق المتوسط تتأثر بها بصورة واضحة، بينما يشتد التنافس بينها على اقتسام حقولها المكتشفة حديثا في المنطقة، قد يكون أحد العوامل الإضافية التي تدفع أنقرة إلى التقارب مع النظام السوري. شرق المتوسط يُواجه في ما يبدو، محاولات لإعادة صياغة سياسات استراتيجية، فالرؤية التركية بعدم الاعتراف بقبرص أصلا ما زالت قائمة، مع استمرار انقسام شبه الجزيرة القبرصية إلى قبرص التركية وقبرص اليونانية، وعدم وجود ما يلوح في الأفق من فرص لتوحيد الجزيرة. ولا تعترف تركيا بالاتفاقات التي أقامتها قبرص (اليونانية) لترسيم منطقتها الاقتصادية الخالصة مع كل من مصر وإسرائيل ولبنان. وترى أن إرساء المناقصات على الشركات الأجنبية للبحث والتنقيب على الغاز في هذه المنطقة غير قانوني، لأنه ينتهك حقوق أنقرة. وإلى جانب الشرق الأوسط وشمال افريقيا، كانت منطقة آسيا الوسطى الحلقة الثالثة في سياق التفاعل الجيوسياسي الذي وجدت تركيا نفسها محاطة به. وتحت مبرر إعادة إحياء روابطها التاريخية والعرقية والسياسية مع شعوب ودول المنطقة، سعت أنقرة إلى تعزيز دورها في جنوب شرق آسيا والبلقان والقوقاز، وهي تبذل جهدا استراتيجيا لتنويع مسارات تحركها الإقليمي، من ناغورني قره باغ إلى طرابلس في ليبيا. وعبر إعلان إسلام أباد، تعيد أنقرة تفعيل دورها في منطقة آسيا الوسطى في نظر العديد من المراقبين، فهي لا ترتبط اليوم بعلاقات مستقرة مع القوى الدولية الفاعلة، وتحديدا الصين ومشكلة الإيغور، وروسيا والمشكلة السورية، والاتحاد الأوروبي ومشكلة شرق المتوسط، والولايات المتحدة ومشكلة إس 400، وشرق الفرات وقضية قسد المدعومة من واشنطن. وفي هذا الإطار، جاء الاجتماع الثلاثي الذي عقد بين تركيا وأذربيجان وباكستان في مدينة إسلام أباد في 13 يناير 2021، ليعبر عن رغبة تركية في تحقيق مزيد من التفاعل مع منطقة آسيا الوسطى. وكانت أبرز مخرجاته تأكيد الالتزام بتطوير توافق إقليمي للسلام والتنمية. والتضامن مع حكومة وشعب أذربيجان في جهودهما لاستعادة وتحسين المناطق المحررة. والموافقة على زيادة الجهود المشتركة لمكافحة الإسلاموفوبيا واضطهاد الأقليات المسلمة، لاسيما على المستويين الإقليمي والدولي، اضافة إلى التأكيد على أن مجموعة «قلب آسيا – عملية إسطنبول»، التي انطلقت في 5 ديسمبر 2015، يمكن أن تشكل أساسا في عملية السلام والاستقرار والازدهار الاقتصادي في أفغانستان والمنطقة. كذلك، الإشارة إلى حل مقبول بشكل متبادل لمشاكل بحر إيجه، وشرق البحر الأبيض المتوسط، على أساس القانون الدولي.
منذ التدخل العسكري الروسي، غدت سياسة تغيير النظام في دمشق التي تبنّتها أنقرة منذ خريف 2011، غير واقعية، ترافق ذلك مع تراخي الولايات المتحدة تجاه مسألة تغيير النظام، وفي تطبيق عقوباتها الاقتصادية عبر قانون قيصر، وفتح العديد من الدول سفاراتها في دمشق، وتبادل الزيارات مع مسؤولي النظام السوري، وعدم الاهتمام بتطورات الحل السياسي والتسليم للدور الروسي في سوريا. ومن المؤكد أنّ التحالف الذي أنشأته واشنطن مع «قسد» دفع إلى تغيير أولويات أنقرة، فقد سعت إلى دفع التهديدات التي تواجه أمنها القومي عبر ضبط الحدود، ومنع نشوء كيان كردي على تخومها الجنوبية. وإن كان ذلك في جزء منه حصيلة تفاهمات تركية روسية كان جوهرها تخلي أنقرة عن سياسة تغيير النظام في دمشق، مقابل تعاون موسكو في منع قيام كيان كردي على الحدود مع سوريا. مشكلات ذات طابع استراتيجي تناور بشأنها أنقرة على كل الجبهات.. والامتحان الأصعب كان الحرب المشتعلة على الميدان الأوروبي، فمنذ بدء الحرب في أوكرانيا، انتهجت تركيا وهي عضو في حلف شمال الأطلسي، دبلوماسية متوازنة، وحافظت على علاقاتها الجيدة مع كل من موسكو وكييف، أجرت محادثات مبكرة بين الطرفين، وساعدت أيضا في التوسط في اتفاق للسماح بشحن الحبوب من أوكرانيا، وفي حين انتقدت تركيا الغزو الروسي، فإنّها زودت أوكرانيا بطائرات مسلحة مسيرة، وهي إلى الآن تعارض العقوبات الغربية على موسكو التي تربطها بها علاقات وثيقة. «يمكنني أن أقول بشكل علني إنني لا أجد أن السلوك الحالي للغرب صحيح. إن الغرب يتّبع سياسية تقوم على استفزاز روسيا» بهذه العبارات اتّهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الدول الغربية باتباع سياسة تقوم على استفزاز موسكو. معتبرا أنّ «أوروبا في الواقع تحصد ما زرعته». هذا السلوك، جعل أعضاء الاتحاد الأوروبي قلقين بشأن زيادة التجارة التركية مع روسيا، وقدرتها على مساعدة موسكو على التهرب من العقوبات، لذلك، طلبت بعض دول الاتحاد من أنقرة معلومات عن علاقتها مع موسكو. وتقارير صحافية غربية كثيرة، أفادت في مرات عديدة، بأن روسيا تتحايل على العقوبات الغربية بمساعدة تركيا، التي تستخدمها موسكو كحصان طروادة في حلف شمال الأطلسي الناتو. في الأثناء، أصبح كثير من الدول تنظر إلى تركيا كمنافس قوي في مجال الصناعات العسكرية. بالنظر إلى الأدوار العسكرية التي قامت بها مسيرات «بيرقدار» في ليبيا وسوريا وأذربيجان، وعلى الأراضي الأوكرانية مؤخرا. الولايات المتحدة الأمريكية تدرك أنّ تركيا أحد المفاتيح المهمة للسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان.. وتركيا نجحت إلى حد كبير في تطبيق استراتيجية التوازنات، ما مدى حقيقة بقاء أنقرة حليفا استراتيجيا موثوقا لواشنطن؟ هذا تساؤل مشروع، خاصة أنّ تركيا تدرك جيدا سلبيات الطاعة، ومضاعفات التحدي في عالم متسارع التغيير.
القدس العربي