كان الهدف من المناورات المشتركة الضخمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل في الأسبوع الماضي هو طمأنة الأصدقاء وردع الخصوم، إلّا أن كلا الهدفين سيعتمدان في النهاية على إصلاح سياسة شائبة تجاه إيران.
في الفترة بين 23 و 26 كانون الثاني/يناير، أجرت الولايات المتحدة وإسرائيل أكبر مناوراتهما العسكرية المشتركة على الإطلاق، إذ شارك فيها 7900 عنصر (6400 أمريكي و1500 إسرائيلي) و142 طائرة مقاتلة (100 أمريكية و42 إسرائيلية) واثنتا عشرة سفينة حربية (مجموعة حاملات الطائرات الضاربة “جورج دبليو بوش” وست سفن إسرائيلية، بما فيها غواصة)، وتخللتها أيضاً تمارين في جميع المجالات (البحر والجو والبر والفضاء والإنترنت). وكانت الأهداف الرئيسية للمناورة – التي أطلق عليها اسم “جونيبر أوك” – هي تحسين قدرات التشغيل المتبادل، وإظهار قدرة الولايات المتحدة على زيادة قواتها في المنطقة مع الوفاء بالتزاماتها في أماكن أخرى، وطمأنة الحلفاء، وردع الخصوم (وخاصة إيران)، وتمهيد الطريق أمام مناورات إضافية كبيرة ومعقدة مع إسرائيل والدول الشريكة في المنطقة.
بين الحقيقة والإشاعة
على الرغم من التقارير التي أفادت بأن المناورات كانت تحاكي ضربات على المنشآت النووية الإيرانية، إلا أن المسؤولين الأمريكيين نفوا ذلك. وليس هناك سبب يدعو للشك في هذا النفي، فقاذفات “بي-52” التي استُخدمت في التمارين ليست الطائرات المناسبة لهذه المهمة لأنها تفتقر إلى القدرة على اختراق الدفاعات الجوية الفعالة وإيصال الذخيرة الأمريكية التقليدية الوحيدة الخارقة للتحصينات (من طراز “جي بي يو-54 أ/ب”) التي تستطيع إتلاف المنشآت النووية المحصنة عميقاً تحت سطح الأرض في فوردو أو أي موقع آخر.
ومع ذلك، ستكون الكثير من المهام التي تم التدرب عليها خلال مناورات “جونيبر أوك” محوريةً في أي صراع كبير تخوضه إسرائيل وإيران ووكلاؤها. وقد يستنتج من ذلك صناع القرار الإيرانيون أنهم قد يجدون أنفسهم بمواجهة القوات الأمريكية أيضاً في حالة وقوع مثل هذا الصراع – وهو السيناريو الأسوأ بالنسبة لهم.
وقد أشار المسؤولون الأمريكيون إلى النية بتوسيع نطاق مناورات “جونيبر أوك” ضمن إطار المؤسسات المعنية. إذ تعتزم واشنطن تشجيع دول أخرى في المنطقة على المشاركة في مناورات كبيرة ومعقدة مماثلة، مستخدمةً أسلوب “الخوف من تفويت الفرصة” لكسب موافقتها، على أمل أن يتيح ذلك لـ “القيادة المركزية الأمريكية” بلورة البنية الأمنية الإقليمية الناشئة التي تعمل على إقامتها – والتي تشمل عناصر جديدة من قدرات الدفاع الجوي/الصاروخي والمراقبة البحرية.
ومن المفترض أن تتضمن التدريبات المستقبلية أيضاً قاذفات “بي-5″، حيث ستكون رسالة ردع واضحة نظراً لقدرتها على اختراق منظومات الدفاع الجوية الحديثة وإسقاط القذائف الخارقة للتحصينات. كما أنها تنقل هذه الرسالة من دون الحاجة إلى الجلبة والاستعراضات (فالدهاء يثير إعجاب طهران أكثر من التباهي عموماً). وإذا كانت واشنطن جادة حقاً في عدم السماح لإيران بامتلاك أسلحة نووية (انظر أدناه)، ينبغي أن تكون قاذفات “بي-5” جزءاً من أي تدريبات مستقبلية في الشرق الأوسط، تماماً كما تكون موجودة بشكل روتيني في التدريبات التي تجرى في أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
مناورة ناجحة وسياسة شائبة
ليس هناك أي تدريبات عسكرية – مهما كانت مبهرة – قادرة على طمأنة الأصدقاء وردع الخصوم ما لم تتغير سياسة واشنطن الشائبة تجاه إيران. ويتطلب تحقيق هذه الأهداف ما يلي:
اتساق الرسائل: كانت رسائل إدارة بايدن بشأن برنامج إيران النووي متباينة. ففي حزيران/يونيو 2021، تعهد الرئيس الأمريكي بأن “إيران لن تحصل على سلاح نووي في عهدي”. وفي تموز/يوليو 2022، التزمتواشنطن، بموجب “الإعلان المشترك للشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل”، “بعدم السماح مطلقاً لإيران بامتلاك أسلحة نووية”. وبعد يومين، كرر بايدن هذا الالتزام في قمة جدة للأمن والتنمية التي شاركت فيها دول “مجلس التعاون الخليجي” و3 دول أخرى، ومرة أخرى في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر.
ولكن في 22 تشرين الثاني/نوفمبر، أشار منسق الاتصالات الاستراتيجية في “مجلس الأمن القومي” الأمريكي جون كيربي إلى أن الولايات المتحدة “لن تسمح لإيران بامتلاك القدرة على صنع أسلحة نووية”، وهي صيغة كررها في مناسبتين أخريين على الأقل (20 كانون الثاني/يناير و27 كانون الثاني/يناير). وفي بيان للمتحدثة باسم “مجلس الأمن القومي” أدريان واتسون بتاريخ 19 كانون الثاني/يناير حول الرحلة الأخيرة التي قام بها مستشار الأمن القومي جيك سوليفان إلى إسرائيل، شددت واتسون على “التزام الولايات المتحدة بحرصها على عدم تمكّن إيران أبداً من الحصول على سلاح نووي”، في صيغة ثالثة محرّفة نحوياً من هذا الالتزام.
وعادة ما تكون البيانات الرئاسية هي الكلمة الأخيرة عندما يتعلق الأمر بالسياسات، لكن هذه الصيغ التي أدلى بها مؤخراً المرؤوسون تثير التساؤلات عما إذا كانت السياسة الأمريكية قد تغيرت، لأن عدم السماح لإيران بامتلاك “سلاح نووي” يختلف كثيراً عن عدم السماح لإيران بامتلاك “القدرة على صنع أسلحة نووية”. وقد يؤكد هذا التباين النظرة السائدة لدى الكثيرين من الحلفاء والشركاء بأن الولايات المتحدة تفتقر إلى سياسة مدروسة، مما يدل على حالة ارتباك قد تشجع طهران على اختبار واشنطن بشكل أكبر من خلال تكثيف أنشطتها النووية.
القدرة والمصداقية: تهدف مناورات “جونيبر أوك” جزئياً إلى إظهار إمكانيات استعراض القوة الأمريكية وقدرة الولايات المتحدة على التركيز على الشرق الأوسط، في الوقت نفسه الذي تتعامل فيه مع الحرب في أوروبا والتوترات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وقد نجحت المناورات على هذا الصعيد. غير أن أصدقاء واشنطن وخصومها لا يشكّون في قدرتها المثبتة على استعراض القوة – بل يشككون في التزامها وعزيمتها. فقد خسرت الولايات المتحدة من مصداقيتها بسبب فشلها في الرد بحزم أكبر على الهجمات التي تعرضت لها أهداف تابعة لها ولشركائها في المنطقة.
وعلى الرغم من أن هذه المشكلة كانت موجودة قبل فترة طويلة من وصول الرئيس بايدن إلى الحكم، إلا أن إدارته لم تردّ بشكل علني إلا ثلاث مرات فقط على عشرات الهجمات بالطائرات بدون طيار والصواريخ والعبوات الناسفة ضد الأفراد والمصالح الأمريكية في العراق وسوريا (علماً بأن الهجمات في العراق قد تراجعت بشكل حاد خلال الأشهر الستة الماضية). ويدّعي المسؤولون أن ردود الإدارة الأمريكية قد لا تكون دائماً ظاهرة، غير أن أعمالها المعلنة تدل على الخوف والتناقض. وبالفعل، فقد تعرضت الحامية الأمريكية في التنف بسوريا لهجوم قبل يومين من بدء مناورات “جونيبر أوك”، ولا توجد إشارة على أي رد أمريكي منذ ذلك الحين. وحتى استراتيجية المنطقة الرمادية الناجحة التي تعتمد إلى حد كبير على الأنشطة السرية أو غير المعلنة تلجأ أحياناً إلى الأفعال العلنية لإظهار العزم.
وضع الحدود: تشمل الطرق التي يمكن استخدامها لمواجهة تحديات السياسات المتعلقة بالرسائل والمصداقية، تحديد واشنطن خطوطها الحمراء وفرض احترامها فيما يتعلق بأنشطة إيران الإقليمية والنووية. وعادة ما يسعى صانعو السياسات إلى تجنب الالتزامات من أجل إبقاء الخيارات مفتوحة، وغالباً لم يكن المسؤولون الأمريكيون على استعداد لوضع الخطوط الحمراء بشأن إيران. غير أن وضع هذه الخطوط قد يكون مفيداً إذا ما التزمت بها واشنطن، وإذا كانت تتمتع بدعم الحزبين والشعب.
ومع ذلك، فإن التأثير على طهران لحملها على وقف الهجمات ضد العناصر والمصالح الأمريكية قد لا يتطلب بالضرورة وضع خطوط حمراء محددة رسمية، بل يمكن أن تضع الولايات المتحدة حدودها بالأفعال. إذ يجب أن تقابَل الهجمات غير القاتلة بردود غير قاتلة تفرض تكاليف مادية كبيرة على إيران، أما الهجمات المميتة فتستحث ردوداً مميتة متباينة لإلحاق تكاليف لا ترغب طهران في تكبدها. وفي كلتا الحالتين، يجب أن تتم هذه الردود من خلال أنشطة المنطقة الرمادية بشكل رئيسي.
وفي المجال النووي، تحتاج واشنطن فعلاً إلى رسم خط أحمر لوقف مسعى طهران المستمر إلى تخزين المواد الانشطارية. وعلى وجه التحديد، يجب عليها تكثيف إنفاذ العقوبات والإشارة إلى أن تخصيب اليورانيوم بما يتجاوز 60% سيؤدي إلى تعطيل الولايات المتحدة لهذه الأنشطة وفرض تكاليف باهظة على إيران (لمعرفة المزيد عن الجوانب التقنية للتخصيب، انظر تفسير التطور النووي الإيراني الصادر عن معهد واشنطن). وبموازاة المناورات مثل “جونيبر أوك”، فإن هذا النهج من شأنه أن يلمح إلى استعداد واشنطن بشكل أكبر لتحمل المخاطر عند مواجهة الأنشطة الإشكالية للجمهورية الإسلامية.
وإذا كان صانعو السياسات لا يرغبون في وضع خط أحمر واضح في الشأن النووي، عليهم أن يشرحوا للحلفاء والشركاء كيف ينوون وقف أو معالجة العواقب المترتبة عن مسعى إيران الجاري لتخزين المواد الانشطارية ومحاولاتها المستقبلية المحتملة لإنتاج اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة (أي التخصيب بنسبة 90%). وعليهم أيضاً أن يشرحوا ما إذا كانت سياسة الولايات المتحدة هي منع إيران من الحصول على قدرة صنع أسلحة نووية أو امتلاك سلاح نووي، وكيف سيحققون هذين الهدفين. وعلى أي حال، يجب أن تكون التدريبات العسكرية مثل “جونيبر أوك” جزءاً من استراتيجية تشكيل أكبر للحكومة بأكملها تستخدم جميع أدوات القوة الوطنية لطمأنة الدول الصديقة وردع إيران.
الخلاصة
لقد تعثرت السياسة الأمريكية على مدى عقود بسبب النفور من المخاطرة والتجارب عند استخدام الأداة العسكرية لردع أنشطة إيران الإقليمية والنووية وتعطيلها. ولكن الحاجة أم الاختراع، وقد تؤدي أوجه القصور في السياسة الحالية إلى تغيير هذا النهج.
بيد أن الولايات المتحدة أظهرت مراراً وتكراراً قدرتها على الابتكار عند التعامل مع إيران. فقد دخلت مثلاً، منذ قرابة العقدين، في شراكة مع إسرائيل للاضطلاع بدور ريادي في استخدام العمليات السيبرانية الهجومية (مثل “ستكسنت” Stuxnet) التي أخّرت البرنامج النووي وكسبت الوقت اللازم للدبلوماسية؛ ومنذ أكثر من عقد، أوقفت سياسة العقوبات السابقة لتفرض قيوداً صارمة على الأنشطة المالية وصادرات النفط الإيرانية، فأخضعتها لضغوط غير مسبوقة؛ وفي الآونة الأخيرة، كانت تعمل على تجربة تقنيات عسكرية ومناهج تشغيلية جديدة (مثل المنصات غير المأهولة المتصلة بالشبكة، والخيارات الأكثر مرونة لنشر القوات، والشراكات الإقليمية الجديدة) للتعويض عن خفض عدد القوات في المنطقة.
ومع ذلك، متى تطلّب الأمر استخدام القوة بشكل محدود، غالباً ما ردعت واشنطن نفسها بسبب مخاوف مفهومة بل مبالغ فيها من أن تؤدي الحسابات الخاطئة إلى “حرب شاملة” مع إيران. وبذلك حرمت نفسها من فرصة اكتساب براعة أكبر في أنشطة المنطقة الرمادية، والتأثير على خيارات طهران، وتقييد أنشطتها بالوسائل العسكرية. والنتيجة هي أنها أصبحت مجرد قوة عظمى تملك فكرة منقوصة عن كيفية استخدام الأداة العسكرية لدعم فن الحكم.
واليوم، تشكل “جونيبر أوك” انحرافاً عن المسار الماضي كونها مثالاً على الابتكار في كيفية إجراء مناورات مشتركة كبيرة ومعقدة. ونأمل أن تكون محفزاً لأشكال أخرى من التجارب من قبل وزارة الدفاع الأمريكية والقيادة المركزية الأمريكية، بما يمكّن صانعي السياسات من اختبار المفاهيم القديمة أو الخاطئة والتخلص منها، والسماح بنوع من المخاطرة المدروسة والتعلم التشغيلي الذي قد ينتج سياسة أكثر نجاحاً تجاه إيران.
مايكل آيزنشتات
معهد واشنطن