يوماً بعد يوم يتوغل الكوكب في مجموعة من الاضطرابات لا هي تحاكي الصراعات الحادة في القرن الماضي ولا هي تستند إلى ما يشبه توازنات القوة والرعب في ذلك القرن. العالم الجديد الذي يصيبنا بالدوران أكثر فأكثر، يبدو فيه الرعب أكثر سينمائية وتهوراً من البحث عن إعادة إنتاج توازنات ومعادلة مستقرة لفترة ملحوظة من الزمن. وإن كانت السمة العامة لهذا العالم هي استمرار الصدارة الغربية، وفي المقدمة منها الأمريكية، رغم تراجع أدوات التحكم الأمريكية والغربية عموماً أكثر فأكثر على الصعيد العالمي، لا سيما الآسيوي.
من جهة تمضي حرب الضم والغزو الروسية على أوكرانيا، رغم كل العثرات والتصدعات التي أظهرتها في آلة هذه الحرب الروسية، ويتسع الانخراط الغربي في دعم أوكرانيا أكثر فأكثر، ليس من دون نتوءات في الالتفاف الأوروبي حول كييف، لا سيما في بلدان مثل المجر وبلغاريا.
وفي الداخل الروسي، بدل أن يؤدي التعثر على الجبهة إلى انتشار نزعة اعتراضية واسعة تدعو للعدول عن هذه الحرب، أو لمحاسبة المتسببين برمي عشرات آلاف الشبان الروس في هذه التهلكة، لا تزال النظرة إلى الصراع على أنه مسألة حياة أو موت لروسيا، هي الطاغية، وقد جاءت الذكرى الثمانينية للانتصار السوفييتي في معركة ستالينغراد مطلع هذا الشهر لتتلقفها الدعاية الرسمية فتضفي على التأرجح الحاصل على الجبهة، والنزيف الحاد في قطاعات الجيش الروسي كافة، سمات «ملحمية» تذكر بمعركة ستالينغراد، غير آبهة بالاختلاف بين معركة 1943 واليوم، من جهة أن موسكو اليوم هي الطرف المعتدي، لا المعتدى عليه.
وبالتوازي، بدلا من أن نرى على الجبهة الآسيوية الشرقية، نوعا من سعي غربي لاستمالة الصين، أو محاولة إبعادها عن روسيا، والانطلاق من التحفظ الذي ظهر في موقفها من عملية غزو الأراضي الأوكرانية، لأجل تهدئة ومن ثم ترطيب العلاقات الصينية الغربية وبخاصة مع الولايات المتحدة، والابتعاد عن شبح انبثاق محور موسكو – بكين كمعطى جيوستراتيجي صلب، وليس فقط كتقاطع مصالح وأهواء نسبي، فإن ما جرى ويجري هو بخلاف ذلك تماماً: فإلى أين يمكن أن يصل التأزم المتصاعد في العلاقة بين واشنطن وبكين، والمتصل راهناً، بأزمة «البالون»؟ خاصة وأنه، ما بين المنطاد الصيني وإسقاطه، والمناطيد الأمريكية التي رصدتها الصين فوق أراضيها، ومن ثم الأجسام الغريبة التي أسقطها الأمريكيون فوق بلادهم وكندا، والقال والقيل الذي أدخل الكوكب في أجواء من الخيال العلمي الفائق حول مصدرها، وبث تقارير في المقابل تربطها بمنظومة استخبارية جوية صينية متقدمة فوق الولايات المتحدة، فإن الصين تعود وبسرعة، وبشكل أعلى بكثير مما كانت الحال عليه أيام ادارة الرئيس السابق دونالد ترامب، لتتفوق على روسيا في خانة الدولة المصنفة كخصم أساسي، إن لم يكن كعدو للولايات المتحدة الأمريكية.
ويضاف إلى ذلك أنه، لئن كانت النظرة النمطية الغالبة حاليا في أمريكا والغرب إلى روسيا أنها دولة عدوانية على جيرانها إنما دولة ما عادت تملك في الوقت نفسه شروط تحقيق وإنجاح عدوانيتها، ديموغرافيا واقتصاديا وتكنولوجيا وعلى مستوى التعبئة المعنوية العامة، فإنه يجري تصوير الصين على العكس تماماً على أنها المخترع الشرير، الذي يصلي الكوكب مرة بفيروس قاتل ويبعث مرة ثانية مناطيد بل و«صحون طائرة» استخبارية فوق الأراضي الأمريكية، ويعمل في الليل والنهار على إعداد العدة لمهاجمة تايوان وإعادة ضمها إلى البرّ الصيني، ويستطيع أن يعتمد بين الفينة والفينة على اختبارات الرعب الكورية الشمالية، فكيف إذا قام الصينيون بدعم روسيا بالتجهيز التكنولوجي اللازم إسوة بالدعم الغربي لأوكرانيا. يضاف إلى ذلك، مع زيارة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الحالية إلى بكين، التداخل المحتمل بين كل المحاور والملفات، على الرغم من التحفظ الذي أبدته ايران مؤخراً بشكل أو بآخر، على التطور في العلاقات الصينية العربية، وتحديداً السعودية. عالمنا يمضي في اتجاه أزمة أمريكية صينية لا يبدو أن الضوابط المعتادة في العلاقة بين البلدين قادرة على لجمها.
القدس العربي