شهدت إسرائيل عملية فتاكة أخرى في القدس، لكن رغم المؤشرات المتواصلة للعنف الفلسطيني، تواصل نفياً تاماً لما كتب بأحرف كبرى على الحائط منذ سنة ونصف: انتفاضة ثالثة!
صحيح أن الانتفاضة الحالية لا تشبه تماماً الأخيرة التي نشبت في أيلول 2000 ولا سابقتها في أواخر 1987. ليس فيها العنصر المعروف لانفجار شعبي واسع واحتكاك بين الجيش الإسرائيلي والسكان المدنيين، الأمر الذي ميز الانتفاضتين الماضيتين في مرحلتهما الأولى، لكن فيها عنصر الموجة الثانية التي رافقت كلاً منهما، أي – إرهاب قاس ضد مدنيين إسرائيليين ويكمن فيها أساس العنصر المهم الذي يقرر ما إذا كانت هذه انتفاضة أم موجة إرهاب أخرى.
ما يجعل “موجة الإرهاب” انتفاضة هو عنصر التحدي الذي يكمن فيها للنظام الاستراتيجي القائم. في السياق الحالي، يدور الحديث عن نظام صممته إسرائيل في فترة العقد والنصف الأخيرة وأكسبها إحدى فترات الهدوء الأمني الأطول التي شهدتها. وهو يعتمد على نموذج “السلام الاقتصادي”، وبتعبير آخر، على القدرة على إحلال الاقتصاد بدل الأيديولوجيا.
لا يدور الحديث عن ابتكار جديد؛ فالحالم بالدولة صاغه منذ نهاية القرن التاسع عشر، ويكاد كل قادة الصهيونية ساروا خلفه في الفهم بأن الصهيونية ستنقذ الشرق بقوة حداثتها. هذا الفهم ترجم في السنوات الأخيرة إلى استراتيجية بفضل المكانة الاقتصادية التي حققتها إسرائيل وحصانتها التكنولوجية. هكذا كان بوسعها أن تعرض على جيرانها العرب الفلسطينيين (في “المناطق” [الضفة الغربية]، وفي إسرائيل ذاتها، وفي شرقي القدس وغزة) جودة حياة مقابل تلطيف حدة الأحلام الأيديولوجية والفاعلية السياسية.
لكن أحداث فترة السنة والنصف الأخيرة، منذ “حارس الأسوار” في أيار 2021، تُظهر صدوعاً في هذه الاستراتيجية. والتعبير عن ذلك هو العنف الذي نشب وكان مشتركاً بكل أجزاء الساحة الفلسطينية: من عرب إسرائيل في المدن المختلطة، عبر البدو الفوضويين في النقب، إلى الفلسطينيين في مناطق نابلس وجنين، من خلال الجهاد الإسلامي غزة، وحتى شباب شرقي القدس. كل واحد بدوره أظهر مقته لـ “السلام الاقتصادي”، وسعى لتحدي هذه الاستراتيجية وإعادة المنطقة إلى سياسة الهوية القديمة للشرق الأوسط الذي يتعاطى مع النزاعات القومية والدينية على حد سواء.
بهذا الشكل اختلطت في فترة السنة والنصف الأخيرة كل أجزاء الساحة الفلسطينية، وتشوشت الحدود بينها ونسجت معاً كل أنواع العنف وتعريفاته، ذاك القومي وهذا الجنائي إلى انتفاضة ثالثة. لكن الوعي الإسرائيلي يرفض رؤية الصورة الشاملة. بدلاً من ذلك، يفضل أن يؤطر الأحداث في تعريفات ضيقة مثل “موجات إرهاب” والغرق في عالم من الحلول التكتيكية بينما يدور الحديث عن تحدٍ بحجم آخر تماماً أكبر من حجوم وزير أو حملة موضعية في القدس.
يدور الحديث عن تحد لانهيار نظام استراتيجي يحتاج أكثر بكثير من أعمال مثل هدم منازل المخربين، وإجراءات طرد ومعالجة التحريض في الشبكات، وقد يكون لهذه أثر معين. ولكن بدون فكرة استراتيجية مرتبة عن الشكل الذي يمكن لإسرائيل أن تصلح الصدوع في السور الواقي (الاقتصادي) الذي طورته في السنوات الأخيرة، لن نتحرر أيضاً من الحرج العملياتي المميز في ضوء عدم النجاح في التصدي للإرهاب وسنسير بيقين إلى تصعيد آخر في الوضع.
القدس العربي