أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وعودا بإعادة إعمار المناطق المنكوبة جراء الزلزال بسرعة، متجاهلا أهمية التخطيط لسلامة المباني في بلد يذكره التاريخ كأحد أكثر المناطق نشاطا على مستوى الزلازل، وهو ما عرّضه للانتقادات وذكّر بتصريحات سابقة لوزراء ومسؤولين لطالما اتهموا النظام الحاكم بالسيطرة على قطاع الإنشاءات والتفريط فيه لصالح شركات صديقة، دون مراقبة أو اهتمام بضرورة الالتزام بمعايير السلامة.
إسطنبول – سارع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للترويج لخطته لإعادة إعمار المناطق المتضررة من الزلزال الذي ضرب تركيا في السادس من فبراير، مؤكدا أن عاما واحدا سيكون كافيا للإعمار، وهو ما يحذر خبراء من خطورته، حيث يؤكدون أن التسرع في إعادة الإعمار يعرض تركيا لكوارث أكبر في حال ضربت البلاد زلازل أخرى ربما ستكون أكثر خطورة.
وبالفعل، ضرب زلزال بقوة 6.4 درجة، الاثنين، منطقة “دفنة” بولاية هطاي التركية (جنوب)، ما أدى إلى وفاة 6 أشخاص، وإصابة 294 آخرين بينهم 18 بحالة خطيرة.
ويأتي زلزال هطاي بعد أسبوعين على زلزال مزدوج ضرب ولاية قهرمان مرعش (جنوب) بقوة 7.7 درجة و7.6 درجة، وطال تأثيرهما الشمال السوري، ما خلف خسائر كبيرة بالأرواح والممتلكات في البلدين. ولا يزال خبراء يحذرون منذ ذلك الحين من ارتدادات ستعقب الزلزال الذي لقب بـ”زلزال القرن”.
وقال مهندسون معماريون ومدنيون إن خطة الرئيس أردوغان لإعادة الإعمار سريعا بعد الزلازل المدمرة التي ضربت بلاده تنذر بوقوع كارثة أخرى، ما لم تتم إعادة النظر بعناية في التخطيط الحضري وسلامة المباني.
فبعد أيام على وقوع أسوأ زلزال بتركيا في التاريخ الحديث، تعهد أردوغان بإعادة بناء المنطقة الجنوبية التي شهدت وقوع الكارثة في غضون عام، وهو تعهد تشير تقديرات متحفظة إلى أن تكلفته ستبلغ نحو 25 مليار دولار، في حين تشير توقعات أخرى إلى أنها أعلى من ذلك بكثير.
واتسم حكم أردوغان المستمر منذ عقدين بازدهار التطوير العمراني. ووفقا لحسابات رويترز، جمعت حكومته نحو 38 مليار دولار من الضرائب المرتبطة بالزلزال. ويمكن أن توفر هذه الضريبة، التي لا تزال سارية، تمويلا سريعا لبدء جهود إعادة البناء.
yy
وفي مواجهة الانتخابات المقررة في يونيو المقبل، تتعرض حكومة أردوغان لموجة من الانتقادات بسبب أسلوب تعاملها مع ما حدث من دمار، وما يقول كثيرون من الأتراك إنه نتاج سياسات على مدى سنوات أدت إلى تدمير عشرات الآلاف من المباني بسهولة.
وقال أردوغان إن الحكومة ستغطي إيجارات من يغادرون المدن التي ضربها الزلزال. وأضاف “سنعيد بناء هذه المباني في غضون عام ونعيدها إلى المواطنين”.
لكن الخبراء يعتقدون أنه بحاجة إلى تطبيق معايير السلامة من الزلازل بعناية، وتشييد مبان أكثر أمانا في المنطقة التي تمتد على أحد خطوط الصدع الثلاثة التي تتقاطع مع تركيا.
وفي إسطنبول، قالت إيسين كويمين، الرئيسة السابقة لغرفة المهندسين المعماريين في المدينة، “إحلال المباني المهدمة ليس هو الضروري فحسب، لكن أيضا إعادة تخطيط المدن بناء على البيانات العلمية مثل عدم البناء على خطوط الصدع وتعلم الدروس من أخطاء الماضي”. وأضافت “التخطيط الجديد هو ما يجب أن يتصدر الأولويات وليس البناء الجديد”.
وتسببت الزلازل التي وقعت في تركيا، والتي ضربت سوريا المجاورة أيضا، في تشريد ما يربو على مليون شخص ومقتل عدد أكبر كثيرا من أحدث حصيلة رسمية بلغت 46 ألف شخص في كلا البلدين.
وسُجّلت أكثر من ستة آلاف هزّة ارتدادية في المنطقة منذ السادس من فبراير على طول الفالق الأناضولي.
وقال خبراء إن الزلازل كشفت عن هشاشة البنية التحتية لتركيا لأنها دمرت المباني الحديثة والقديمة، بما في ذلك مستشفيات ومساجد وكنائس ومدارس، وأضرت حتى بالمقابر مثل المقبرة المركزية بأنطاكيا التي سجلت اقتلاع أشجار وتحطم شواهد قبور.
ويشعر البعض الآن بالقلق من أن الإطار الزمني الطموح للحكومة لا يترك سوى القليل من الوقت لإصلاح أخطاء الماضي.
وقال نصرت سونا، نائب رئيس غرفة المهندسين المدنيين، “عندما يقولون ‘نبدأ البناء في شهر’، فإننا ننتهي منه في عام. وعدم الانتهاء من التخطيط للمدينة يعني صراحة أن الكارثة التي نمر بها لم يتم أخذها في الاعتبار”. وأضاف “يستغرق الأمر شهورا لوضع مخططات للمدينة… من الخطأ الفادح تجاهل تلك الخطط”.
وقال وزير البيئة والتطوير العمراني مراد قوروم الأسبوع الماضي إن الحكومة ستدرس المسوحات الجيولوجية التفصيلية في خطط إعادة إعمار المدينة، وإنه سيتم طرح عطاءات.
شركات صديقة
أفاد تقرير لبنك “جي.بي مورغان” الأميركي بأن فاتورة إعادة بناء المنازل وخطوط النقل والبنية التحتية تبلغ نحو 25 مليار دولار أو 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وقدر تقرير آخر صادر عن اتحاد أرباب العمل في تركيا “توركونفيد” قيمة الخسائر التي لحقت بالمساكن بنحو 70.8 مليار دولار. ويقول محللون إن التكاليف ربما تتجاوز التقديرات الأولية.
وعلى مدى عشرين عاما في السلطة، استغل أردوغان المشروعات العقارية الكبرى للحديث عن ازدهار تركيا الآخذ في النمو. ووفرت أعمال بناء المباني العامة والخاصة المزيد من الوظائف وزادت من المعروض في المساكن ودعمت نتائج التأييد له في استطلاعات الرأي.
وتشكل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي تلوح في الأفق، والتي ربما تتأخر بسبب الزلزال، أكبر تحد سياسي لأردوغان حتى الآن، بالنظر إلى أن أزمة تكلفة المعيشة ألقت بثقلها على الأتراك قبل وقوع الكارثة بوقت طويل.
ويقول بعض المنتقدين إن الدولة فاقمت الأزمة بمنحها عقود بناء مربحة على مدى سنوات لشركات “صديقة” مقابل دعم سياسي ومالي. وقالت بينار جيريتلي أوغلو، رئيسة غرفة مخططي المدن في إسطنبول، “لسوء الطالع، يستمر النظام الريعي، وليس العلم، في السيطرة على كل شيء”. وتعهدت الحكومة بالتحقيق مع أي شخص يشتبه في مسؤوليته عن انهيار مبان، واعتقلت العشرات حتى الآن.
مبان مقاومة للزلازل
الدولة فاقمت الأزمة بمنحها عقود بناء مربحة على مدى سنوات لشركات “صديقة” مقابل دعم سياسي ومالي
على الرغم من عدم وجود بيانات محددة عن أكثر من 20 مليون مبنى في البلاد، قال وزير التطوير العمراني السابق محمد أوزهسكي عندما كان في منصبه في منتصف عام 2018 إن “أكثر من 50 في المئة من جميع المباني” مخالفة للوائح الإسكان. ولم ترد وزارة التطوير العمراني حتى الآن على أسئلة حول الأرقام الحالية.
ويتهم ساسة معارضون حكومة أردوغان بعدم إنفاذ لوائح البناء وبسوء إنفاق إيرادات الضرائب الخاصة التي تتم جبايتها منذ الزلزال الكبير الذي وقع في عام 1999، من أجل جعل المباني أكثر مقاومة للزلازل.
ونفى أردوغان مرارا ما وصفه بأكاذيب المعارضة التي تستهدف عرقلة الاستثمار.
وفي عام 2018، أصدرت الحكومة عفوا عن المباني القائمة التي انتهكت قواعد البناء مقابل رسوم، وهي ممارسة نُفذت أيضا في ظل حكومات سابقة قبل عام 1999، في حين شيدت وكالة الإسكان الحكومية “توكي” مليون منزل فقط مقاومة للزلازل على مدى العقدين الماضيين، أي نحو خمسة في المئة من المباني في تركيا، وبنى القطاع الخاص ما يزيد قليلا عن مليوني منزل مقاوم للزلازل خلال ذات الفترة، بحسب وزير التطوير العمراني الحالي قوروم.
العرب