تختار الدّول تفاصيل بروتوكولات الزيارات والقمم الرسميّة بعناية، لإنها إما تبعث من خلالها رسائل رمزيّة، أو أن الآخرين يبحثون عمّا قد تحمله من معان، أو كليهما معاً.
هذا تماماً ما كان هذا الأسبوع، حيث وقف الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطانيّ ريشي سوناك، ورئيس وزراء أستراليا أنتوني ألبانيز، جنباً إلى جنب، أمام كاميرات التلفزيون على متن السفينة العسكريّة «يو أس أس ميسوري»، بينما أحاط بهم البحارة الأمريكيّون، في استعادة تكاد تكون حرفيّة للقاء الرئيس الأمريكيّ فرانكلين روزفلت ورئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل عام 1941 على سفينة عسكريّة قبالة ساحل نيوفاوندلاند، للإعلان عن توقيع ميثاق حلف شمال الأطلسي، ووضع تصميم مشترك للنظام الدّوليّ ما بعد الحرب العالميّة الثانية – التي كانت اندلعت قبلها بعامين إثر غزو ألمانيا النازية لبولندا.
فالمناسبة خصصت للإعلان عن تفاصيل تنفيذ اتفاق «أوكوس» بين الدّول الثلاث بشأن التعاون في مجال الغواصات ذات الوقود النووي وإدارة المعلومات والحرب الإليكترونيّة، بهدف مواجهة نفوذ الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والرسالة واضحة: هذه الدّول الثلاث، التي خاضت متحالفة حربين عالميتين في القرن الماضي للدّفاع عن نظام دوليّ يخدم مصالحها الاستراتيجيّة، مستعدة لتجديد هذا التحالف في هذا القرن أيضاً، وعزمها على خوض مواجهة عالميّة جديدة إن تطلب الأمر، ولذات الغاية.
تضمنت الخطط التنفيذيّة، التي أعلنت عنها القمّة العتيدة عن خطّة لإنشاء أسطول من جيل جديد لغواصات تعمل بالطاقة النووية، تشمل بداية تزويد أستراليا بغواصات أمريكيّة من نوع «فرجينيا»، التي لم تبعها الولايات المتحدة من قبل سوى لبريطانيا بحلول عام 2030، على أن يتم التشارك بين الدّول الثلاث في هذه الأثناء لبناء طراز أحدث. كما شملت الخطة تفاصيل بشأن تدريب الكوادر واستخدام القواعد البحريّة الأسترالية من قبل الغواصات الأمريكيّة والبريطانيّة.
وعلى هامش القمّة تعهد بايدن بالإنفاق على تطوير الجيل الحالي من «فرجينيا»، وكذلك فعل سوناك، الذي كان أعلن عن تخصيص ميزانيّة دفاعيّة إضافيّة بما يعادل 6 مليارات دولار أمريكي تنفق خلال عامين، ستون بالمئة منها للاستثمار في صناعة الغواصات النووية. لكن الثقل الأكبر للاتفاق ستتحمله أستراليا، التي يتعيّن عليها الآن تسديد تكاليف باهظة تصل إلى 225 مليار دولار أمريكيّ على مدى العقود الثلاثة المقبلة، في ما يعد أعلى مبلغ خصص للدفاع في تاريخ الدولة الأستراليّة.
الولايات المتحدة اختارت الصين عدواً استراتيجياً
توافق محللون عديدون، استضافتهم القنوات التلفزيونيّة الغربيّة، أن الأمريكيين يريدون من هذا الاتفاق ردع الصين عن تعميق تحالفها مع روسيا، بعد اندلاع النّزاع في أوكرانيا، ومنعها عن الاستفادة من ارتباك ما يسمى بالنّظام الدّولي لتحقيق طموحاتها باستعادة جزيرة تايوان، إلى الصين الأم.
ولا شكّ أن هذه قد تقرأ بالفعل من منافع «أوكوس»، لكّن الحقيقة أنّ الولايات المتحدة، وقبل حرب أوكرانيا اختارت بعد انقضاء مفاعيل الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق (1991) عدواً استراتيجياً جديداً يتمثل في الصين، رغم الشراكة الاقتصادية الهائلة بينهما، وذلك من منطلق الصعود التراكمي لذلك البلد، الذي أصبح اقتصاده أكبر من اقتصاد دولة العالم الأعظم، أو هو كاد، ومقوماته العسكريّة والتقنيّة ذات التحسن المضطرد على نحو قد يجعل منه منافساً جديّاً لتحدي الهيمنة الأمريكيّة على شؤون الكوكب الأرضي خلال العقود المقبلة.
لكن الولايات المتحدة في ما يبدو لا تريد خوض حملتها ضد الصّين وحيدة، وإنّما تريد من حلفائها تحمّل المخاطرات الاستراتيجيّة، كما التكاليف الماديّة لتلك الحملة، وهي تستخدم كافة المنصات من حلف شمال الأطلسي إلى أوكوس – مروراً بالاتحاد الأوروبي والاتفاقيات الثنائيّة والإقليمية المختلفة – للدفع في هذا الاتجاه.
ولكن ما هي مصلحة شعوب العالم في السير واتباع هذا الهذيان الأمريكيّ ضد الصين؟
بريطانيا: العجوز التي تعاند التّقاعد
تبدو بريطانيا – على تعدد رؤساء حكومتها الكثيرين خلال الأشهر القليلة الماضية – الأعلى صوتاً في دعم السياسات الأمريكيّة ضد الصين. وكشف سوناك في أجواء قمّة «أوكوس» عن وثيقة محدثة للمضمون الاستراتيجيّ للسياسة الخارجيّة لبلاده تعتبر الصين التهديد المنهجي في هذا العصر لأسلوب حياة وقيم المواطنين البريطانيين، وتتعهد باتخاذ إجراءات حاسمة وقوية ضدّها إذا لم تلتزم بمقتضيات النظام الدّولي، كما يراه الغرب. ويجادل المحافظون الذين يقودون بريطانيا منذ أكثر من عقد بأن أمن أوروبا «لا ينفصل» عن أمن منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لا سيما بالنظر إلى العلاقة الوثيقة بشكل متزايد بين روسيا والصين، ولذلك فإن أوكوس – وفق المحافظين دائماً – يمنح بريطانيا دوراً أوسع بشكل ما في محيطها الأوروبيّ – وإن من البوابة الدّفاعيّة المحض. وهو ما يرضي غرورها أيضاً بعدما فقدت جزءا من قيمتها الاستراتيجيّة في النظام الدّولي كبوابة أنجلو – ساكسونيّة للاتحاد الأوروبيّ، وأصبحت في حال بحث مقيت عن دور جديد على مسرح العالم.
لكن قراءة باردة للواقع ترى أن «أوكوس» قد تكون ملائمة لبريطانيا في عشرينيات القرن الماضي، بعدما خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى، وظلت قوة إمبريالية لها مستعمرات وقواعد في المحيط الهادئ. لكن هذه الشراكة لم تعد واقعيّة في عشرينيات القرن الحادي والعشرين وقد أكل الدّهر وشرب على النفوذ الإمبراطوري البريطاني، وبعدما تحولت سيّدة أعالي البحار إلى مجرد جزيرة هامشية غارقة في لجّة مشاكل بنيوية اقتصادية واجتماعيّة، لا يسهل حلّها، أقلّه مقارنة بالجيران الأوروبيين، إن لم نذكر الصين وروسيا، وحتى الهند والبرازيل وإيران. وبالتالي، فإن هذه الاتفاقية التي ستضيف إلى أعباء الخزينة العامّة بعدّة مليارات تذهب لجيوب صانعي الأسلحة، لن تضيف كثيراً إلى المملكة المتحدة، لكنّها ستستهلك موارد كان الأولى بها أن توجه لإصلاح قطاعات الصحة والتعليم والنقل، أو لتحسين دخول ملايين العائلات الفقيرة، التي تجمدت قيمة رواتبها عند مستويات تعود لخمسين عاماً في مواجهة أعلى مستويات التضخم منذ الحرب العالميّة الثانية.
أستراليا: المقامرة بكل شيء من أجل عيون واشنطن
الوضع في أستراليا أسوأ بما لا يقاس. فالحكومة العماليّة التي يقودها ألبانيز، لا تبدد ثروة ضخمة عبر الأجيال الحالية والقادمة على شراء ثلاث وأربع غواصات هجوميّة الطابع فحسب، وإنما تخاطر بالتحوّل إلى ملعب لتصفية الحسابات بين قوتين نوويتين جبارتين، وتهدد بلا مبرر كاف، وبشكل سافر العلاقة مع جارها الأبدي – الصين – الذي بالصدفة أيضاً هو شريكها الاقتصادي الحاليّ الأكبر والأهم، وهي كانت أفسدت علاقتها بالفرنسيين أيضاً، بعد ما ألغت معهم عقداً ضخماً لشراء غواصات لمصلحة الانتقال إلى اتفاق «أوكوس». وليس مفهوماً بأي مقاييس الفائدة المرجوة من وراء امتلاك البحرية الأستراليّة القدرة على توجيه ضربات صاروخيّة طويلة المدى، في وقت أن أعداءها المفترضين أو المنافسين في الإقليم – روسيا والصين والهند وكوريا الشمالية، جميعها تمتلك قدرات عسكريّة هائلة وأسلحة نووية ذات دمار شامل.
ألمانيا واليابان أيضا
لا يقتصر مفعول الهستيريا ضد الصين على الدول الأنجلو – ساكسونيّة، إذ أن الولايات المتحدة استخدمت نفوذها للضغط على ألمانيا واليابان، اللتين منعتهما واشنطن طوال عقود من التسلح الهجوميّ، إلى العودة إلى فضاء العسكرة. وسيجد شعبي البلدين بدورهما أنّهما سيدفعان فائض ثروتهما للأمريكيين، مقابل الحصول على أسلحة متطورة لا يكمن استعمالها بالفعل، فيما تتعرض أراضيهما لأخطار النّزاعات بين القوى النووية الكبرى.
على بوابة الحرب
لقد انتهت المظاهر الاحتفاليّة على يو إس إس ميسوري، ويحق للشعوب الغربيّة الآن – ومن خلفها شعوب العالم برمته – أن تبدأ بتوقع الأسوأ من جرّاء التصعيد، الذي تنجر إليه قوى العالم، واحدة بعد أخرى، في مسار مجنون، قد يأخذ البشرية نحو هاوية كارثة الحرب العالمية الثالثة، والأخيرة.
القدس العربي