ستسمعونها كثيرا خلال الفترة المقبلة: “المحاصصة هي الحل” لليمن وسوريا، والبحرين أيضا. الفكرة التي بدأت إيران في تسويقها هي إقامة نظام حكم سياسي طائفي جدلي، حتى يؤمّن لها التدخل والتأثير على قرارات هذه الدول ضمن مشروعها للهيمنة على المنطقة. والفكرة ليست جديدة.. استنساخ للنموذجين اللبناني والعراقي اللذين صارت تهيمن عليهما اليوم.
وقد تحدث عن الفكرة أكثر من مسؤول إيراني؛ أحدهم سمعته يعطي تفصيلا أكثر.. قال: “أنتم تريدون حلا في سوريا، لماذا لا نعطي كل الطوائف والفرق هناك حصصا ثابتة في الحكم؛ السنة والعلويين والدروز والمسيحيين والشيعة، وكذلك الأكراد والتركمان، وبهذا ستكون للسنة الأغلبية البرلمانية، وعلينا أن نفعل الشيء ذاته في اليمن، ودول أخرى في المنطقة؟”. وهمْهم أحد الجالسين قريبا مني: “آه، يعني البحرين”. طبعا، نحن نعرف أنه يرمي إلى البحرين، مع أنه لا يوجد فيها نزاع دموي على الحكم مثل اليمن وسوريا والعراق، هناك في البحرين جيوب احتجاجية، يمكن أن تظهر في أي بلد آخر، بما في ذلك إيران نفسها.
أما لماذا نتعجل برفض الفكرة ما دامت ترضي الأغلبية في الدول المضطربة، فالسبب أن المحاصصة الطائفية هي أساس للفوضى وتعمق وجودها، وإن كانت غير ذلك في ماليزيا وهولندا لأنها تعيش في ظروف إقليمية مختلفة.
وقد يجادل البعض بالقول بأن “الطائف” الذي وقع في السعودية لإنهاء حالة الحرب الأهلية في لبنان هو أم المحاصصة؛ للمسيحيين رئاسة الجمهورية، والسنة رئاسة الحكومة، والشيعة رئاسة البرلمان. صحيح أن الاتفاق وقع في مدينة الطائف السعودية، إلا أنه جاء نتاج حوارات جماعية بين الفرقاء المتقاتلين، ولم يكن قرارا سعوديا. ثانيا، المحاصصة كانت موجودة في صلب نظام لبنان الذي سبق “اتفاق الطائف” بنحو خمسين عاما، بنفس هيكلة الرئاسات مع تعديل نسب المقاعد في البرلمان. ولا ننسى أن “الطائف” كان مجرد مشروع مؤقت لوقف نزف الدم، وجسر للانتقال إلى نظام أفضل دائم. والذي عطل تطوير مشروع الحكم اللبناني هو نظام حافظ الأسد السوري، الذي جثم على كل دولة لبنان، وأدارها من خلال مخابراته ووكلائه المحليين، وقتل أو همّش كل من تجرأ على تحديه وفكر في تغيير النظام السياسي.
والآن، وبعد عقود من تجربتها، ترسخت القناعة بأن المحاصصة نموذج رديء للحكم ينبغي تحاشيه. ولو جرى تطبيقها في اليمن غدا، فسيقسم الشعب اليمني إلى الأبد، وستجد القوى الخارجية؛ إيران وغيرها، في المحاصصة مدخلا للتأثير والتعطيل من الخارج، وتوجيه القرارات اليمنية. فما مصلحة اليمنيين في تقاسم المقاعد وفق المذاهب؟ فعليا لا توجد. الفكرة الأولى التي بنيت عليها المصالحة، بعد اندلاع انتفاضة الشارع اليمني، قامت على أن يقرر اليمنيون من يحكمهم من خلال صناديق الاقتراع، لكن استمرت التعديلات تحت تهديد سلاح الحوثيين لفرض حصص لهم في الحكومة.
وها هي المحاصصة في العراق جعلته مثل لبنان؛ رئيس الجمهورية مجرد ديكور. نواب رئيس الجمهورية الثلاثة ونواب رئيس الوزراء الثلاثة الآخرون، أيضا مقاعد زينة بدعوى تمثيل مكونات البلاد العرقية والطائفية. وحتى رئيس الوزراء، المنصب التنفيذي الأول، صار رهينة للنفوذ الإيراني، من خلال أدوات المحاصصة هذه. وعلى غرار “حزب الله لبنان”، قرر فريق سياسي عراقي بناء ميليشيا تتحكم في البلاد؛ “الحشد الشعبي”، وصار جيش الدولة مجرد رديف له والميليشيات.
وهذا ما سعت إيران إلى فعله في اليمن عندما دعمت ميليشيات الحوثيين “أنصار الله”، التي استولت على مخازن سلاح الجيش، وحاولت فرض كتابة الدستور بمنح نفسها حصصا ثابتة في الحكومة بالقوة، ولهذا الغرض أخذت رئيس الجمهورية هادي رهينة في داره في صنعاء، ولم تتوقف هذه المهزلة إلا بعد أن شنت السعودية حربها على التجمع الإيراني هناك.
المحاصصة، وفق المشروع الإيراني لإدارة الدول العربية المضطربة في المنطقة، يفترض ألا تمرر بحجة أنها البديل للفوضى، لأنها “ستمؤسس” للفوضى لعشرات السنين. وهناك خيارات بديلة، مثل اعتماد نظام فيدرالي، وتقليص المركزية الحكومية، دون اللجوء إلى تمزيق المجتمع إلى فئات طائفية وعرقية، وتسميد التربة لزرع توترات وحروب أهلية طويلة المدى.
عبدالرحمن الراشد
صحيفة القدس العربي