قوة المليارديرات: تأملات في التأثير السياسي للأثرياء في العالم

قوة المليارديرات: تأملات في التأثير السياسي للأثرياء في العالم

يتزايد الاهتمام بين الحين والآخر برصد تأثير الأغنياء على قضايا سياسية، وبشكل خاص إبان أحداث هامة مثل الانتخابات الأمريكية، وكذا هوية الذين يمولون حملات الرؤساء الأمريكيين. وكثيرًا ما تُثار العديد من القضايا حول مشروعية هذه الأموال، وهل تستخدم بدافع مساندة حملة أكثر عدالة وتحقيقًا لرغبات وطموحات الشعب؟ أم أنها تستخدم لخدمة مصالح طبقة بعينها؟ وعليه كثيرًا ما تثار تساؤلات حول: هل هؤلاء الأغنياء يريدون الصالح العام أم لا؟ هل هم أفراد عاديون في المجتمع أم قوى مؤثرة في السياسات والقرارات والتشريعات التي تُتخذ إبان نجاح مرشحهم؟ ومن هنا دائمًا ما تهتم وسائل الإعلام – بصورها المختلفة – برصد تأثير الأغنياء على مصائر بلادهم، وبشكل خاص في الولايات المتحدة الأمريكية.

في ظل احتدام المناقشات والتفسيرات المختلفة حول تأثير ما يُطلق عليهم “أصحاب المال والقوة”، نشر كتاب داريل ويست – نائب رئيس معهد بروكينجز ومدير وحدة دراسات الحكم – المعنون “المليارديرات: تأملات في التأثير السياسي للنخبة”، والذي يُعتبر مؤشرًا على القوة السياسية لمليارديرات الولايات المتحدة الأمريكية من خلال تحديده قائمةً تضم ما يقرب من 20 مليارديرًا أمريكيًّا مؤثرين في توجهات السياسة الأمريكية.

يؤكد ويست في بداية كتابه أن ترتيب هذه الشخصيات لا يركز في المقام الأول على ثروتها بقدر ما يهتم بتأثيرهم السياسي بشكل عام. منهم على سبيل المثال رجل الأعمال “روبرت موردخ” الذي يُطلق عليه ملك الصحف، وكذا “مايكل بلومبرج” عمدة نيويورك السابق ومؤسس شركة “بلومبرج”، ومؤسس موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك “مارك زوكربيرج”، وآخرون.

يجادل ويست في كتابه بأن الإنجازات السياسية في بعض الأحيان تكون نتيجة الثروة المُركزة، وأنها غالبًا ما تكون السبب الخفي وراء انتهاج سياسات بعينها، أو للحفاظ على مكانة سياسية معينة. ويدلل على ذلك بحملة “مايكل بلومبرج” وإنفاقه ما يقرب من 260 مليون دولار على حملته ليصبح – ويبقى – عمدة نيويورك، حتى أن بعض المصادر في عام 2009 أشارت إلى أنه قام بشراء أصوات انتخابية لصالحه كلفه الواحد منها ما يقرب من 184 دولارًا. وعليه -ووفقًا للكاتب – فإن الأثرياء لا يفوزون دائمًا، ولكن النقود تتحدث بل وتقترع! بينما على الجانب الآخر هناك من الأثرياء من لديهم احترام للاستقلالية المؤسسية، ومنهم على سبيل المثال “بيل جيتس” الذي يُعتبر واحدًا من أغنى أغنياء الولايات المتحدة، ولكن صلاحياته ضعيفة، أو بمعنى أكثر دقة لا تصب في التأثير على السياسات الرسمية أو المؤسسية الأمريكية، بل آثر أن يكون لأمواله مصدر قوة آخر من خلال اشتراكه في “مبادرة الصحة العامة”، وهي مبادرة دولية لمكافحة التدخين، والتي اشترك فيها بمبلغ يقدر بحوالي 125 مليون دولار منذ عام 2006.

ولذا، يؤكد الكاتب أن تحذيره من خلال هذا الكتاب يُعتبر بمثابة نظام إنذار مبكر وتحذير معتدل لا ينبغي بأي حال من الأحوال تجاهله، فالغني قد يملك القوة المادية، ولكنه يفتقر إلى السلطة، ولهذا يحذر الكاتب من التمادي في ممارسة السلطة الكامنة في الثروة المادية، والتأثير على التوجهات السياسية الرسمية. ويشير ويست إلى أن نسبة ما يقرب من 1,6% من الرجال والنساء يتحكمون بحصة كبيرة من الأصول العالمية والتي تبلغ 6,5 تريليونات دولار، بينما نسبة الـ98% بحاجة إلى معرفة تأثير هؤلاء القلة على القرارات السياسية التي تمس حياة ومقدرات الغالبية العظمى من أفراد الشعب.

يحاول ويست بين طيات كتابه الإجابة على عدة تساؤلات هامة مفادها: هل يمكن للمليارديرات منع تشريعات بعينها؟، لماذا انتقل الأثرياء من مناصرة السياسات إلى صياغتها؟، لماذا يُدير الأثرياء من خلال أكثر من 12 دولة أعمالهم؟، وما علاقة هذا الحجم من الأعمال بسياسات الدول المختلفة؟ – من خلال تقسيم كتابه إلى ثلاثة أجزاء بإجمالي عشرة فصول تتضمن عددًا من الأفكار الرئيسية، بداية من الجدل حول المليارديرات والاستقطاب السياسي، مرورًا بالتهديدات التي يشكلها تدخلهم في أداء النظام، وانتهاءً بمخاطر تدخل المليارديرات والأثرياء في دول العالم النامي.

قلة تشكل مستقبل الأغلبية

يُشير ويست في بداية الجزء الأول من كتابه إلى أن تساؤل البعض بـ”هل يختلف هؤلاء الأثرياء عن الأشخاص العاديين؟”، ليس هو محور التحليل الحالي لكتابه، فالحقيقة المؤكدة أن هؤلاء القلة يشكلون عالمنا، سواء للأفضل من خلال اختراعات جديدة ومفيدة، أو دعم لبعض المبادرات الاجتماعية في ضوء ما يُطلق عليه “المسئولية الاجتماعية”، أو للأسوأ من خلال استخدام الحكومات لإثراء أنفسهم، وخلق ثقافة الانفصال الاجتماعي عن مجتمعاتهم، وعليه “تقويض المسار الديمقراطي للمجتمعات”. ومن ثم فإن تركز ما يقارب من ثلث الأصول الأمريكية في يد القلة هو ما يجب دراسة تأثيره، فهؤلاء القلة يملكون تأثيرًا على الانتخابات، والسياسة العامة، والحكومة والشفافية في المجال الاقتصادي. ولهذا رأي الكاتب ضرورة تحليل التأثير السياسي والاقتصادي لأصحاب المليارات، خاصة مع تنامي ما يُطلق عليه “النشطاء السياسيون”، و”أصحاب العمل الخيري” من الأثرياء، وتدخلهم في تشكيل السياسات العامة للدولة. ويؤكد أنه يحاول تقييم تأثير هؤلاء القلة على أداء النظام سياسيًّا، واجتماعيًّا، واقتصاديًّا. خاصة مع إثارة الشكوك حول النفوذ السياسي لهم، والشفافية والمساءلة حول ما إذا ارتكبوا مخالفات قد تضر بالسياسات العامة أو بالمجال الاقتصادي، ولذا فقد أكد على ضرورة وجود سياسات حاكمة تعزز أسس الإفصاح والحوكمة وفصلها عن نفوذ هؤلاء القلة، لضمان مساءلتهم في حالة مخالفتهم لهذه القواعد، وكذا رصد الجوانب الإيجابية بكل دقة لمشاركتهم الاجتماعية.

ويشير الكاتب في هذا السياق إلى جامعة براون، ومعهد بروكينجز – الناشر للكتاب – اللذين يساهمان بشكل كبير في تحسين حياة الأفراد، وتعزيز روح الابتكار البحثي، وتشجيعه كأحد السبل التي تغير حياة ومسار المجتمعات إلى الأفضل، من خلال احترام الاستقلال المؤسسي، والحرية البحثية الأكاديمية، والشفافية العامة فيما يتعلق بمصادر التمويل.

ويستطرد الكاتب بأنه وفقًا لمجلة فوربس، هناك 1645 مليارديرًا يتواجدون حول العالم، منهم 492 يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، وهو عدد ينبغي معه – وفقًا للكاتب – دراسة وتحليل تأثيره على الجهود السياسية في الولايات المتحدة، على صعيدي النفوذ السياسي، والمساءلة والشفافية حول أداء النظام. فالدول وعلى رأسها الولايات المتحدة لا بد لها من تعزيز أفضل أسس الإفصاح والحوكمة والشفافية. خاصةً أنه طبقًا للمجلة سالفة الذكر فإن قائمة المليارديرات تضاعفت على مدار العقد المنصرم وكذا ثرواتهم، ليملكوا في الوقت الحالي ثلث ثروة البلاد.

7-12-2014

ويتتبع ويست تحليل ما يُطلق عليه الاقتصاديون “تركز الدخل”، ليقدم للقارئ حقيقة مفادها “أن تركز الدخل في الوقت الحالي يشبه ما كان عليه إبان عشرينيات القرن الماضي قبل الكساد العظيم”، وهو إذا ما استمر على هذا المنوال فسوف يؤدي إلى حالة من الركود مع ازدياد ثراء القلة، مقابل ازدياد فقر أو ضعف دخل الأكثرية. فطبقًا لتحليل فجوة الدخل (مقياس يُستخدم للتعبير عن التفاوت بين مستويات الدخل المختلفة)، فإن عدم المساواة المالية زادت بشكل كبير على مدار السنوات الـ60 الماضية، وبشكل أكبر على مدار السنوات العشر الأخيرة حتى نهاية عام 2012. ويستشهد ويست بتحليلات اقتصاديين مخضرمين من أمثال توماس بيكتي وإيمانويل سايز، والرسومات البيانية لشرح فجوة الدخل بالأرقام للقارئ حتى يسهل على غير المتخصصين فهم التحليل المنتهي إليه.

ففي الفترة من 1913 وحتى 1928 (قبل الكساد العظيم) قُدر دخل الأثرياء (أو النخبة الاقتصادية ويمثلون 1%) ما نسبته 21,1% من إجمالي الدخل على مستوى الولايات المتحدة. وقد تقلص إلى 8,3% في عام 1976، ليرتفع إلى 21,1% مرة أخرى في عام 2007، وهو ما يتشابه مع عشرينيات القرن المنصرم. وعليه ينتهي الكاتب في تحليله إلى ضعف الاقتصاد الأمريكي في الوقت الحالي، باعتماده على القلة، وهو ما يُنذر بالخطر.

الدور السياسي والاقتصادي للمليارديرات

يستعرض الكاتب في الجزء الثاني من كتابه ما يُطلق عليه “استراتيجية أن تصبح سيناتورًا”، مُشيرًا إلى أنه ليس من قبيل المصادفة سعي هؤلاء الأثرياء إلى امتلاك النفوذ من خلال الترشح لعضوية مجلس الشيوخ الأمريكي، وعرقلة مسار أي موافقات بالإجماع قد تضر بمصالحهم الاقتصادية والسياسية في اتخاذ قرارات ذات تأثير على أعمالهم، وفي بعض الأحيان ينجحون في عرقلة إصدار تشريعات بعينها قد تضر بهم. ويدلل الكاتب على ذلك باستياء السيناتور (راند بول-جمهوري من ولاية كنتاكي) من المعاهدة التي كانت مُقترحة بشأن إجبار البنوك السويسرية على الإفصاح عن أسماء 22 ألفًا من الأثرياء الأمريكيين الذين يملكون أكثر من 10 بلايين دولار ببنوكها بزعم “اختراق خصوصية الأفراد”، وهو ما عرقل إصدار تشريع يسمح بإبرام هذه المعاهدة.

ويؤكد الكاتب أن القلة من أصحاب المصالح يستطيعون التأثير على عدم إصدار تشريعات من مجلس الشيوخ قد تؤثر على صناعات أو مجالات معينة قد تضر بمصالحهم، ومن ثم قدرتهم على وقف أي تدابير قد يرونها ضارة بمصالحهم تزايدت على مدار العقدين المنصرمين.

ويتطرق ويست إلى مثال آخر عملي متمثلا في الثري الأمريكي “دونالد ترامب” الذي انتقد الرئيس باراك أوباما في عام 2012 عقب زيادة نسبة الضرائب على الأثرياء، وبعدها بدأت إثارة المتاعب من قبل الحزب الجمهوري. ويؤكد أن الفوارق في الدخل تشكل تحديات حقيقية للأنظمة السياسية القائمة، خاصةً مع تأثير أصحاب الثروة على السياسات المنتهجة من قبل الحكومة، وقدرتهم على التأثير في إصدار التشريعات ووقف بعض التدابير التي من شأنها – طبقًا لهم – الإضرار بمصالحهم، وما يترتب عليها من تجاهل مصالح الغالبية العظمى غير الممثلة.

وأشار ويست إلى أن الجدل حول ما يطلق عليه “إعادة توزيع الدخل” يمثل حجر الزاوية للغالبية من الفقراء، وفي نفس الوقت يحمل بين طياته العديد من المخاطر للأثرياء نتيجة مطالبة الفقراء بالمساواة، والتي هي من وجهة نظرهم غير منصفة. ومن ثم فإن التهديد الرئيسي للأنظمة القائمة – وفقًا للكاتب – تتمثل في ضرورة معالجة عددٍ من القضايا الرئيسية، وعلى رأسها: عدم المساواة، ومعالجة الجمود الاقتصادي، والتحرك صعودًا في سلم الدخل للأكثرية الفقيرة.

مخاطر التدخل في دول العالم النامي

يتطرق الكاتب في الجزء الأخير من كتابه إلى تحليل تأثير تدخل الأثرياء في الدول النامية، والتي تعاني بطبيعتها من عدم المساواة بين مواطنيها اقتصاديًّا، واجتماعيًّا، وسياسيًّا. ويُشير إلى عددٍ من التحليلات الاقتصادية التي تشير إلى أن أعلى معدلات لعدم المساواة تسجلها دول أمريكا اللاتينية وفقًا لمعامل جيني (مقياس إحصائي للتدليل على الفجوات في توزيع الدخل ما بين أفراد المجتمع) بمقدار 0,48، تليها دول جنوب الصحراء في إفريقيا بمقدار 0,44، ثم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمقدار 0,39، ثم أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى بمقدار 0,35.

ويبسط الكاتب للقارئ دلالات هذه الأرقام بأنها نتيجة ضعف سيادة القانون في هذه الدول، وعدم امتلاك هذه الدول لنظم حكم ونظم انتخابية قوية تستطيع الموازنة بين المطالب السياسية لذوي الثروة ومصالح الجمهور العام. وعليه يتحكم الأثرياء في المسار الانتخابي بهذه الدول نتيجة قدرتهم المالية على تمويل الحملات الانتخابية والإعلامية المساندة لمرشح بعينه، وحزب بعينه. ويُطلق الكاتب عليه (الاتحاد بين الموارد الاقتصادية والسلطة السياسية)، ويُسميه اختصارًا “بالرجل القوي” الذي يتمكن من جمع الثروة الهائلة بينما بقية أفراد الشعب يعيشون في الفقر المدقع.

ويؤكد أن ظاهرة الرجل القوي أكثر وضوحًا في الدول الإفريقية، مع بعض دول الشرق الأوسط وآسيا وأمريكا اللاتينية. ومن ثم فإن التباين الدراماتيكي بين الأثرياء والفقراء في هذه الدول قد يعرقل التنمية الاقتصادية والسياسية في هذه المجتمعات لفترات زمنية طويلة.

وينهي تحليله في الجزء الأخير من كتابه بدق ناقوس الخطر لمجتمعات العالم النامي على وجه الخصوص، خاصة مع سماح الأنظمة القانونية والسياسية في معظم هذه الدول بانتقال الثروة وتوارثها بين الأجيال دون أي رقابة أو خطوط حمراء لمصدرها، ومن ثم ازدياد فجوة الدخل وعدم المساواة، نتيجة سوء الإدارة السياسية والاقتصادية ومحدودية الفرص المتاحة للأغلبية الفقيرة للصعود وتقليل فجوات الدخل. وهو ما يخلق نظامً اجتماعيًّا هشًّا لا يستطيع الأفراد فيه تحقيق الحراك الاقتصادي والاجتماعي، وقتل موهبة الإبداع والابتكار الذي ينهض بالمجتمعات ويحقق تنميتها، وهو ما سوف يؤدي إلى الإطاحة بالسلطة السياسية بهذه الدول، خاصة مع ندرة الموارد الاقتصادية المتاحة ومحدوديتها، وتركزها في يد القلة التي لا تمثل أكثر من 1% من المجتمعات، وهو ما يُعد بيئة مثالية ومهيأة لانتشار الفساد، وزيادة فجوة الدخل.

وينتهي داريل ويست في تحليله بتقديم حقيقة مفادها: الدعوة إلى وضع وسن تشريعات حاسمة في كافة المجتمعات – النامية والمتقدمة – تعزز قيم الشفافية، والمسائلة، وإتاحة الفرصة للتقدم الاقتصادي، وتبني السياسات التي ترسخ للعملية الديمقراطية الحقيقية، وفصل التزاوج الذي حدث ما بين الثروة والسلطة، لتحقيق الرفاهية الاجتماعية في كافة المجتمعات.

داريل ويست : نائب رئيس معهد بروكينجز ومدير وحدة دراسات الحكم
عرض: نسرين جاويش، باحثة في العلوم السياسية

http://goo.gl/OpwLGL

كلمات مفتاحية: الأغنياء،أصحاب المال والقوة،المليارديرات،روبرت موردخ، الولايات المتحدة،القرارات السياسية،دول العالم النامي.