في سبعينات القرن الماضي أنتجت إيطاليا مسلسلاً كرتونياً يحكي قصة تنينٍ صغير قرر أن يصبح إطفائيا!
تناقض أسطوري أضحك الصغار، لكنه يتجلى واقعاً بعد كل ما بات يُحكى عن مساعي الصين الدبلوماسية في صناعة السلام وإطفاء الحرائق على طولِ طريق الحرير.
لا نبتعد عن الموضوعية والمنطق حين نقول إن السياسة لا تخضعُ دائماً للموضوعية والمنطق! معظمنا استغرب الاتفاق الإيراني.. ونبأ نجاح “الشمولية” الصينية في إنجاز اتفاق سعوديٍّ – إيرانيٍ كان أغرب، خصوصاً أنه إذا تم، قد يساهم في إخماد حرائق طالما استفادت الولايات المتحدة من إثارتها في سبيل نشر “ديمقراطيتها”، وحتى خيار السلام نفسه لم يكن طرحاً موضوعياً أيضاً وفق معايير الكثير من متابعي ملفّ الخلاف السعودي – الإيراني، لكن الصين في جولتها الأخيرة حاولت القول إن للموضوعية وجوها عدة، وإن لقاء الحضارات ممكن، وإن تحقيق المصالح عبر باب السلام ليس خرافة.
في مايو – أيار 2017 استضافت بكين قمة حضرها العشرات من رؤساء الدول، وأعلنت الصين وقتذاك استمرار عملها في مشروع الطريق والحزام بكلفة مبدئية قدرت بمئة وأربعة وعشرين مليار دولار، وفي ختام القمة أعلن الرئيس الصيني شي جينبينغ سياسة الصين المستقبلية: “لن تطأ أقدامنا السبيل القديم، سبيل الصراعات بين الأعداء، بل سنخلق نموذجا جديدا للتعاون والمنافع المشتركة”. الهند واليابان رفضتا تلبية دعوة الصين معلنتين عن شكوكهما بشأن المشروع الصيني الذي يخفي نوايا الهيمنة على موارد إستراتيجية وطموحات جيوسياسية، حسب تعبيرهما.
بما أن صوت الغرب المسموع لم يعد منفرداً تماماً فلا بد من الإنصات إلى الصوت القادم من الشرق
من ثم تتوضحُ أسباب غيابِ الهند واليابان عن قمة بكين، من خلال حضورهما معاً رفقة الولايات المتحدة وأستراليا قمةَ “QUAD” التي استضافتها طوكيو في مايو 2022 والتي أكد في ختامها قادة الدول الأربعة “عزمهم على تنفيذ خطط لاستثمار خمسين مليار دولار في مشاريع بنى تحتية إقليمية خلال السنوات الخمس المقبلة، وعن مبادرة تسعى لتعزيز مراقبة الأنشطة البحرية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”، وبديهي أنه لا يوجدُ في الهندي والهادئ أنشطة بحرية أخرى غير الصينية تستوجب مخاوف ومراقبة “QUAD”.
على إثر ذلك بدأ وزير خارجية الصين وانغ يي جولته في عدة جزر في المحيط الهادئ، بدءاً بزيارة حلفائه الأمنيين في جزر سليمان، وانتهاءً باجتماع عقده وانغ يي في جزيرة فيجي قدّم خلالها لعشر من تلك الجزر عرضاً يشمل إقامة منطقة تجارة حرة، ومنتدى للتعاون الأمني والسيبراني.
نشاط الصين لم يكن رد فعل مفاجئا، فقبل كل ما سبق من تطورات كانت بكين قد منحت عدة جزر في الهادئ قروضاً لتمويل مشاريع بنى تحتية ضمن “الحزام والطريق”، وجديرٌ بالذِّكر أن جزر الهادئ ليست أولَ المدينين للدائن الصيني، فبحسب مركز أبحاث التنمية العالمية تجاوز عدد الدول المقترضة من الصين في سبتمبر – أيلول 2022 حاجز الثماني وستين دولة من أصل 138 دولة تشترك في مشروع “الحزام والطريق”.
بطبيعة الحال تُحذِّرُ دولٌ ومؤسسات أميركية ويابانية وأوروبية من خطورة “مصيدة الديون” الصينية التي تبلغُ فوائدها أربعة أضعاف فوائد قروض البنك الدولي، وبفترة سداد قصيرة لا تتجاوز عشر سنوات، ويرى المعسكر المناوئ للصين أن الخطورة تكمنُ في طبيعة العقود والضمانات التي تفرضها بكين على الدول المقترضة، والمتمثلة بأصول سيادية إستراتيجية، ومن الأمثلة عن عقود الاستئجار الطويلة ميناء سيريلانكا بعقد مدته تسعة وتسعون عاماً.
مراكز الأميركيين البحثية لم توفر في دراساتها الصين. “إيد داتا” هيئة تنموية دولية في جامعة وليام آند ماري الأميركية أكدت أن الإقراض الصيني للدول المتوسطة والفقيرة تجاوز المبلغ المُعلن عنه رسمياً وقدره مئة وسبعون مليار دولار، ومعظم القروض التي تقدمها الصين للدول النامية يتمُّ إبقاؤها خارج الميزانيات العمومية الحكومية، أما مبلغ الإقراض الخفيّ فبلغ 385 مليار دولار، ووفقا لذات الدراسة تجاوزت مديونية باكستان والأرجنتين وسريلانكا فقط 32.83 مليار دولار!
في يناير – كانون الثاني 2022 نشرت “بي.بي.سي” إحصاءات صادرة عن عدة مؤسسات دولية منها البنك الدولي ونادي باريس ومؤسسات هورن وراينهارت تؤكد أن الصين في عام 2017 غدت “أكبر المقرضين عالمياً” بعتبة تجاوزت ثلاثمئة وخمسين مليار دولار، متجاوزةً البنك الدولي الذي لم تتجاوز قروضه ثلاثمئة مليار دولار. وبزيادة بلغت مئة مليار دولار عن مبلغ إقراض دول نادي باريس مجتمعة. بينما أكدت تقديرات مسؤول وزارة الخزانة الأميركية أنه ولغاية سبتمبر 2022 تراوحت القروض المستحقة لصالح الصين بين 500 مليار إلى تريليون دولار.
بالرغم من تأكيد الاستخبارات المركزية الأميركية على أن جينبينغ طالب قواته بالاستعداد لدخول تايوان بحلول 2027 إلا أن ذلك الغزو قد يحدث قبل هذا التاريخ
إذا تتمدّدُ شباكُ “الحزامُ والطريق” العنكبوتية من جزر الهادئ شرقاً حتى الأرجنتين غرباً، مطوقةً بملياراتها دولاً في قلب أوروبا، وتمر حتى بطاجيكستان وقرغيزستان في عمق الحديقة الخلفية لروسيا الحليفة، على الجانب الآخر، لا أحد يعرف مدى فاعلية الإجراءات الوقائية والدفاعية للولايات المتحدة وحلفائها ومحاولتهم تحطيم أرقام الصين، لكن بيانات البنك الدولي تقول إن مبادرة مجموعة العشرين ولغاية سبتمبر 2022 وفي محاولتها لتخفيف أعباء الديون للدول سددت قرابة عشرة مليارات دولار فقط، بينما في المقابل أعلنت الصين في أغسطس – آب 2022 شطب ثلاثة وعشرين قرضاً عن سبع عشرة دولة أفريقية كانت قد عجزت عن السداد الذي انتهى موعده نهاية 2021.
وبالعود إلى ما استجد حول الصين سياسياً ودبلوماسيا، في 15 مارس الجاري نشرت “الغارديان” تحليلاً أعدّته إيمي هوكينز كبيرة مراسلي الصحيفة في الصين تحدثت فيه عن تجاهل المسؤولين الأميركيين لخطورة الاتفاق السعودي – الإيراني والذي يمثل ضربة للنفوذ الأميركي في الشرق الأوسط.
في ذات التحليل تصفُ إيمي الثقة الكبيرة التي تحدث بها الرئيس الصيني في قاعة الشعب يوم الاثنين 13 مارس الجاري وتقتبس من خطابه: “بعد قرنٍ من الصراعات تم محو الإهانات التي لحقت بشعبنا، لم يعد ممكناً إيقافُ إحياءِ أمتنا العظيمة”.
وتخلص إيمي إلى أنه بالرغم من تأكيد الاستخبارات المركزية الأميركية على أن جينبينغ طالب قواته بالاستعداد لدخول تايوان بحلول 2027 إلا أن ذلك الغزو قد يحدث قبل هذا التاريخ.
إذا هذه الخلطة التي بدأت بثورة التحرير الصينية ووصول الشيوعية الصينية إلى الحكم مستفيدة من الهزيمة التي تعرضت لها الصين من قبل اليابان ومعتمدة على التوحد الداخلي والتشابه العظيم الذي تراهن الصين على صنعه للمعجزات هو ما سيكون محل دراسة وبحث في العالم ومنطقتنا.
وبما أن صوت الغرب المسموع لم يعد منفرداً تماماً فلا بد من الإنصات إلى الصوت القادم من الشرق ولا بأس من الاقتباس عن صحيفة “غلوبال تايمز” الصينية التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي التي جاء فيها في يونيو – حزيران 2022 “حين رأت واشنطن أن تحالف العيون خمس FVEY لم يعد كافياً، بادرتْ لتطوير رباعية QUAD الأمنية، ثمّ أنشأت ثلاثيّ AUKUS العسكريّ، وسواء كانت العيون الخمس أو العشر، إنهم بالتأكيد سيقعون في المشاكل، إذا تجرأوا على الإضرار بمصالح الصين”.
العرب