توجهات موسكو: قراءة في المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية

توجهات موسكو: قراءة في المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية

وقّع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في 31 مارس 2023، مرسوماً ينص على المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية، والذي قدمه وزير الخارجية، سيرجي لافروف، خلال اجتماع للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن القومي الروسي. ومن المفترض أن تمثل تلك الاستراتيجية الجديدة الأساس العقائدي للسياسة الخارجية الروسية، والوثيقة الحاكمة والمحددة والمفسرة للتحركات الروسية في مجال الشئون الدولية. وتعكس هذه الوثيقة إدراك موسكو للتحولات والتغيرات الاستراتيجية في العالم خلال السنوات الماضية، وخاصة على وقع الحرب الأوكرانية. كما تعكس رؤية روسيا للنظام الدولي والنظم الإقليمية ومستقبل سياستها الخارجية وأهدافها وأدواتها.

تغيرات جذرية في الشئون الدولية

يعد المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية وثيقة تخطيط استراتيجي تمثل نظاماً لوجهات النظر الروسية حول المصالح الوطنية والمبادئ الأساسية والأهداف الاستراتيجية والمجالات ذات الأولوية لروسيا في مجال السياسة الخارجية. وقد عكفت وزارة الخارجية الروسية بالتعاون مع الإدارات الأخرى على إخراج الوثيقة الجديدة متماشية من جهة مع استراتيجية الأمن القومي للاتحاد الروسي الصادرة عام 2021 ووثائق التخطيط الاستراتيجي الأخرى المتعلقة بالعلاقات الدولية، ومعبرة من جهة ثانية عن الرؤية الروسية، ومواكبة من جهة ثالثة مع المتغيرات الاستراتيجية الجديدة، خاصة على ضوء تداعيات الحرب الأوكرانية وتوترات العلاقات الروسية الغربية بشكل عام ومع الولايات المتحدة بشكل خاص.[1]

وتتكون تلك الوثيقة من 79 فقرة بست أقسام في 42 صفحة. وتأتي كتحديث لوثيقة السياسة الخارجية الروسية لعام 2016، مع درجة كبيرة من الاستمرارية فيما يتعلق بالمبادئ الأساسية والاستقلالية والأمن.[2] إذ لم يتم صياغة الاستراتيجية كلية بشكل جديد بل تضمنت توجهات مستمرة من الاستراتيجات السابقة، فضلاً عن الاعتماد على الدستور الروسي واستراتيجية الأمن القومي وغيرها من الوثائق الحاكمة لتوجهات السياسة الخارجية الروسية. ولكن يمكن ملاحظة اهتمام المفهوم الجديد بالمناطق الجغرافية والمنظمات الدولية أكثر من التركيز على العلاقات الدولية الثنائية. وتجدر الإشارة إلى أن ذلك التحديث كان من المفترض اعتماده العام الماضي، حيث جرى تقديم مسودة الوثيقة الجديدة لمجلس الأمن القومي الروسي في يناير 2022، قبل أن يعيدها الرئيس الروسي للمراجعة والتوافق على صياغتها الأخيرة التي صدّق عليها منذ أيام، لمواكبة التغيرات الدولية، وهي الفترة التي كانت قد تصاعدت فيها التوترات الروسية الغربية، وكانت تستعد فيها موسكو بالفعل لبدء عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا.[3]

وقد  أكد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال إعلانه عن المفهوم الجديد أن التحديثات على استراتيجية السياسة الخارجية ضرورية بسبب التغييرات الجذرية في الشئون العالمية، وهو وصف شبيه جداً بذلك الذي استخدمه وزير الخارجية الروسية، سيرجي لافروف، الذي أوضح أن المنطق الكامن وراء مفهوم السياسة الخارجية الجديد لروسيا يعكس التغيرات الثورية في الشئون الدولية، والحقائق الجيوسياسية المتغيرة، على ضوء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا. وتنطلق الاستراتيجية الروسية الجديدة من واقع المتغيرات التي فرضتها الحرب الأوكرانية وتداعياتها والتي تمثل من وجهة النظر الروسية واقع جيوسياسي طويل الأمد، ومنها على سبيل المثال تدهور العلاقات الروسية الغربية بسبب الحرب. وتنطلق الاستراتيجية من معطيات الحرب وما كشفت عنه في تصنيفها لدول العالم، حيث أطلقت وصف “الدول غير الصديقة” على تلك الدول التي أدانت بشدة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وفرضت عقوبات على روسيا وقدمت مساعدات لأوكرانيا لمواجهة روسيا.[4]

مرتكزات وتوجهات الاتحاد الروسي

حرصت الوثيقة على إبراز عدد من السمات والمرتكزات واعتبارها معبرة عن الاتحاد الروسي، وهي المرتكزات والسمات التي تساعد على فهم الأبعاد المختلفة لشخصية الاتحاد الروسي في المجال الدولي التي تسعى موسكو إلى ترويجها وتثبيتها، وتنطلق منها في تبرير طموحات المكانة الدولية ورسم ملامح سياستها الخارجية، ومنها على سبيل المثال:

1- المنظور التاريخي: أشارت الوثيقة إلى البعد التاريخي للاتحاد الروسي كعامل محدد لمكانته الدولية باعتباره خليفة الاتحاد السوفيتي، فضلاً عن التذكير بالمساهمات الروسية في انتصار قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ودورها في تشكيل النظام الدولي المعاصر. وتستهدف السياسة الخارجية الروسية وفق الوثيقة الجديدة الحفاظ على ما تصفه بـ “الحقيقة التاريخية” في الخارج وذاكرة دور روسيا في تاريخ العالم، وتنطلق منه كمرتكز لدورها الحالي والمنشود وطموحاتها الدولية في أن تكون على الأقل أحد أقطاب نظام دولي جديد متعدد القطبية.

2- المرتكز الثقافي والحضاري: أعادت الحرب الأوكرانية الجدل حول البعد الحضاري والثقافي في العلاقات الدولية. وإن كانت الدول الغربية حرصت على ربطه بشكل أكبر بجانب أيديولجي يرتبط بالقيم الثقافية والسياسية الليبرالية الغربية، فإن موسكو تعمل على ربطها بشكل أكبر بالتراث الثقافي ودور الإرث الحضاري في تحديد المكانة الدولية، وهو أمر يرتبط أيضاً بالصعود الدولي لمكانة الصين. وفضلاً عن مسألة التراث الثقافي الروسي، تعمل موسكو على إبراز نقاط قوتها كحضارة وثقافة أوروبية وآسيوية، بما يعطيها ميزة نسبية تمكنها من رعاية الحوار والتعايش بين الثقاقات الأوروبية والآسيوية، وبين مختلف الشعوب والجماعات العرقية والدينية واللغوية في أوراسيا. ولا تطرح روسيا نفسها في الوثيقة فقط كدولة إنما كحضارة في محاولة للربط بين روسيا والدول والشعوب الأخرى المجاورة باعتبارها تنتمي إلى المجتمع الثقافي والحضاري لروسيا. كما تطرح موسكو البعد الحضاري والثقافي ارتباطاً بمحاولة حشد القوى الدولية المنتمية لثقافات محافظة أو غير غربية ضد محاولات فرض “مواقف أيديولوجية نيوليبرالية مدمرة” تتناقض مع القيم الروحية والأخلاقية التقليدية، خاصة مع تصاعد الحديث عن أهمية عامل الخصوصية الثقافية في بعض القضايا الصاعدة على أجندة النقاش الدولي، حيث تؤكد روسيا على أهمية احترام وحماية القيم الروحية والدينية والأخلاقية العالمية والتقليدية، بما في ذلك المعايير الأخلاقية المشتركة بين جميع ديانات العالم، والتصدي لما تصفه بأنه محاولات فرض “وجهات نظر إنسانية زائفة أو غيرها من الآراء الأيديولوجية الليبرالية الجديدة” والتي تؤدي وفقاً للمنظور الروسي إلى فقدان البشرية للقيم الروحية والأخلاقية التقليدية، مع العمل في الوقت ذاته على تعزيز الحوار البناء والشراكات والتلاقح بين الثقافات والأديان والحضارات المختلفة، وهو ما يشير إلى حرص موسكو على إبراز تقديرها للأبعاد الثقافية والحضارية والدينية.

كما تشير الوثيقة فيما يتعلق بتطوير الروابط مع الروس الذين يعيشون في الخارج إلى دعمهم في ممارسة حقوقهم والحفاظ على الهوية الثقافية الروسية بالكامل. كما تعتبر موسكو أن تعزيز القيم الأخلاقية والروحية الروسية التقليدية والحفاظ على التراث الثقافي والتاريخي للشعب الروسي من صميم مصالحها الوطنية. وتستهدف كذلك ترسيخ مكانة اللغة الروسية في العالم، وتعزيز مكانتها كلغة للتواصل الدولي وإحدى اللغات الرسمية للأمم المتحدة والعديد من المنظمات الدولية الأخرى، مع العمل على تعزيز تعلمها واستخدامها في الخارج، وخاصة في الدول الأعضاء في رابطة الدول المستقلة.

3- الانخراط المؤسسي: ترى الوثيقة أن أحد محددات مكانة روسيا في العالم يرتبط بوضعها وانخراطها في المنظمات الحكومية الدولية وعلى رأسها وضعها كعضو دائم في مجلس الأمن. ووضعت موسكو ضمن أولويات سياستها الخارجية استعادة دور الأمم المتحدة كآلية تنسيق مركزية في التوفيق بين مصالح الدول الأعضاء، وتعزيز قدرات ودور مجموعة البريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ورابطة الدول المستقلة، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، والتجمع الروسي الهندي الصيني، والآليات والمنظمات الدولية الأخرى. ودعم التكامل الإقليمي ودون الإقليمي داخل المؤسسات متعددة الأطراف “الصديقة” ومنصات الحوار والجمعيات الإقليمية في آسيا والمحيط الهادئ وأمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط. كما توجه الاستراتيجية بإطلاق وتعزيز قدرة الاتحادات الإقليمية متعددة الأطراف وهياكل التكامل بمشاركة روسيا.

4- سلمية وعقلانية السياسة الخارجية: في حين تواجه روسيا اتهامات بالمسئولية عن اندلاع الحرب الأوكرانية وتداعياتها الضخمة إقليمياً وعالمياً، وأن السياسة الروسية عدوانية ولا يمكن التنبؤ بها بشكل يعمّق المخاطر المحتملة للسلوك الروسي، تأتي الوثيقة في نفس مسار الخطاب السياسي الروسي الذي ينفي تلك الاتهامات ويلقي بالمسئولية على الدول الغربية وحلف الناتو والولايات المتحدة، حيث تؤكد الوثيقة على أن السياسة الخارجية الروسية سلمية ومنفتحة ويمكن التنبؤ بها ومتسقة وعملية، وأنها تستند إلى احترام مبادئ وقواعد القانون الدولي، والرغبة في التعاون الدولي المنصف من أجل حل المشاكل وتعزيز المصالح المشتركة. فضلاً عن الإشارة إلى وعي السياسة الخارجية الروسية بمسئوليتها الخاصة عن صون السلام والأمن على الصعيدين العالمي والإقليمي، وهي إشارة ترتبط برؤية روسيا لدورها العالمي والإقليمي، وترتبط كذلك بمبررات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

5- الأمن المعلوماتي والسيبراني والدعائي: في ظل حرب المعلومات بين روسيا والغرب، تدرك روسيا أهمية الأمن المعلوماتي ودور وسائل الإعلام في التأثير على المواطنين داخل روسيا وعلى مواطني الدول الأخرى في الخارج فيما يتعلق برؤيتهم لموسكو. ولذلك يعتبر المفهوم الجديد أن تطوير فضاء آمن للمعلومات، وحماية المجتمع الروسي من التأثير الإعلامي والنفسي المدمر من المصالح الوطنية التي ينبغي أن تدور في فلكها السياسة الخارجية. والعمل على تأكيد نظرة موضوعية لروسيا في الخارج وتعزيز مكانتها في فضاء المعلومات الدولي. وقد دعت الوثيقة إلى ضمان تشغيل وتطوير الإنترنت بشكل آمن ومستقر على أساس المشاركة العادلة للدول في إدارة شبكة الإنترنت ومنع السيطرة الأجنبية على قطاعاتها الوطنية، ومواجهة سياسة الدول غير الصديقة لتسليح الفضاء السيبراني العالمي واستخدام تقنيات المعلومات والاتصالات للتدخل في الشئون الداخلية للدول لأغراض عسكرية. ودعت إلى مناهضة انتشار الفكر الإرهابي والمتطرف على الإنترنت، مشيرة بشكل صريح إلى أفكار النازية الجديدة والقومية الراديكالية. مع العمل كذلك على إتاحة معلومات صحيحة لغير الروس في الخارج عن السياسات الخارجية والداخلية للاتحاد الروسي وتاريخه وإنجازاته لتحسين صورة موسكو مقابل الروايات الغربية الأخرى.

تقسيم العالم وتصاعد الصراع مع الغرب

دفعت الحرب الأوكرانية بمستويات التوتر والصراع بين روسيا من جهة والولايات المتحدة والدول الغربية من جهة أخرى إلى مستويات مرتفعة غير مسبوقة، خلال مرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي على الأقل. الأمر الذي انعكس على المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية كأحد أهم ملامح تلك السياسة، إن لم يكن الطابع الرئيسي المميز لها. ففي حين تنظر روسيا إلى عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا بوصفها تدابير لحماية مصالحها الحيوية، فإنها تتهم الولايات المتحدة باستغلال الحرب لإطلاق مستوى ونوع جديد من الحرب المختلطة وتكريس السياسة المعادية لروسيا والهادفة لإضعافها بكل الطرق الممكنة، مؤكدة أنها ستدافع عن حقها في الوجود وحرية التنمية باستخدام جميع الوسائل المتاحة.

وتسعى السياسة الخارجية إلى القضاء على بقايا هيمنة الولايات المتحدة وغيرها من “الدول غير الصديقة” في الشئون العالمية. وفيما تعتبر موسكو واشنطن الملهم الرئيسي والمنظم والمنفذ للسياسة العدوانية المناهضة لها، وأنها والغرب بشكل عام مصدر المخاطر الكبرى لأمن روسيا وللسلام والتنمية المتوازنة في العالم، فإن استراتيجية السياسة الخارجية تدعو نحو نموذج للتعايش السلمي وتوازن المصالح واحترام المسئولية المشتركة عن الاستقرار الاستراتيجي والأمن الدولي كقوتين نوويتين رئيسيتين. وتربط الوثيقة احتمالات تحقيق هذا الطرح للعلاقات الأمريكية الروسية باستعداد واشنطن للتخلي عن سياسات الهيمنة ومراجعة مسارها المعادي لروسيا، في تحميل واضح لواشنطن للمسئولية عن أي تعميق للتوترات الأمريكية الروسية. وتشير معظم بنود الاستراتيجية الروسية إلى تقسيم موسكو الدول لدول صديقة أو غير صديقة بناءً على مواقفها تجاه روسيا بشكل عام وتجاه الحرب الأوكرانية والعقوبات المفروضة على موسكو بسببها بشكل خاص، حيث اعتبرت الوثيقة أن موقف روسيا تجاه الدول الأخرى يتوقف على الطابع “البنّاء” أو “المحايد” أو “غير الودي” لسياساتها تجاه روسيا.

وفي حين يستخدم الغرب ملف حقوق الإنسان كأحد الملفات الرئيسية لانتقاد روسيا وتوقيع العقوبات عليها، تشير بنود المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية إلى اهتمام روسيا بمواجهة الغرب في هذا الملف كأحد محاور الصراع بين الطرفين، فبجانب العمل على إبراز صورة مغايرة عن روسيا للرأي العالم العالمي كمحور دعائي مضاد، ستعمل موسكو على مراقبة وإعلان أوضاع حقوق الإنسان والحريات في العالم، وخاصة في الدول التي تنتقدها في هذا المجال، حيث ستعمل على إبراز التناقضات بين مواقف تلك الدول وبين واقع ملف حقوق الإنسان لديها، مع الإشارة إلى أن تلك الدول تنتهج سياسات الكيل بمكيالين في ملف حقوق الإنسان وأنها جعلته ملفاً مسيساً وغير منصف واستخدمته كأداة للضغط الخارجي والتدخل في الشئون الداخلية للدول والتأثير المدمر على أنشطة المنظمات الدولية وهو ما تستنكره الاستراتيجية التي توصي كذلك باتخاذ موسكو إجراءات ضد الدول الأخرى المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان والحريات الأساسية، ما يعني أنها ستعمل على اتخاذ إجراءات مقابلة للإجراءات الغربية والأمريكية على نفس الأرضية.

رؤية روسية لنظام دولي متعدد الأقطاب

فيما ترى روسيا نفسها كأحد المراكز السيادية للتنمية العالمية التي تؤدي مهمة تاريخية تهدف للحفاظ على توازن القوى العالمي وبناء نظام دولي متعدد الأقطاب، فإن المفهوم الجديد ينطلق من إدراك روسي لتغيرات ثورية يشهدها النظام الدولي تدفع نحو تشكيل نظام دولي متعدد الأقطاب أكثر إنصافاً. ويمكن ملاحظة وضع روسيا للصراع الأمريكي والغربي مع روسيا والصين باعتباره يأتي في إطار محاولة الدول الصاعدة والكبرى غير الغربية إنهاء الهيمنة الاستعمارية الغربية، وقمع الولايات المتحدة المعارضة الدولية المتزايدة لهيكل النظام الدولي الحالي.

وعلى الجانب الاقتصادي، تركز روسيا على اتهام النموذج الاقتصادي الغربي بالاستعمارية الجديدة عبر انتهاج الدول الغربية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة نموذجاً غير متوازن للتنمية العالمية كفل لها النمو الاقتصادي المتقدم من خلال الاستيلاء على موارد الدول الأخرى. مع التبشير بتلاشي هذا النموذج وحدوث تحول هيكلي للاقتصاد العالمي، خاصة مع الدور المتزايد للتكنولوجيا في التنافس الاقتصادي الدولي ودعم الصعود العالمي للدول الأخرى. وبالتالي فإن موسكو تطرح نفسها كراعية لمطالب تعزيز السيادة والفرص التنافسية للقوى غير الغربية والدول الإقليمية الصاعدة، والتحول نحو مراكز جديدة للنمو الاقتصادي تساعد على تشكيل نظام دولي أكثر ديمقراطية وإنصافاً. وستستغل روسيا في هذا السياق الانتقادات الموجهة للعولمة الاقتصادية باعتبارها تعاني خلال السنوات الأخيرة أزمات مركبة ومتتالية بدءاً من أزمات سلاسل الإمداد، مروراً بتراكم ديون الدول النامية واضطرابات سوق الطاقة والأسواق المالية.

وفيما تركز الولايات المتحدة على تدشين تحالفات سياسية واقتصادية وعسكرية لمواجهة التحديات الإقليمية، تجادل موسكو في وثيقتها بأن المستوى العالي من الترابط والانتشار العالمي للتحديات والتهديدات يحد من قدرة الدول الفردية والتحالفات العسكرية والسياسية والتجارية والاقتصادية على ضمان الأمن والاستقرار والازدهار، وأن تحقيق التنمية تحتاج إلى جهود المجتمع الدولي بأسره على أساس توازن القوى والمصالح.

وقد وضع المفهوم الجديد للسياسة الخارجية على رأس أولوياته إقامة نظام دولي عادل ومستدام يضمن الأمن الموثوق به، ويحافظ على الهويات الثقافية والحضارية، ويحقق تكافؤ الفرص في التنمية لجميع الدول، ويستند إلى عدد من المبادئ بينها عدم التدخل في الشئون الداخلية، واحترام تنوع الثقافات والحضارات ونماذج التنظيم الاجتماعي وحق الدول في اختيار نموذج التنمية والنظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الخاص بها، وعدم فرض نماذج التنمية أو الأيديولوجيات أو القيم، ونبذ سياسات الهيمنة والكيل بمكيالين، مع الاعتماد على توجيه روحي وأخلاقي مشترك بين جميع الديانات التقليدية العالمية والعلمانية.

الاقتصاد والعقوبات

وفقاً للمفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية، فإن من أولوياتها في المجال الاقتصادي ضمان الوصول العادل لجميع الدول إلى فوائد ومكاسب الاقتصاد العالمي والتكنولوجيا الحديثة، ومعالجة مشكلات الأمن الغذائي وأمن الطاقة. كما تدعم الوثيقة اعتماد التنمية العادلة والمتساوية والسلمية كمسارات ومحددات للتنمية العالمية، وذلك في اتهام للنموذج التنموي الغربي بالهيمنة واستغلال الموارد وعدم العدالة واستخدام القوة العسكرية والضغوط السياسية والاقتصادية، واعتباره أحد تجليات “الاستعمار الجديد”. وأوصت الوثيقة بالعمل على تعزيز مشاركة البلدان النامية في إدارة الاقتصاد العالمي، وتحسين شروط دخول روسيا إلى الأسواق العالمية، وحماية المنظمات والاستثمارات والسلع والخدمات الروسية خارج البلاد من التمييز والمنافسة غير العادلة، وتعزيز الوجود الروسي في الأسواق العالمية، وزيادة الصادرات غير القائمة على الموارد والطاقة، مع التنويع الجغرافي للروابط الاقتصادية، حيث ستسخدم موسكو الورقة الاقتصادية بشكل أكبر كميزة أو عقاب تجاه الدول بناءً على مواقفها تجاهها.

ولفتت الاستراتيجية إلى أهمية مراعاة واقع العالم متعدد الأقطاب وعواقب أزمة العولمة الاقتصادية فيما يتعلق بالتجارة العالمية والنظم النقدية والمالية بهدف تضييق احتمالات قيام الدول غير الصديقة بالإفراط في استخدام احتكارها أو هيمنتها. وتقليل اعتماد الاقتصاد الروسي على الإجراءات غير الودية للدول الأجنبية من خلال تطوير بنية تحتية دولية غير مسيسة وآمنة ومستقلة عن الدول غير الصديقة، خاصة فيما يتعلق بنظم الدفع والعملات. وتدافع الوثيقة عن أهمية العمل على إعادة توزيع إمكانات التنمية لصالح مراكز نمو جديدة باعتباره يساعد على تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب.

وكرد فعل على العقوبات المفروضة على روسيا، خاصة تلك التي تزايدت في أعقاب اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا العام الماضي، استنكرت استراتيجية السياسة الخارجية الروسية في أكثر من موضع استخدام العقوبات ضدها دون موافقة مجلس الأمن معتبرة أنها تدابير قسرية أحادية الجانب وغير قانونية، ووضعتها في إطار الأعمال غير الودية التي تهدد سيادة وأمن الاتحاد الروسي. ودعت إلى تحسين آلية تطبيق العقوبات الدولية على أساس الاختصاص الحصري لمجلس الأمن الدولي لفرض هذه الإجراءات وضرورة ضمان فعاليتها في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين ومنع تدهور الوضع الإنساني. كما دعت الوثيقة كذلك إلى ضمان وصول الرياضيين والمنظمات الرياضية الروسية إلى الأنشطة والأحداث الرياضية الدولية وعدم التسييس، في إشارة إلى الإجراءات العقابية المتخذة بحق روسيا في المجال الرياضي على خلفية حربها على أوكرانيا، رغم أن الوثيقة اعتبرت العامل السياسي محدداً لتفاعلاتها الرياضية بالدعوة نحو تطوير أشكال جديدة للتعاون الرياضي الدولي مع الدول التي تنتهج سياسة “بنّاءة” تجاه روسيا.

التوجهات الإقليمية للسياسة الخارجية الروسية

حدد المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية توجهات تلك السياسة تجاه أقاليم العالم المختلفة على النحو التالي:

1- “الخارج القريب”: يولي الاتحاد الروسي أهمية كبرى لدول الجوار والجمهوريات السوفيتية السابقة، في ظل الروابط التاريخية والسياسية والثقافية المشتركة، وهي الدول التي تطلق عليها روسيا دول “الخارج القريب”. وتعكس التوجهات الروسية تجاه تلك المنطقة القلق من “التحريض على الثورات الملونة” والتدخل الخارجي الغربي في شئون تلك الدول وعلاقاتها بروسيا، والقناعة بدور تاريخي روسي مستمر في حماية الأمن الإقليمي لتلك المنطقة، ومواجهة محاولات نشر بنية تحتية عسكرية للدول غير الصديقة لروسيا في محيطها الإقليمي، مع تطوير أشكال إضافية متعددة للتفاعل بين روسيا ودول منطقة آسيا الوسطى، والسعي نحو تعميق التكامل وإقامة فضاء اقتصادي وسياسي متكامل في أوراسيا على المدى الطويل. وتضع موسكو نصب أعينها في محيطها الإقليمي السعي نحو انضمام جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية إلى الاتحاد الروسي أو تحقيق درجة أعمق من الاندماج، مع التأكيد كذلك على أن حل جميع القضايا المتعلقة بهذه المنطقة يقع ضمن الاختصاص الحصري لدول بحر قزوين الخمس. وقد دعمت الاستراتيجية اعتماد إجراءات سياسية ودبلوماسية لمنع التهديدات الناشئة من الأقاليم والدول المجاورة لأمن روسيا، وإنشاء وتحسين آليات ضمان الأمن الإقليمي وتسوية الأزمات في المناطق ذات الأهمية لمصالح روسيا، كمدخل لتعزيز الأمن الإقليمي ومنع الحروب المحلية والإقليمية، وعلى رأسها منطقة “الخارج القريب”.

2- القطبان الشمالي والجنوبي: في ظل تصاعد التنافس الدولي على القطب الشمالي، تحدد الاستراتيجية ملامح السياسة الخارجية الروسية تجاه تلك المنطقة، والتي ستعمل على التعاون مع الدول الصديقة غير القطبية الشمالية المهتمة بالمنطقة، ومواجهة سياسات الدول غير الصديقة التي تتهمها موسكو بأنها تهدف إلى عسكرة المنطقة والحد من قدرة روسيا على ممارسة حقوقها السيادية في المنطقة القطبية الشمالية التابعة لها، مع ضمان عدم تغيير النظام القانوني الدولي للمياه البحرية التابعة لها، وإيجاد حل سلمي للقضايا الدولية المتعلقة بالقطب الشمالي. فضلاً عن تعزيز طريق بحر الشمال كممر للنقل بين أوروبا وآسيا. وفي القطب الجنوبي تشير الوثيقة إلى الاهتمام بالحفاظ على قارة أنتاركتيكا كمنطقة منزوعة السلاح يسودها السلام والاستقرار والحفاظ على الاستدامة البيئية، مع توسيع وجودها في المنطقة.

3- آسيا والمحيط الهادئ: مقابل الاهتمام الأمريكي المتزايد بتلك المنطقة، تستهدف السياسة الخارجية الروسية زيادة التعاون الاقتصادي والأمني والإنساني وغيره مع دول المنطقة والدول الأعضاء في رابطة أمم جنوب شرق آسيا، وإنشاء هيكل شامل ومنفتح ومتعدد الأطراف وعادل للأمن والتعاون، ومواجهة محاولات تقويض النظام الإقليمي متعدد الأطراف للأمن والسياسات الهادفة إلى رسم خطوط الانقسام في المنطقة، في إشارة إلى السياسة والتحالفات الأمريكية في المنطقة.

4- المنطقة الأوروبية: حرصت الوثيقة على استخدام وصف المنطقة الأوروبية وليس القارة الأوروبية في ظل انحيازها إلى مفهوم قارة “أوراسيا”. ويرى الكرملين أن معظم الدول الأوروبية تنتهج سياسة عدوانية تجاه روسيا تهدف إلى تهديد الأمن والسيادة والاستقرار القيم الروحية والأخلاقية التقليدية لروسيا، فيما تبرر روسيا سلوكها تجاه تلك الدول بأنه سلوك دفاعي لوقف الأعمال غير الودية والتدخل في الشئون الداخلية الروسية، مع التأكيد على سعيها نحو الانتقال إلى سياسة حسن الجوار والتعاون متبادل المنفعة. وتدعو الوثيقة إلى تشكيل نموذج جديد للتعايش والسلام الدائم في الجزء الأوروبي من أوراسيا. فيما ترى موسكو أن العامل الرئيسي المعرقل للعلاقات الروسية الأوروبية هو المسار الأمريكي الذي تحاول موسكو تأليب الدول الأوروبية ضده عبر اتهامه بأنه يستهدف تعميق الانقسامات في المنطقة الأوروبية لإضعاف القدرة التنافسية لاقتصادات روسيا والدول الأوروبية وتقييد سيادتهم لضمان الهيمنة الأمريكية على العالم، مقابل دعوة روسيا تلك الدول للاستقلال عن السياسة الأمريكية والتوجه نحو التعاون المتبادل مع روسيا كمسار بديل يحقق أمن ورفاهية المنطقة الأوروبية، ويساعد الدول الأوروبية على أخذ مكانها المناسب في الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى والنظام الدولي متعدد الأقطاب.

5- أوراسيا: تسعى موسكو إلى تعميق الروابط بشكل شامل وتعزيز التنسيق مع مراكز القوة والتنمية العالمية التي تتشارك معها رؤيتها المستقبلية للنظام الدولي، مع التركيز بشكل خاص على زيادة تعزيز الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجي مع الصين، وتقديم المساعدة المتبادلة، وتعزيز التنسيق على الساحة الدولية، في ظل الموقف الصيني الإيجابي تجاه موسكو في أزمة الحرب الأوكرانية، وموقفهما المتشابه من الهيمنة الأمريكية والسعي نحو عالم متعدد الأقطاب، وسعي الدولتان لتطوير شراكة استراتيجية وصداقة بلا حدود بينهما في مختلف المجالات. كما تعمل موسكو على بناء شراكة استراتيجية مميزة مع الهند لتعزيز وتوسيع التعاون في جميع المجالات، والتركيز بشكل خاص على زيادة حجم التجارة الثنائية وتعزيز الاستثمار والتكنولوجيا، وضمان مقاومتها للتحالفات المعادية. ورغم أن موسكو تختلف مع نيودلهي فيما يتعلق بمفهوم منطقة “الإندو-باسيفك” وخاصة الحوار الأمني الرباعي “كواد” ودور الهند في الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة الصين في المنطقة، إلا إنها قدّرت امتناع نيودلهي عن الإدانة العلنية الشديدة لها بخصوص حربها في أوكرانيا وعدم التصويت على أية قرارات حاسمة ضد روسيا بالأمم المتحدة. وتبدي روسيا حرصها على الشراكة الموجودة مع الهند وتسعى لتعميقها باعتبارها مركز ثقل مهماً في أوراسيا والعالم. وقد عززت روسيا بالفعل من إمدادات الطاقة للهند التي أصبحت أحد المشترين الرئيسيين للطاقة الروسية.[5]

ويتجلى في تلك المنطقة التوجه الروسي نحو تعزيز دور المؤسسات الإقليمية مثل منظمة شنغهاي للتعاون، مع السعي نحو إنشاء تكامل واسع للشراكة الأوروبية الآسيوية من خلال الجمع بين إمكانات جميع الدول والمنظمات والإطارات الإقليمية الأوروبية والآسيوية، مع إيلاء اهتمام بالتعاون الاقتصادي وممرات النقل في القارة، حيث تستهدف تحديث وزيادة قدرة خط بايكال-أمور للسكك الحديدية، وإطلاق ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، وإنشاء مناطق تنمية وممرات اقتصادية في أوراسيا، بما في ذلك الممر الاقتصادي بين الصين ومنغوليا وروسيا. كما تستغل موسكو الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان لتطرح سعيها لتسوية شاملة في أفغانستان والمساعدة في إعادة بناء الدولة وإدماجها في إطارات التعاون الإقليمي الأوراسي.

6- أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي: تعرض الوثيقة الجديدة تقديم روسيا الدعم للدول الواقعة تحت ضغوط الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة والساعية لتحقيق الاستقلال عن واشنطن من خلال تعزيز وتوسيع التعاون الأمني والعسكري والتقني مع تلك الدول. وتسعى السياسة الخارجية الروسية إلى تعزيز الصداقة والتفاهم والشراكة ذات المنفعة المتبادلة مع البرازيل وكوبا ونيكاراجوا وفنزويلا، وهو ما يمكن تفسيره برضا الكرملين عن مواقف تلك الدول تجاه روسيا وعمليتها العسكرية ورفض الانضمام إلى العقوبات المفروضة عليها. ولذلك تربط موسكو تطوير علاقاتها مع دول أمريكا اللاتينية الأخرى بدرجة الاستقلال والإيجابية في سياساتهم تجاه روسيا.

7- أفريقيا: تعد القارة الأفريقية أحد أبرز مناطق العالم التي تلوح فيها فرص للانتشار الاستراتيجي الروسي مقابل الدول الغربية، وهو ما تستغله روسيا بشكل واضح عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. وتلتقي روسيا مع بعض دول القارة فيما يتعلق بالسعي نحو عالم متعدد المراكز أكثر إنصافا،ً والقضاء على التفاوت الاجتماعي والاقتصادي العالمي الذي يتزايد بسبب السياسات الاستعمارية الجديدة لبعض الدول المتقدمة تجاه أفريقيا، حيث ترى تلك الدول في موسكو وبكين أطرافاً دولية قادرة على المساعدة في ذلك بأطروحات مناهضة للهيمنة الأمريكية. وفي هذا الإطار، تعتزم روسيا تقديم مساعدات للدول الأرووبية في قطاعات الغذاء والطاقة والأمن والدفاع، مع زيادة التجارة والاستثمار. فضلاً عن تطوير الروابط في المجال الإنساني، والتعاون العلمي، والدعم الطبي، وتدريب الكوادر البشرية. مع مراعاة أهمية حماية القيم الدينية والروحية والأخلاقية والثقافية التقليدية في القارة. وتسعى روسيا إلى أن تلعب دوراً في حل النزاعات المسلحة في أفريقيا. كما تراود الرغبات الأفريقية في مواجهة التدخلات الخارجية بالدعوة إلى دور ريادي للدول الأفريقية في هذه الجهود على أساس مبدأ الحلول الأفريقية للمشاكل الأفريقية. ومن المفترض أن يمثل منتدى الشراكة الروسية الأفريقية أحد منصات الدور الروسي في القارة.

8- الدول الإسلامية: اتساقاً مع اتخاذ المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية من البعد الثقافي والحضاري والروحي مرتكزاً رئيسياً في تفاعلات موسكو مع العالم ورؤيتها، فإن الاستراتيجية الجديدة رغم تحديد اتجاهات إقليمية للسياسة الخارجية الروسية، تعاملت مع الدول الإسلامية ككتلة واحدة على أساس ثقافي وحضاري، ولم تكتفي بالبعد الجغرافي لأقاليم وقارات العالم المختلفة الذي يضم ضمنياً الدول الإسلامية، ووصفتها بـ “العالم الإسلامي” و”دول الحضارة الإسلامية الصديقة”، حيث تسعى موسكو إلى استغلال رغبة تلك الدول في ترسيخ نفسها كمركز مستقل للتنمية العالمية في عالم متعدد المراكز . وستسعى روسيا إلى تعزيز التعاون الشامل متبادل المنفعة مع الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، مع طمأنة تلك الدول بالتأكيد على احترام أنظمتها الاجتماعية والسياسية والقيم الروحية والأخلاقية التقليدية.

وقد أشارت الوثيقة تحديداً بمزيد من الاهتمام إلى تطوير التعاون الواسع النطاق والموثوق مع إيران، وتقديم الدعم الشامل لسوريا، وتعميق الشراكات ذات المنفعة المتبادلة مع مصر والسعودية وتركيا. فضلاً عن تنفيذ مفهوم الأمن الجماعي الروسي لمنطقة الخليج العربي، وتسوية الخلافات وتطبيع العلاقات بين الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، وكذلك بين هذه الدول وجيرانها، في إشارة إلى إيران وإسرائيل، والسعي نحو حل شامل ودائم  للقضية الفلسطينية، فضلاً عن دعم إعادة علاقات بعض الدول العربية مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد. بالإضافة إلى المساعدة في حل النزاعات المسلحة في الدول الإسلامية، والعمل على حماية القيم الدينية والروحية والأخلاقية التقليدية، ومكافحة الإسلاموفوبيا. وكذلك لم تغفل الوثيقة الإشارة إلى دعم الإمكانات الاقتصادية لتلك الدول ضمن جهود إقامة الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى.

خاتمة

يعكس المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية مقاربة جديدة للعلاقات الروسية الغربية يغلب عليها تفاقم العداء والصراع. فيما تولي روسيا أهمية كبيرة لتعزيز علاقاتها مع الصين والهند كمراكز قوة وحضارة وثقافة وتنمية دولية تساعد على التوجه نحو عالم متعدد القطبية والحد من الهيمنة الأمريكية الغربية. كما يعد مفهوم “العالم الروسي” مدخلاً مهماً لفهم السياسة الخارجية الروسية تجاه دول الجوار والدول السوفيتية السابقة أو تجاه المواطنين الناطقين بالروسية والمنتمين إلى “الحضارة الروسية” في تلك الدول وغيرها. وقد استخدمت موسكو هذا المنطق ضمن تبريرات عمليتها العسكرية في أوكرانيا. كما تعد مكافحة “الروسوفوبيا” أو “العداء للروس” من أهم توجهات السياسة الخارجية الروسية وذلك باستخدام العديد من الأدوات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والدعائية والعسكرية.

وأكدت الوثيقة على حق موسكو في اتخاذ كافة التدابير بما فيها التدابير العسكرية للحفاظ على مصالحها الحيوية ووجود دور روسي إقليمي وعالمي أبعد من حدود الدولة الروسية، في محاولة للتوفيق بين الترويج لسلمية سياستها الخارجية وبين واقع عمليتها العسكرية في أوكرانيا. كما أشار مفهوم السياسة الخارجية الروسية فيما يتعلق بالفضاء الخارجي إلى أهمية تعزيز التعاون الدولي بهدف منع حدوث سباق تسلح في الفضاء الخارجي من خلال وضع وإبرام معاهدة دولية تتعهد فيها جميع الدول الأطراف بألا تكون البادئة بوضع أسلحة في الفضاء الخارجي وعسكرته.

وبشكل عام، يمكن القول إن المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية يأتي في ظل متغيرات دولية جديدة وكبيرة تدفع دول العالم إلى تحديث استراتيجياتها المختلفة، وأن تلك الوثيقة تحدد ملامح السياسة الخارجية الروسية في عالم ما بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، الذي يختلف عما قبله، وتعكس كثيراً من رؤية الكرملين المعلنة للسياسة الخارجية الروسية، وكذلك كثيراً مما يريد أن يروجه عنها.

مركز الاهرام للدراسات