بينما يهز العنف الشرق الأوسط، تبدو الولايات المتحدة عاجزة، مرة أخرى

بينما يهز العنف الشرق الأوسط، تبدو الولايات المتحدة عاجزة، مرة أخرى

ثمة عاصفة كاملة من المكونات المزعزعة للاستقرار، حيث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في المركز، تهدد بتصعيد آخر للعنف على المدى القريب من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وسيشكل الفلسطينيون معظم الضحايا المباشرين، كما فعلوا في كثير من الأحيان في الماضي، ولكنهم لن يكونوا الأهداف الوحيدة.‏ وبالنظر إلى طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فقد تتأثر المصالح الأميركية بطرق متعددة.‏
‏كان تصعيد الصراع جارياً بالفعل منذ أشهر. كان الفلسطينيون الـ144 الذين ‏‏قتلتهم‏‏ القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية (من دون احتساب القدس الشرقية) في العام 2022 هم الأكبر منذ العام 2004. كما قتل نحو 30 إسرائيليًا على أيدي فلسطينيين خلال الفترة نفسها، وهو أكبر عدد منذ العام 2007.‏
‏بدأت موجة العنف الأخيرة هذا الشهر ‏‏بغارة‏‏ إسرائيلية على المسجد الأقصى، وهو جزء من الموقع الذي يسميه المسلمون الحرم الشريف ويسميه اليهود جبل الهيكل. وكان حشد من المصلين المسلمين يتعبدون في المسجد، وهو حقهم بموجب تفاهم دولي طويل الأمد بشأن استخدام الموقع الذي تديره سلطة دينية أردنية. ولا بد أن القادة الإسرائيليين توقعوا رد فعل عنيفا على الغارة التي أصيب فيها العشرات، ومن المعقول افتراض أن ‏‏استدراج‏‏ مثل هذا الرد كان الغرض من الغارة من الأساس.
‏وشمل الرد ‏‏وابلاً‏‏ من الصواريخ التي أُطلقت من لبنان، والذي ألقت إسرائيل باللوم فيه على حركة “حماس” الفلسطينية -التي كان زعيمها السياسي، إسماعيل هنية، ‏‏يجتمع‏‏ في ذلك الوقت مع قادة حزب الله اللبناني. وشمل الرد الإسرائيلي ‏‏المضاد شن غارات جوية‏‏ ضد أهداف في كل من لبنان وقطاع غزة.‏
ووصفت بعض التعليقات الضربات الإسرائيلية بأنها ‏‏مقيدة‏‏ نسبيًا مع استمرار الهجمات الجوية الإسرائيلية، فيما قد يشير إلى رغبة في عدم تصعيد الصراع المسلح أكثر من ذلك. لكن العاصفة ما تزال قائمة. ومكوناتها محلية، ودولية، وحتى لاهوتية.‏
‏ثمة مكون رئيسي هو موقف نتنياهو السياسي الداخلي غير المستقر. فبعد أن أطاح به ائتلاف متنوع كانت نقطة اتفاقه الوحيدة هي الرغبة في إخراج نتنياهو من مكتب رئيس الوزراء، كان طريق نتنياهو الوحيد للعودة إلى هذا المنصب هو التحالف مع اليمين الاستيطاني/ الديني المتطرف. ويرتبط جزء كبير من مأزق نتنياهو السياسي بالملاحقة القضائية المحتملة التي يواجهها بتهمة ‏‏الفساد‏‏.‏
‏تركزت الاضطرابات السياسية الحالية في إسرائيل، بما في ذلك ‏‏الاحتجاجات‏‏ الشعبية الضخمة، على خطة ائتلاف نتنياهو اليميني المتطرف لإضعاف القضاء. ولشراء بعض المساحة للتنفس وسط الاحتجاجات، أعلن نتنياهو عن ‏‏تأجيل‏‏ التغييرات المتوقعة في القضاء. وكان جزء من الثمن الذي دفعه للحصول على هذه المساحة هو إعطاء أحد المتطرفين البارزين في حكومته، وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، “‏‏الحرس الوطني‏‏” الذي أراد بن غفير إنشاءه. وتغذي تصريحات بن غفير مخاوف مفهومة من أن مثل هذه القوة ستعمل كميليشيا شخصية له ‏‏معادية للعرب‏‏.‏
‏ولا تدفع التصورات الفلسطينية لكل هذا الفلسطينيين نحو الاعتدال والصبر، بل العكس. فمنذ تشكيل الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة الحالية قبل أربعة أشهر، تبدو الحقوق السياسية الفلسطينية وتقرير المصير أبعد منالاً من أي وقت مضى.‏
ولا ترفع الاحتجاجات الشعبية الإسرائيلية ضد تلك الحكومة آمال الفلسطينيين في حدوث تغيير سلمي مفيد، وقد تؤدي إلى المزيد من تبديد الآمال فحسب. على المدى القصير، هناك التهديدات مثل تلك التي تشكلها ميليشيا بن غفير. وهناك إدراك أوسع إطارًا وأكثر إثارة للقلق، هو أن مظاهرات الشوارع الإسرائيلية تنطوي على خلاف بين اليهود الإسرائيليين حيث من الواضح أن “الديمقراطية” التي يقول معظم المتظاهرين إن الخطة القضائية للحكومة تهددها لا تشمل الديمقراطية للعرب الفلسطينيين. ومن الصعب على الفلسطينيين تصور وجود أصدقاء، حتى بين الذين يعرفون أنفسهم بأنهم المعتدلون الإسرائيليون. والمكونات موجودة لدى المزيد من الفلسطينيين أكثر من أي وقت مضى لكي لا يروا أي بديل عملي عن المقاومة العنيفة.‏
‏وكما لو أن هذه المكونات لم تكن كافية، شهد هذا العام مصادفة عيد الفصح اليهودي ورمضان. وكانت للشهر الأخير علاقة كبيرة بحجم الحشد في الأقصى وقت الغارة الإسرائيلية. وعلى الجانب الآخر، ‏‏شجع‏‏ بن غفير الحشود اليهودية على الذهاب إلى جبل الهيكل خلال عيد الفصح، على الرغم من أنه على الأقل لم يؤيد هدف المتعصبين الدينيين الذين أرادوا الاحتفال بعيد الفصح ‏‏بذبح‏‏ خروف أو ماعز هناك.‏
و‏تسهم المكونات الخارجية في العاصفة، حيث الصراعات الخارجية المتعلقة بالصراعات المحلية. وكان أحد أهم التطورات الإقليمية في الأشهر الأخيرة هو ‏‏التقارب‏‏ الذي ترعاه الصين بين إيران والمملكة العربية السعودية. وكان هذا تطورًا إيجابيًا لمصالح الجميع ‏‏باستثناء‏‏ مصالح اليمين الإسرائيلي -وخاصة نتنياهو- الذي جعل من العداء الأبدي لإيران وعزلها محورًا لاستراتيجيته الخارجية والداخلية على حد سواء. وتعمل هذه الاستراتيجية على تحويل الانتباه الدولي عن سلوك إسرائيل ومساعدة نتنياهو على تقديم نفسه إلى دائرته الانتخابية المحلية كمدافع عن الأمن الإسرائيلي ضد التهديدات الخارجية. والآن، ربما يرى حاجة إلى تأمين دعم كلا العنصرين من تلك الاستراتيجية.‏
‏وثمة خلفية إقليمية أخرى هي ‏‏التسارع‏‏ المستمر لبرنامج إيران النووي -كنتيجة مباشرة ‏‏لتراجع‏‏ الرئيس السابق دونالد ترامب الأحمق، الذي ‏‏هلل‏‏ له نتنياهو خلال فترة ولايته السابقة، عن الاتفاق متعدد الأطراف الذي أغلق جميع الطرق أمام تصنيع سلاح نووي إيراني محتمل. والآن ‏‏عاد‏‏ خطر بدء إسرائيل صراعًا عسكريًا مع إيران ليصبح قيد المناقشة.‏
كما ‏تشكل الولايات المتحدة مكونًا خارجيًا آخر في العاصفة، ولو بالمعنى السلبي المتمثل في الفشل في استخدام نفوذها لكبح جماح إسرائيل وردعها عن السلوك المزعزع للاستقرار. وعلى الرغم من أن إدارة بايدن لم تذهب إلى تلك الحدود القصوى التي بلغها ترامب في إخضاع المصالح الأميركية بالجملة للرغبات الإسرائيلية، إلا أن الرئيس بايدن يتبع التقليد القديم للحزبين المتمثل في التظاهر بأنه “مؤيد لإسرائيل” والامتناع عن استخدام النفوذ الذي ينطوي عليه الدعم الاقتصادي والدبلوماسي الاستثنائي الذي قدمته الولايات المتحدة لإسرائيل منذ فترة طويلة. وقد أوضح بايدن منذ بداية ولاية إدارته أنه لا ينوي إنفاق رأس المال السياسي في فعل أي شيء حيال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي لم يتم حله.‏
‏وقد تجلت الطبيعة الناتجة عن العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، التي لم تتغير بشكل أساسي عن الماضي، عندما أكد بايدن من جديد أنه “مؤيد قوي لإسرائيل”، ‏‏ودعا‏‏ حكومة نتنياهو بلطف، وإنما علنًا، إلى التخلي عن الخطة المثيرة للجدل المتعلقة بالقضاء. وقد لخص وزير شؤون الشتات، عميحاي شيكلي، رد الحكومة الإسرائيلية عندما ‏‏قال‏‏: “اهتموا بشؤونكم الخاصة”.‏
‏وكان شيكلي يرد مباشرة على تعليقات السفير الأميركي لدى إسرائيل توم نايدس الذي حث إسرائيل على “كبح جماح” خطة الإصلاح القضائي، مرددًا ما قاله الرئيس بايدن. ولكن، عندما يتعلق الأمر بقضايا الحرب والسلام، فإن نايدس، بعيدًا عن دعوة حكومة نتنياهو إلى الضغط على أي مكابح، يبدو وكأنه أعطى إسرائيل بدلاً من ذلك ‏‏الضوء الأخضر‏‏ لمهاجمة إيران. وقال ناديس: “يمكن لإسرائيل، ويجب عليها أن تفعل كل ما تحتاج إلى فعله تجاه ما تتعامل معه، ونحن نساندها”.‏
تعود أكبر الأسئلة في الوقت الراهن إلى نتنياهو، وإلى علاقة قديمة -يدركها ويستغلها منذ فترة طويلة قادة العديد من البلدان- بين المشاكل السياسية الداخلية والصراع مع الأعداء الخارجيين. ويمكن لمثل هذا الصراع، ‏‏الذي يتم افتعاله‏‏ إذا لزم الأمر، أن يساعد على إنقاذ زعيم من المشاكل السياسية من خلال خلق تأثير التحشيد حول العلم وصرف الانتباه عن الأسباب الأساسية لتلك المشاكل.
‏وكان نتنياهو بارعًا في هذا التكنيك، ومع مأزقه الحالي -الذي ربما يكون الأصعب الذي واجهه على الإطلاق- ومع رغبة لا تتزعزع في البقاء في السلطة (ليس أقلها لاستخدام تلك السلطة لإيجاد ‏‏مخرج‏‏ من تهم الفساد)، فإن لديه على الأقل القدر نفسه من ‏‏الحوافز‏‏ التي كانت لديه دائمًا لاستخدام هذا التكنيك.‏
‏وهذا يعني بدء أو استفزاز نزاع مسلح مع الفلسطينيين أو إيران أو حزب الله، حليف إيران، أو أي مزيج منهم. وفيما يتعلق بالفلسطينيين، قد يعني ذلك المزيد من الإجراءات الإسرائيلية مثل اقتحام المسجد الأقصى، بما في ذلك المزيد من التحركات الاستفزازية إذا فشلت التحركات السابقة في إحداث تصعيد.‏
‏وفيما يتعلق بإيران، قد لا يعني ذلك هجومًا مفاجئًا مباشرًا، بل ربما تصعيدًا ‏‏للهجوم‏‏ الجوي الإسرائيلي المستمر على أهداف مرتبطة بإيران في سورية، بقصد أن يؤدي ذلك إلى مزيد من التصعيد. وهنا يمكن إضافة حرب روسيا في أوكرانيا إلى قائمة المكونات الخارجية التي تؤثر بشكل غير مباشر على العاصفة في الشرق الأوسط. وقد ‏‏تفاهمت‏‏ إسرائيل وروسيا على أن لا تتدخل الأخيرة في الضربات الجوية للأولى في سورية. ومع الصعوبات التي تواجهها روسيا في أوكرانيا واهتمامها بعدم زيادة إسرائيل دعمها ‏‏الفاتر‏‏ لأوكرانيا، من غير المرجح أن تشدد موسكو شروط هذا التفاهم، ويمكن للطائرات الحربية الإسرائيلية تصعيد قصفها.‏
‏لقد أراد الرئيس بايدن، مثل بعض أسلافه، ‏‏تحويل‏‏ انتباه الولايات المتحدة بعيدًا عن الشرق الأوسط. لكن هذا لا يحدث، وليس فقط بسبب ‏‏الروابط‏‏ الجيوسياسية بين تلك المنطقة والنقاط الأبعد شرقا. إنه كذلك بسبب المصالح في الشرق الأوسط، بما في ذلك تلك التي ربطت بها الولايات المتحدة نفسها، والتي تفضل إدامة بعض الصراعات أو رفض محاولة حلها. ومن أبرز هذه التحديات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي، على الرغم من الحديث عن “‏‏تقليصه‏‏”، لا يرفض الانكماش فحسب، بل يمكن أن يؤدي بشكل غير مباشر إلى اندلاع العنف في ساحات أخرى مثل إيران.‏
‏سيكون استنزاف للانتباه السياسي الحاصل الأكثر مباشرة، ولكنه ليس بأي حال من الأحوال النتيجة السلبية الوحيدة على مصالح الولايات المتحدة. سيكون من شأن أي صدام مسلح مع إيران أن يزيد من الحافز لدى إيران لتطوير سلاح نووي ويقلل من فرصة منع هذا الاحتمال من خلال الدبلوماسية. ومع أي نزاع مسلح متصاعد بين إسرائيل والفلسطينيين، ستشارك الولايات المتحدة في تلقي الازدراء الدولي الموجه ضد إسرائيل بسبب الدعم الثابت والغطاء الذي قدمته الولايات المتحدة لإسرائيل. وتنطوي هذه العلاقة نفسها على خطر جر الولايات المتحدة مباشرة إلى صراعات مسلحة متصاعدة، كما هو الحال مع إيران.‏
‏إذا كانت خيارات السياسة الأميركية في المنطقة تبدو محدودة اليوم، فذلك بسبب الميول المانوية للعديد من الإدارات التي قسمت المنطقة إلى أشخاص جيدين وأشرار، مع دعم غير مشروط للأوائل وعداء لا يلين تجاه الأخيرين. ويمكن لأولئك الذين أعطِي لهم سبب لاعتبار الدعم الأميركي أمرًا مفروغًا منه أن يشعروا بالراحة مع تجاهل الولايات المتحدة في المناسبات القليلة التي تصبح فيها الولايات المتحدة منتقدة. وإذا طلبت الحكومة الإسرائيلية من الولايات المتحدة أن “تهتموا بشؤونكم الخاصة” عندما تقدم واشنطن اقتراحًا معقولاً بشأن الهيئات القضائية المستقلة، فذلك لأن الولايات المتحدة فشلت في الاهتمام بشؤونها الخاصة في مسائل مثل استخدام حق ‏‏النقض (الفيتو)‏‏ في الأمم المتحدة.‏

الغد