رغم الحزن الشديد الذى سيطر على العرب من جراء العنف والصراع والتخريب والتدمير الذى يحدث فى السودان بين الجيش الوطنى والميليشيات العسكرية، إلا أنه لم يثر اندهاش أحد، إذ تنتمى السودان إلى الدول العربية الفاشلة والتى تمثل ثلث عدد الدول العربية، ناهيك عن وجود ثلث آخر منها على أعتاب الفشل، ولعله من المفيد أن نتأمل أسباب تعرض الدولة العربية للتفكك والتشرذم، وكيف يمكن احتواء مزيد من التفكيك خشية أن يزول موضعنا كعرب فى النظام الدولى قيد التشكيل، فمن ناحية لم تنشأ الدولة العربية نشأة طبيعية كما حدث فى معظم دول العالم حيث اكتمل بناء الأمة واندمجت عناصرها وتضافرت مكوناتها وتبلورت هويتها ثم تم تلبيس الدولة فوقها، وصارت بحق الدولة القومية، فى عالمنا العربى، وغيره من كثير من الدول النامية. تم إعلان قيام الدولة سواء بالإرادة الذاتية أو بقرار من الدول الاستعمارية فى أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية، دون اكتمال بناء الأمة، وحاولوا تلبيس الأمة غير المكتملة والمشوهة وبغياب متعمد للهوية على هيكل الدولة المصطنع، وهو ما لم يستقر حتى اليوم، لدينا دول تنقصها الأمة المندمجة الموحدة التى تتوافق على هوية مشتركة وأهداف وطنية عليا.
ومن جانب آخر، بينما لعبت الدولة فى الغرب والشرق والعديد من دول الجنوب دور بوتقة الانصهار للأقليات الدينية والعرقية اللغوية وحتى الجغرافية، وصارت مصدرا للثراء الوطنى الفكرى والثقافى، فشلت الدولة العربية فى دمج الأقليات المختلفة فى نسيجها الوطنى، وبدلا من سياسات التضمين طبقت أدوات الاستبعاد والإقصاء، وفرض الولاء والانتماء جبرا بل واضطهاد الأقليات مما دفعها إلى استنهاض مرجعياتها الجغرافية أو القبلية وأحيانا أصولها فى دول الجوار، وبدلا من أن يضيف هذا التنوع قوة إلى الدولة والمجتمع، صار عامل توتر وصراع ومصدر ضعف، يضاف إلى ما سبق، وهو ما أكدته الأدبيات السياسية منذ بداية ستينيات القرن الماضى، أن بناء الدولة الحديثة يستلزم بناء المؤسسات المستدامة والمحايدة والفاعلة فيما يطلق عليه المأسسة/ المؤسسية Institutionalization. إذ يتزامن بناء الدولة مع بناء المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية المتوازنة، وبناء جهاز إدارى فاعل ومحايد سياسيا، والتوافق على دستور وطنى تتفرع عنه قوانين تتسم بالتجرد والعمومية، مؤسسات منفصلة عن من أنشأها لأنها قومية غير متحيزة لجماعة دون أخرى، وهو ما لم يحدث فى الدولة العربية، لقد وجدت مؤسسات ولكنها هشة، وشرعت قوانين دون تطبيق حكم القانون، وأجريت انتخابات فى ظل حزب واحد مسيطر أو دون أحزاب متنافسة، وكثيرا ما تنهار تلك المؤسسات مع كل أزمة وطنية أو معضلة اجتماعية أو تحدٍ خارجى، وتثبت التجارب فى الولايات المتحدة، أو اليابان ــ وقد ضربت بالقنابل النووية ــ أو كوريا الجنوبية أو ماليزيا أو سنغافورة أو الهند أو جنوب أفريقيا وغيرها الكثير، أن سر استقرارها واستمرارها يكمن فى امتلاكها مؤسسات قوية تحمى الدولة والأمة، وبدون مؤسسات محايدة وفاعلة لا يمكن أن يستقيم أمر الدولة أو ضمان بقائها واستقرارها.
وأخيرا، فإن إحدى السمات اللصيقة بالدولة العربية تتمثل فى انتشار الفساد بأشكاله المختلفة، وهو ما يعرقل تطبيق القانون ويدفع إلى عدم الاستقرار، وللفساد الذى ينخر فى جسد الدولة حدود قصوى ينبغى قبلها علاجه وإلا صار خاصية لصيقة بالدولة من الصعب التخلص منها، ولعل من يراجع المصفوفات الدولية للفساد سيصاب بألم شديد نظرا لتربع عدد كبير من الدول العربية مؤشرات الفساد، بطبيعة الحال، يوجد فساد فى كل الدول المتقدمة والنامية. بيد أنه على عكس الدولة العربية، يتم تطبيق القانون لاحتواء آثاره السلبية وحصره فى حدود الأحداث الفردية لا أن يصير ظاهرة مرضية تصيب الدولة والمجتمع بالضمور.
وهكذا، فإن أزمة الدولة العربية واضحة للعامة كما أنه نظرا لكل ما سبق، ونظرا لثراء الدول العربية بالموارد الطبيعية والمعادن الثمينة، فإن القوى الإقليمية كدول الجوار غير العربية، والدول الكبرى تستند فى تحقيق مصالحها إلى توظيف دائم للصراعات الداخلية بل وتغذيتها، من ثم تتشابك أوجه قصور بناء الدولة العربية مع خطط ومطامع الدول والقوى الخارجية لتأجيج الصراع، والذى صار صراعا اجتماعيا متوالدا وممتدا، بصورة صار من الصعب إدارته ناهيك عن حله، فالصراع فى السودان والصومال واليمن وليبيا ولبنان وغيرها هو صراع معقد ومتشابك ومتوالد، إن تم احتواؤه فى مكان انتفض فى مكان آخر، وإدارته وحله يتطلبان علاجات غير تقليدية تمس هيكل بناء الدولة ومختلف علاقاتها الاجتماعية، هذا فضلا عن مراجعة تفاعلاتها الخارجية، هل اللجوء إلى الهدنة، أو الترتيبات الانتقالية أو الوساطات الخارجية تقدم حلولا لحماية الدولة العربية من التفكك أو حمايتها مما يحاك لها خارجيا؟ بالتأكيد لا.
ولكى تتم حماية الدولة العربية من التفكيك وخروجها من معضلة الصراع والعنف والتخريب والدمار ليس هناك أمام النخب المتصارعة إلا الاختيار بين بديلين لا ثالث لهما، إما استمرار الوضع القائم بما يشمله من دمار وخراب واستبعاد وإقصاء وتهميش، وما يترتب عليه بالضرورة من تفكيك المفكك وتفتيت المفتت وزوال الدولة العربية، وإما المبادرة ببناء المؤسسات العصرية الفاعلة والمحايدة والتوافق على دستور أساسه التمكين والدمج وبلورة الهوية الوطنية، وتوافر الإرادة السياسية لدى النخبة بروح الإيثار لتغليب المصلحة الوطنية على الأطماع الفردية، ويستلزم هذا البديل المنقذ للدولة توافق الدول العربية كافة على صيانة أراضينا وبحارنا وحماية مواردنا توطئة لاكتساب موضعنا فى النظام الدولى القادم، والذى ستتنافس فيه الدول والتجمعات الإقليمية على المكانة التى يصبو إليها كل منها.
د. عبدالمنعم المشاط
صحيفة الشروق المصرية