في تطوّر سياسي مفاجئ، انسحب محرم إينجه، رئيس حزب «البلد» وأحد المرشحين للانتخابات الرئاسية التركية قبل ثلاثة أيام فقط من موعدها (14 أيار/مايو) وذلك بعد تهديدات بنشر فضائح له عبر منصات التواصل الاجتماعي، وسارع زعيم حزب «الشعب» وتحالف «الطاولة السداسية» كمال كليجدار أوغلو، إلى دعوته للانضمام للمعارضة، للوقوف في وجه الرئيس الحالي رجب طيب اردوغان، زعيم «حزب العدالة والتنمية» و«تحالف الجمهور».
قدّم إينجه، إثر انسحابه، إشارتين متعارضتين، الأولى يفهم منها دعم تحالف المعارضة، حيث قال إن انسحابه جاء لمنع المعارضة من تحميله مسؤولية فشلها في مواجهة اردوغان، والثانية الافتراق عن تلك المعارضة، بقوله إنه لا يمكنها الفوز «بالتعاون مع أعداء تركيا» وهو أمر فسّر باعتماد المعارضة على دعم حزب «الشعوب الديمقراطية» الكردي، المتهم بالعلاقة مع حزب العمال الكردستاني، والمصنّف على لائحة الإرهاب، ولكنّه يمكن أن يفسّر أيضا بالدعم الذي تلقاه المعارضة التركية من الغرب.
انسحاب إينجه الغامض، والذي اتهم به أنصار الداعية المطارد فتح الله غولن، ترك الصراع على الرئاسة بين الخصمين الكبيرين، اردوغان وكليجدار أوغلو، إضافة إلى المرشح سنان أوغان، الذي يرأس «تحالف الأجداد» الذي يضم أحزابا قومية متطرفة تطرح شعارات عنصرية ضد اللاجئين السوريين وتناهض ما تسميه «هجرات الشعوب الأخرى» (أوغان ابن أسرة تركية ـ أذربيجانية، ويرأس مجموعة الصداقة البرلمانية التركية الأذربيجانية، وأحد وعوده الانتخابية: تحقيق العدالة والدفاع عن حقوق الإنسان)!
احتساب إينجه على المعارضة التركية وعدم لومه تحالف كليجدار أوغلو على ما تعرض له من ضغوط يمكن أن يساهم في دعم حظوظ مرشح المعارضة الرئيسي، وقدرت بعض استطلاعات الرأي أن نصف مؤيديه سيصوتون لكليجدار أوغلو، غير أن شعبيته التي تراجعت مؤخرا من 10٪ إلى 2٪ بالمئة، لا تقدّم صورة واضحة عن حجم تأثير مؤيديه على ميزان التنافس.
يحتسب لاردوغان وحزب «العدالة والتنمية» عدد كبير جدا من الإنجازات السياسية والاقتصادية التي وضعت تركيا في مصاف الدول المؤثرة عالميا وإقليميا، ولعلّ أهم إنجازات الحزب الحاكم كان وضعه تركيا على سكّة التطوّر الديمقراطيّ عبر فك احتكار الجيش للسياسة، وهو الأمر الذي كان يتجلّى في انقلابات عسكرية متوالية، كان آخرها المحاولة الدموية التي جرت عام 2016، وهو ما أسهم أيضا في جعل تركيا، لحقبة مديدة من تاريخها، تملك قرارها المستقل غير التابع للوصاية الخارجية.
أدت فترة الاستقرار السياسية الكبيرة، على مدى 18 عاما، إلى ازدهار اقتصاديّ عام، بشكل رفع الناتج المحلّي الإجمالي، ورفع دخول المواطنين، وأقام مشاريع للطاقة المتجددة، ومفاعلا نوويا، وشقّ آلاف الكيلومترات من الطرق والأنفاق، وبنى مستشفيات عملاقة، وأنشأ العديد من المطارات، وأدى التطور في الصناعات العسكرية إلى صناعة طائرات مسيّرة وحربية وحاملة طائرات ودبابات.
تعرّض المسار السياسي لاردوغان وحزبه الحاكم إلى تحدّيات كبيرة، داخلية، منها انقلاب دبلوماسية التسوية السياسية مع الأكراد إلى خصومة سياسية من جديد، وتزامن ذلك مع اشتداد قوة حزب العمال الكردستاني في العراق وسوريا، وحصوله على دعم كبير أمريكي وغربي، وكذلك الاشتباك الذي حصل مع الشباب على خلفية تطوير حديقة غازي في وسط إسطنبول، إضافة إلى الصراع مع الجيش ومنظمة غولن، وهو ما وسّع دائرة خصومه.
بعد استلامه رئاسة الحكومة عام 2002 نجح في إنقاذ تركيا من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أوصلت نسبة التضخم إلى 33٪ وهبطت بالليرة إلى 44٪ من قيمتها، لكن الأزمة الاقتصادية عادت تضرب بقوة منذ عام 2018 حتى الآن، وذلك بفعل أعباء الديون المرتفعة وعقوبات أمريكية بعد نزاع حول اعتماد تركيا لنظام دفاع صاروخي روسي، مما خفض تصنيفات الديون السيادية التركية وزاد صعوبة جذب مستثمرين للبلاد. انضافت إلى ذلك تداعيات وباء كوفيد، وارتفاع أسعار النفط والحبوب بسبب الحرب الأوكرانية، ثم جاء الزلزال الكبير ليضيف عبئا هائلا على الاقتصاد التركي، وهو ما يمكن أن ينعكس، طبعا، على الانتخابات التركية الحالية.
الناخبون الأتراك الآن مخيّرون بين الإنجازات الواسعة والوعود الكبيرة التي يقدّمها اردوغان وبين وعود المعارضة التي لا تملك رصيدا من الإنجازات لكنّها تودّ الاستفادة من تداعيات الأزمات السياسية والاقتصادية على البلاد.
القدس العربي