بين التاريخ والغطرسة.. قراءة جديدة للاضطرابات العالمية وفق الواقعية الكلاسيكية

بين التاريخ والغطرسة.. قراءة جديدة للاضطرابات العالمية وفق الواقعية الكلاسيكية

هناك دائما تصورات تتخذ من الحتمية منهجا لها في قراءة الأحداث حتى تلك السياسية، فمثلا يتوقع الكثيرون بشكل حتمي المواجهة بين أميركا والصين في ظل صعود هذه الأخيرة وإمكانية توجهها إلى الغطرسة والعنف، وكثيرة هي القراءات من هذا القبيل التي ينقدها الباحث البريطاني جوناثان كيرشنر.

منى أسامة
مع التغير المستمر والمتسارع في الظواهر الإقليمية والدولية، يزداد الطلب على نظريات العلاقات الدولية سواء من أجل فهم وتفسير الأحداث والتفاعلات في السياسة العالمية أو استقراء المستقبل والتنبؤ به. ولا توجد عادة نظرية واحدة تستطيع تفسير الأحداث من مختلف الزوايا، لذلك، تهيمن نظريات أساسية على حقل العلاقات الدولية، كالواقعية، والليبرالية، والبنائية، إلى جانب المدارس أو الاتجاهات النقدية لهذه النظريات المهيمنة.

في هذا الإطار، يقدم كتاب “مستقبل غير مكتوب: الواقعية وعدم اليقين في السياسة العالمية” لأستاذ العلوم السياسية بكلية بوسطن جوناثان كيرشنر، إعادة تقييم جديدة للواقعية الكلاسيكية، كنقطة انطلاق لدراسة السياسة العالمية المعاصرة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب غير معني بالجدالات النظرية الكبرى في العلاقات الدولية، لكنه يسعى إلى صياغة وتطبيق نهج الواقعية الكلاسيكية لفهم وشرح اضطرابات السياسة العالمية، مع التركيز على كيفية تناقض هذا النهج مع الواقعية البنيوية والعقلانية المفرطة.

يستعرض الكتاب، في البداية، إسهامات المفكرين الأوائل للواقعية مثل ثيوسيديدس (كتاب “الحرب البيلوبونيسية”)، وهانز مورجنثاو (كتاب “الرجل العلمي مقابل سياسة القوة”)، وريموند آرون وآخرين. وبناء على هذه الإسهامات، يفترض كيرشنر أن مفهوم “الفوضى” هو أحد المفاهيم الرئيسية في المدرسة الواقعية الكلاسيكية، والتي تنطلق من تداعيات وعواقب الفوضى على السياسة العالمية.

يضيف الكتاب أن هناك ثلاث ركائز أساسية للواقعية الكلاسيكية، هي: الماضي وثيق الصلة، والمستقبل غير المكتوب، والمسائل السياسية، كما يشير إلى أن الواقعية تركز بشكل عام على الدوافع السياسية بدلا من التأكيد على الحوافز المادية.

بذلك، يمكن للنهج الواقعي الكلاسيكي أن يقدم رؤى جديدة للاضطرابات الكبرى في القرن العشرين، جنبا إلى جنب مع استكشاف القضايا المعاصرة، بما في ذلك صعود منافسي القوى العظمى، والآثار السياسية للعولمة، وانتشار القوة في سياسات العالم الحديث.

هنا، يرى كيرشنر أن السبب الرئيسي وراء عودة الاعتماد على مقولات الواقعية الكلاسيكية من أجل تفسير وتحليل القضايا العالمية المعاصرة هو فشل خلفائها من الاقترابات النظرية كالواقعية البنيوية (الواقعية الجديدة) أو العقلانية المفرطة (نموذج المساومة المشتق من إطار “التفسيرات العقلانية للحرب”) في أن تحل محل الواقعية الكلاسيكية في فهم الأحداث وتفسيرها.

يدلل كيرشنر على وجهة نظره من خلال بحث قضية “استرضاء بريطانيا لألمانيا النازية في ثلاثينات القرن الماضي”، لافتا إلى فشل التفسيرات البنيوية في فهم السلوك البريطاني، بادعاء أن الدافع من استرضاء ألمانيا هو محاولة نقل العبء السياسي والاقتصادي إلى جبهات أخرى شراء للوقت لقلة استعداد بريطانيا لمواجهة التهديد الألماني حينها.

الكتاب يعيد تقييم منهج الواقعية الكلاسيكية كنقطة انطلاق لدراسة السياسة العالمية المعاصرة والتغيرات الطارئة عليها

إذ يرى الكاتب أنه لا يمكن فهم سلوك بريطانيا والقوى الأوروبية بشكل عام، دون اللجوء إلى متغيرين تحظرهما المقاربات البنيوية وهما، التاريخ (المتمثل في تأثير الحرب العالمية الأولى في تفضيلات بريطانيا) والأيديولوجيا (معاداة اليمين البريطاني الشديدة للشيوعية مقارنة بالفاشية أو النازية). وبدورها، تهتم الواقعية الكلاسيكية بعوامل الهيكل إلى جانب الدور المركزي للتاريخ في فهم السياسة العالمية، وهو ما يعني ضرورة الاهتمام بجوانب السياسة الداخلية والمتغيرات الفكرية لفهم سلوك الدولة.

أيضا، ففي الحرب الأميركية في فيتنام وقت الحرب الباردة أو في العراق في عام 2003، افتقرت تفسيرات الواقعية البنيوية والعقلانية المفرطة لعوامل التاريخ، والأيديولوجيا، والطموح، والغطرسة التي

تعد ركائز أساسية للواقعية الكلاسيكية لشرح الألغاز الكبرى للسياسة العالمية. وتفترض الواقعية الكلاسيكية أن القوى العظمى هي فاعل عقلاني نفعي يسعى إلى أكثر من مجرد الأمن، حيث يدفعه “الخوف أو الفخر أو شغف الغطرسة”. لكن سياق عدم اليقين يتسبب في ارتكاب الأخطاء من قبل الفاعل العقلاني، والذي يتم الضغط عليه لاختيار أحد البدائل في ظل غموض المعلومات.

تحديات الأخلاق والمصلحة
ستكون هناك آثار لصعود الصين بالإضافة إلى تأثير التغيير الاجتماعي والاقتصادي في ميزان القوى وطبيعة الصراع الدولي

مع ذلك، يثير كتاب كيرشنر عددا من التحديات التي تواجه منظور الواقعية الكلاسيكية، ومن أبرزها ما يلي:

أولا الأخلاق في السياسة العالمية: إذ يفترض الواقعيون أن الفاعلين في السياسة العالمية يتصرفون، في بعض الأحيان، من دون قيود أخلاقية، إذ إن معظم ممارسات السياسة الخارجية، خاصة تلك الخاصة بالقوى العظمى، تسعى وراء نطاق أوسع بكثير من المصالح الوطنية، بما في ذلك الدول ذات النيات الحسنة والتي قد تلجأ إلى تدابير “غير أخلاقية” لحماية أراضيها وضمان بقائها في ظل عالم تحكمه الفوضى.

ويجب الاعتراف بأن هذا الجانب يعتبر رذيلة “واقعية” مشتركة، لكن في المقابل، يعتبر “بقاء الدولة” في ذاته واجبا أخلاقيا على الحكومة.

بناء عليه، يجب على الدول الموازنة بين الواجب المتعلق بحماية الذات من ناحية، والقيم والمثل في السياسة الدولية من ناحية أخرى، فالسياسة الخارجية ليست صراعا بين “الخير والشر، لكنها اختيار بين الأفضل والمكروه”. بدورها، تحتاج الواقعية الكلاسيكية إلى توخي الحذر من الخلط بين الافتراض القائل إن “الفاعلين في السياسة العالمية قد يتصرفون دون اعتبار للمخاوف الأخلاقية” وافتراض “أن الأخلاق غير ذات صلة بفهم سلوك الدول”. فأحيانا يضطر القادة (بغض النظر عن الزمان والمكان) إلى تعديل خيارات سياساتهم الخارجية استنادا إلى الأعراف الاجتماعية المحلية.

ثانيا مفهوم “المصلحة الوطنية” للدولة كمفهوم مركزي في الواقعية: يفترض الواقعيون أن “الدولة القومية”، كوحدة سياسية منظمة هي الوحدة الأساسية لتحليل العلاقات الدولية والسياسة العالمية. فوفقا لمنظور الواقعية الكلاسيكية، تسعى الدولة (دون الفواعل الأخرى من منظمات وأفراد وجماعات) إلى تعزيز “المصلحة الوطنية” الخاصة بها والتي ترتبط بشكل أساسي بالاعتبارات الأمنية والسياسية. بالتالي، يتجاهل هذا المنظور الأفراد والمجموعات الفرعية والائتلافات داخل الدول والذين يمتلكون مصالح ليست سياسية بالضرورة ولكن غالبا ما تكون اقتصادية، كما أن لديهم دافعا كبيرا لمتابعة هذه المصالح.

ثالثا عدم التوافق أحيانا بين الافتراضات النظرية وممارسات العالم الحقيقي: فعلى سبيل المثال، قد تؤثّر آراء وتفضيلات العامة في خيارات القادة في الدولة الديمقراطية، مما يدفع إلى القول “إن الأنظمة غير الديمقراطية لديها سياسات خارجية (أفضل) من نظيرتها الديمقراطية” استنادا إلى افتراضات الواقعية الكلاسيكية، على اعتبار أن الدول غير الديمقراطية أكثر التزاما بالنهج الواقعي.

على الدول الموازنة بين الواجب المتعلق بحماية الذات من ناحية، والقيم والمثل في السياسة الدولية من ناحية أخرى

في المقابل، يرى كيرشنر أن من الضروري مقارنة ممارسة السياسة الخارجية مع الاحتمالات والنتائج التي يمكن تحقيقها على أرض الواقع بشكل معقول، وليس مع الرؤية المثالية المتصورة لهذه الممارسة.

رابع التحديات إشكالية أهداف السياسة الخارجية، فوفقا للواقعية الكلاسيكية، دائما ما تعرقل حدود المعرفة إمكانية الوصول إلى نموذج واحد مشترك لفهم كيفية عمل العالم، فحتى إن كان مثل هذا النموذج الفريد ممكنا، فلن يحسم ذلك ماهية الغايات التي ينبغي تطبيق السياسة الخارجية من أجلها.

هذا، وتعتبر الرغبة في حماية البقاء غاية أساسية للسياسة الخارجية عند الواقعية، إلا أن نادرا ما يكون بقاء القوى العظمى في خطر، وبالتالي سياسة هذه القوى الخارجية تدور حول ما هو أكثر بكثير من مجرد الدفاع عن النفس. فعلى سبيل المثال، إذا كان الدفاع عن الوطن هو الحتمية الوحيدة للأمن القومي، فلن تحتاج الولايات المتحدة إلى وجود سياسة خارجية.

ويعتقد الكاتب أن الواقعية أفضل بكثير في اقتراح ما لا يجب فعله وكيفية اتخاذ إجراء إيجابي. ومع ذلك قد يؤدي الحذر المبالغ في السياسة الخارجية إلى ضياع فرص مهمة على الدولة ومنافع سياسية متوقعة. وبالتالي تعد المفاضلة بين الحذر والمنافع الخارجية أحد التحديات التي تواجه الواقعية الكلاسيكية في عالم تسوده حالة عدم اليقين.

خامسا عدم الاهتمام بالقضايا الاقتصادية: عبر التاريخ تجاهل التحليل الواقعي مسائل الاقتصاد السياسي، وهو أمر كان مقبولا خلال الحرب الباردة، فلم تكن العلاقات الاقتصادية بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة ذات أهمية كبيرة، لكن في الوقت الحالي، لا يمكن فهم السياسة العالمية من دون الانتباه للقضايا الاقتصادية. حتى الأحداث التاريخية كالحرب العالمية الثانية، لا بد أن يتضمن تحليلها عواقب الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي. وكذلك في السياسة العالمية المعاصرة، لا يمكن إغفال العولمة وآثارها على النظام الدولي والسياسة العالمية وصعود الصين على سبيل المثال.

يستخدم الكتاب منظور الواقعية الكلاسيكية وكذلك تحدياتها في فهم حالة الصعود الصيني في السياسة العالمية، وهنا يفترض هذا المنظور أن ظهور قوى عظمى جديدة في النظام الدولي ظاهرة خطرة ومزعزعة للاستقرار. فمع ازدياد قوة الدول الصاعدة، تزيد رغبة هذه الدول في المزيد من السلطة من أجل تأثير أكبر في تشكيل البيئة السياسية الدولية، وزيادة المكانة.

أي إن منظور الواقعية الكلاسيكية يتوقع أن تكون القوى الصاعدة “متعجرفة”، وفي المقابل ستكون القوى العظمى في حالة الانحدار النسبي. مع ذلك، فإن هذا المنظور يهتم بإيجاد طرق لاستيعاب هذه القوى الصاعدة، وهو نهج يبدو متفائلا لكنه في الحقيقة يسعى إلى الإدارة والتعامل بعناية مع المستجدات، بدلا من المواجهة والسحق بقوة، وبالتالي هناك حاجة إلى الاعتراف بحقيقة القوة لاستيعاب هذه القوى الصاعدة.

وينتقد كيرشنر تحليل الواقعية الهجومية والتي تتوقع حملة عسكرية حتمية للهيمنة الإقليمية من قبل الصين، تقابلها مواجهة أميركية. أما الواقعية البنيوية فتفترض أن تغيير ديناميكيات القوة سيؤدي إلى حرب غير ضرورية. فيما يفترض التحليل الكلاسيكي احتمالية أن تصبح الصين الصاعدة متعجرفة بشكل متزايد. واستنادا إلى أن الولايات المتحدة اعتادت على أن تكون القوة العظمى، سيكون رد فعلها الأولي متعجرفا ثم بعد ذلك ستصبح حريصة جدا على اتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجة حقائق التغييرات في ميزان القوى الدولي.

علاوة على ما سبق، ترفض الواقعية الكلاسيكية الافتراضات القائلة إن من مصلحة الصين الشروع في محاولة عسكرية للهيمنة. هذا بالرغم من أن الصين تتبنى نهجا سلطويا مقلقا لمسار سياستها الخارجية واحتمالات دمجها في نظام دولي ليبرالي. ووفقا للواقعية الكلاسيكية، على الولايات المتحدة إعادة تقييم نطاق التزاماتها الأمنية العالمية مع إعادة نشر قواتها في أماكن أخرى.

على جانب آخر، لا بد أن تدرك الولايات المتحدة أنها لن تكون قادرة على فرض إرادتها بحرية في غرب المحيط الهادئ بالقدر الذي كانت تفعله في الماضي. كما أن من الضروري منع أي تكتل إقليمي واسع النطاق مع الصين، وهو ما يتطلب تعزيز الجهات المقاومة

لجهود الصين بما في ذلك الحفاظ على التحالفات الأمنية الإقليمية مع اليابان وكوريا الجنوبية، مع التنسيق مع الجهات الأخرى كفيتنام والهند. فمن المنظور الواقعي الكلاسيكي، من المصلحة الوطنية للولايات المتحدة ألا تقع آسيا تحت الهيمنة السياسية لأي قوة بمفردها، لكن هذا لا يحتاج اللجوء إلى سياسة عدوانية، فمن الممكن تبني سياسة خارجية طويلة الأجل.

ينتهي هذا الكتاب بالعودة إلى المبادئ الأولى للواقعية الكلاسيكية كالفوضى وعواقبها، وضرورة الاهتمام بكل من القوة والهدف، في سياق عدم اليقين السائد، من أجل فهم السياسة العالمية. ويتم النظر إلى الفوضى هنا في مفهومها الأوسع، والذي يتضمن حساسية تجاه هشاشة الحضارة وآثارها. كما يشير الكتاب إلى كيفية انهيار المجتمعات، حتى داخل القوى العظمى، وتأثير ذلك في بقاء الدولة بشكل أكبر من بيئة التهديد الخارجي.

يؤكد الكتاب أيضا أهمية التاريخ لفهم سياسة الولايات المتحدة وحروبها في الخارج (فيتنام، والعراق). وأخيرا، ومن خلال إعادة النظر في التحليل الواقعي، يوضِّح الكتاب كيف يمكن للواقعية الكلاسيكية فهم الآثار المترتبة على صعود الصين، بالإضافة إلى تأثير التغيير الاجتماعي والاقتصادي في ميزان القوى وطبيعة الصراع الدولي، وأيضا إدارة الولايات المتحدة لمستجدات السياسة العالمية.

العرب