بفارق أضيق الهوامش، ما تزال الانتخابات التركية غير حاسمة رسميًا بعد الانتهاء من فرز الأصوات في الصباح الباكر من يوم 15 أيار (مايو)، مع ضرورة إجراء انتخابات إعادة بين الرئيس الحالي، رجب طيب أردوغان، ومنافسه الرئيسي، كمال كليتشدار أوغلو، المقررة في 28 أيار (مايو) الحالي.
في هذا الوقت، يبدو من شبه المؤكد أن أردوغان هو الذي سيفوز، بعد أن حصل على 49.5 في المائة من الأصوات في الجولة الأولى، على عكس كليتشدار أوغلو الذي تمكن من الفوز بنسبة 44.9 في المائة من دعم 64 مليون تركي أدلوا بأصواتهم، والذين يمثلون نسبة مثيرة للإعجاب بلغت 88.9 في المائة من مجموع الناخبين المؤهلين.
السبب الرئيسي الذي يجعل فرص أردوغان تبدو مواتية إلى هذا الحد، بصرف النظر عن كونه قريبًا جدًا من (50 في المائة +1)، نسبة الأصوات اللازمة للفوز في الجولة الأولى، هو أن المرشح الرئاسي الثالث الذي كان غامضًا في السابق، سنان أوغان، والذي فاز بنسبة كبيرة مفاجئة بلغت 5.1 في المائة من أصوات الجولة الأولى، والذي لن يكون على ورقة الاقتراع في جولة الإعادة، ناشد الناخبين من خلال تأكيد قوميته المتطرفة، وأوراق اعتماد قوامها مناهضة للاجئين. وقد ندد أوغان بخطوات المصالحة مع الأقلية الكردية الكبيرة باعتبارها معادلاً لاحتضان الانفصالية الكردية والتكتيكات الإرهابية. وأصر على ضرورة إعادة أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ إلى ديارهم في سورية.
تقود نسخة أوغان من القومية الوحدوية معظم المراقبين المطلعين في تركيا إلى افتراض أن أردوغان سيحصل على معظم الأصوات التي ذهبت إلى أوغان في الجولة الأولى. وفي الوقت نفسه، ينطوي دعم أوغان على عناصر من عدم اليقين، بما في ذلك الشروط المسبقة التي طالب بوضعها في بروتوكول وقعه المرشحون الرئاسيون الذين يسعون للحصول على دعمه. إضافة إلى أولوياته السياسية، يبدو أن أوغان يعلق دعمه للمرشح على شرط تقديم ضمانات له بالحصول على منصب سياسي في أي حكومة تخرج من جولة الإعادة. وفي جانب واحد على الأقل، من المرجح أن يكون أردوغان مترددًا في الموافقة على مثل هذه الصفقة غير التقليدية لأن أوغان يقدم نفسه على أنه مؤيد كمالي متحمس للعلمانية.
يلقي أوغان باللوم على كليتشدار أوغلو بشكل أكثر وضوحًا، متهماً إياه بتمييع العلمانية والكمالية، فضلاً عن الإعراب عن أسفه لفشل أوغلو في كسب ثقة الشعب التركي كبطل حقيقي للقومية التي تبين أنها القضية الأساسية للحملة. وفي ظل هذه الظروف، يبدو من المعقول افتراض أن غالبية أولئك الذين صوتوا لصالح أوغان سيحولون أصواتهم إلى أردوغان، حتى من دون وجود أي إشارة واضحة لقيامهم بذلك. وتضع دعاية حملة أوغان صورته وهو يقف أمام صورة عملاقة لكمال أتاتورك، للإشارة إلى أنه هو فقط من بين المرشحين الذي حافظ على إيمانه بإرث الزعيم المؤسس للجمهورية التركية. ومع ذلك، تعلم أولئك الذين يتابعون السياسة التركية أن ما يبدو معقولاً ليس هو الذي يحدث دائمًا هناك، ولذلك يكون من الأفضل الانتظار حتى جولة الإعادة لمعرفة ما إذا كان ناخبو أوغان يتمتعون حقًا بنفوذ سياسي مؤثر، وإذا كان الأمر كذلك، كيف ستتم ممارسة هذا النفوذ.
بشكل عام، يبدو أنه حتى لو امتنع أردوغان عن تقديم التزام لأوغان والحصول على التزام منه، يظل من المنطقي توقع أن بعض مؤيدي أوغان على الأقل إما أنهم لن يصوتوا من الأساس أو أنهم سيصوتون لأردوغان. ويكاد يكون من المستحيل تخيل سيناريو سياسي معقول ينهض فيه كليتشدار أوغلو من رماد هزيمة متوقعة إلى نصر انتخابي في 28 أيار (مايو). ومع ذلك، في السياسة كما في الحياة يحدث المستحيل أحيانًا. وعلى الرغم من هذه المؤشرات على انتصار مؤكد لأردوغان، فقد لا تسير الأمور على هذا النحو. ثمة بعض الفرص بأن يشعر أردوغان و”حزب العدالة والتنمية” بالثقة المفرطة، ويفشلان في تعبئة قاعدتهما بفعالية كما فعلا في 14 أيار (مايو). وثمة أيضاً تحول في اللهجة أصبح واضحًا مسبقًا، حيث تعدِّل الحكومات الغربية توقعاتها لتتواءم مع الواقع المحتمل للغاية المتمثل في انتخاب أردوغان قريبًا لولاية ثالثة مدتها خمس سنوات.
يمكن لهذا الاتجاه أن يقوض الأطروحة السابقة القائلة إن أوروبا والولايات المتحدة كانتا تعملان خلف الكواليس لهزيمة أردوغان، عن طريق جعل المخاوف الاقتصادية الحادة وتلك المتعلقة بالفساد تؤثر في عدد كاف من ناخبي “حزب العدالة والتنمية” للتحول إلى كليتشدار أوغلو أو عدم تكلف عناء التصويت جملة وتفصيلًا. ويوازن هذه العوامل توجيه أصابع الاتهام من قبل مختلف أعضاء ائتلاف المعارضة على “طاولة الستة”، الذين يعزون السبب في أدائهم الأضعف مما كان متوقعًا إلى تقديم المرشحين الخطأ للرئاسة، وفشلهم في تقديم حجة قوية بما فيه الكفاية لإعادة قيادة علمانية إلى أنقرة، والتي، على عكس العلمانيين السابقين، لن تتدخل في الحياة الدينية للمسلمين المتدينين، وعدم كونهم مقنعين بما فيه الكفاية بأن للقومية التركية الأسبقية على حقوق الأقلية الكردية، بما في ذلك الخط المتشدد من إرهاب “حزب العمال الكردستاني” و”داعش”، وأخيرًا، عدم التمكن من إدانة عسكرة أردوغان للمجتمع المدني التركي بشكل فعال من خلال إقامة علاقة قمعية بين الدولة والمجتمع.
وبالنظر إلى الضجة التي سبقت الانتخابات خارج تركيا والتي أشارت إلى أن المعارضة تشكل تحديًا قويًا لاستبداد أردوغان، وتم تسويقها على أنها تجعل من هذه “الانتخابات الأكثر أهمية في العام”، فضلاً عن كونها اختبارًا لمرونة الديمقراطية الليبرالية في مواجهة التكتيكات القمعية، فإن الصمت النسبي خارج تركيا منذ 14 أيار (مايو) هو مظهر محيِّر إلى حد ما. هل هي مسألة رد فعل غربي متجهم على خيبة الأمل، والتي تحول الانتباه عن تقييماتها الخاطئة قبل الانتخابات، أم أن “الدول العميقة” في الولايات المتحدة وأوروبا لم تكن غير راضية تماماً عن فوز لأردوغان، على الرغم من السلوك العلني الذي أبدته هذه الحكومات بإسكات آمالها بفوز كليتشدار أوغلو خوفًا من أن يثير ذلك رد فعل قوميا عنيفا يكون مفيدًا لأردوغان؟ بينما كان يخوض حملته الانتخابية، لعب أردوغان بورقة القومية هذه بمهارة، مذكرًا الأتراك بأن التفضيلات الغربية لمعارضيه ترقى إلى تدخل غير لائق في الحياة السياسية للبلاد. ويتناسب هذا الدفع بشكل جيد مع القومية الوحدوية لتحالف أردوغان المناهض للأكراد مع الحزب القومي المهيمن في تركيا، “حزب الحركة القومية”، كما أنه يسر أيضًا الأحزاب اليمينية الصغيرة والاتجاهات الدينية المحافظة. وتتناقض هذه النظرة مع تركيز المعارضة على الديمقراطية التعددية التي من المحتمل أن يكون العديد من الأتراك قد فكوا شفرتها باعتبارها إشارة إلى التوافق مع تطلعات الأكراد لتعزيز حقوق الأقليات ودرجة أكبر من الحكم الذاتي في تلك الأجزاء من البلاد حيث يشكلون الأغلبية العرقية.
إلى الحد الذي أجري فيه تحليل جاد لنتائج انتخابات 14 أيار (مايو)، انصب التركيز على أن أردوغان يجسد القومية التركية بشكل أكثر مركزية وإقناعًا من كليتشدار أوغلو، وأن قضية الهوية الجماعية هذه ترجح على الإخفاقات الاقتصادية التي حققتها قيادة أردوغان، فضلاً عن مزاعم المعارضة حول الفساد المستشري إلى جانب الممارسة المثبتة جيدًا لقمع المنتقدين، بما في ذلك الصحفيين. في الواقع، لم يأتِ الفوز في الانتخابات وفقًا للمعايير المادية للديمقراطيات الليبرالية (ولنتذكر شعار حملة بيل كلينتون، “إنه الاقتصاد، يا غبي!”) وإنما تعلقت بالجانب الذي تحققت فيه مصداقية أكبر وفقًا للمعايير غير الليبرالية، مثل اعتناق القومية العرقية والتدين.
كان للمصاعب الاقتصادية المستمرة تأثير أكبر بكثير على الطبقات العاملة والمتوسطة في المناطق الحضرية مقارنة بسكان الريف الذين يعيشون في قلب الأناضول الداخلي الكبير في تركيا. وطوال حياته السياسية، فاز أردوغان دائمًا بأغلبية كبيرة في الأناضول والعديد من المدن الصغيرة، بينما كان أداؤه ضعيفًا في كثير من الأحيان في المدن الكبيرة. ولم تكن هذه الانتخابات مختلفة. حتى في منطقة الزلزال المدمرة مؤخرًا، وعلى الرغم من فشل الحكومة في الاستجابة في الوقت والطريقة المناسبين، اعتقد معظم المواطنين المتضررين أن هناك زعيمًا واحدًا فقط هو الذي وعد بِـ، ويمتلك القدرة على توفير المساكن، وهو أردوغان الذي دعموه. وبفعلهم ذلك، تجاهلوا الاتفاق شبه الكامل بين الأتراك على أن عدم تحمل الحكومة مسؤولياتها أدى إلى مفاقمة المأساة، والذي اتخذ أشكال عدم تنفيذ قوانين البناء والاستجابة البطيئة غير الكفؤة للزلازل، وهي العوامل التي يلقى عليها باللوم على نطاق واسع في زيادة الدمار والمعاناة التي شملت أكثر من 50.000 حالة وفاة.
بهذا المعنى، كانت الانتخابات التركية للعام 2023 تدور حول القومية أكثر مما تتعلق بالديمقراطية، وكان التفكير المتمني داخل حجرة الصدى المناهضة لأردوغان هو افتراض خلاف ذلك، وهذا يعني أنه في مجتمع مستقطب لن يكون هناك سوى القليل من الحوار وبين المتشابهين في التفكير فحسب. وفي هذا المشهد، تميل الأطراف المعارضة إلى سماع وجهات النظر التي تؤكد قيمها وآمالها فقط، بينما تشيطن أولئك الذين يخالفونها الرأي. وقد لعبت المنصات الإعلامية في الغرب دورًا، حيث تأثرت بشكل مفرط بالآراء الأكثر تواؤماً مع الأصوات المناهضة لأردوغان في الشتات التركي، التي سلطت الضوء على الديمقراطية باعتبار أنها ستكون الرهان الرئيسي في المنافسة السياسية.
كان هذا مضلِّلاً من جوانب عدة. بادئ ذي بدء، ينبغي النظر إلى أردوغان على أنه نوع من “ديمقراطي”، ولكنه اختار بشكل متزايد السياسات والممارسات القاسية للديمقراطية غير الليبرالية في التعامل مع المنتقدين. إنه لم يرفض الديمقراطية أبدًا بشكل صريح، وإنما قام، على العكس من ذلك، بطبعها بنظرته الخاصة. وخلال 20 عامًا من قيادته، تناثرت عقبات قليلة على طريق ما تسمى بـ”الديمقراطية الإجرائية” في تركيا، بما في ذلك استعداده الذي لم يتم اختباره بعد، وإنما المعلن عنه بوضوح، لقبول الهزيمة ونقل السلطة الحكومية بطريقة سلمية. ويتم قبول الدول في ما يسمى بتحالف الديمقراطية الذي أنشأه بايدن، مثل الهند وإسرائيل، على أنها “ديمقراطيات” على الرغم من سجلات انتهاك حقوق الإنسان المسيئة بشكل صارخ. وفي الحقيقة، لم تكن لنظرة أكثر موضوعية لطبيعة الديمقراطية في أي وقت سطوة عقائدية حتى في “الديمقراطيات الليبرالية”، حيث العنصرية، والسياسات الإقصائية المناهضة للهجرة، والتسبب بالفقر المدقع، ووجود تراث من العبودية والإبادة الجماعية والاستعمار. وعلى الرغم من هذا السجل التاريخي، ظل تمجيد الاستثنائية الأميركية هو السرد الوطني الذي لا يُنازع تقريبًا في التيار السائد.
حتى وقت قريب، لم تشكّ الولايات المتحدة أبدًا في أنها ديمقراطية، بل في كونها في الحقيقة النموذج المثالي للديمقراطية، لأنها تجري انتخابات نزيهة، وتجري انتقالًا سلميًا للسلطة، وتمتلك دستورًا يوزع السلطة على مختلف فروع الحكومة. وقد نشأت شكوك جدية نتيجة لمحاولة ترامب في العام 2020 تقويض كل من العملية الانتخابية والانتقال السلمي للسلطة، وفشل بفارق ضئيل. وخلال فترة رئاسته التي بدأت في العام 2017، أظهر ترامب ازدراء للحقائق الدستورية الأساسية مثل القضاء المستقل والفصل بين السلطات، وسعى قبل كل شيء إلى أن يكون أداؤه عرض رجل واحد يعيد تشكيل الحياة الديمقراطية الطبيعية.
في الواقع، إذا كان أردوغان يتجه إلى تحقيق الفوز كما هو متوقع، ويستمر كرئيس لتركيا، فإن ذلك سيثير أسئلة مقلقة حول ما إذا كانت الديمقراطية هي في النهاية أفضل طريقة للحكم في كل المجتمعات. ثمة الكثير مما كُتب حول ما إذا كان هناك سبب للثقة بأن القادة السياسيين سيلتزمون بسيادة القانون في أسلوبهم في الحكم، وإنما القليل الذي قيل حول ما إذا كانت غالبية المواطنين على استعداد لفرض معايير المساءلة الانتخابية على قيادة ما، حتى عندما تكون قد أظهرت كونها قمعية وفاسدة وغير كفؤة. أليس هذا تفسيرًا مقلقًا للنتيجة غير المتوقعة في الانتخابات التركية؟ هل يمكن أن تنجح “الديمقراطية” إذا لم يكن المواطنون حاسمين في رفضهم لأولئك الذين يتحدون أبسط حقوقهم أو يظهرون ضعفهم أمام سطوة الديماغوجيين مع القليل من الاحترام للمعايير الأخلاقية والقانونية الدنيا؟ هل يمكن للانتخابات الحرة أن تجعل أبدًا من اختيار الفاشية مشروعًا؟ إذا نظرنا وراءً في تاريخ الديمقراطية، فسنرى من الجدير بالملاحظة أن أولئك المدافعين البارزين عن الحكم الإنساني والمعتدل في أثينا القديمة، مثل أفلاطون وأرسطو وثوسيديدس، تحولوا ضد الديمقراطية كنمط مفضل للحكم. وأُلقي باللوم على الديمقراطية الأثينية لتسببها في تدهور هذه الدولة المدينة العظيمة على يد الديماغوجيين الذين حركوا المواطنين للمطالبة بالمغامرات الخارجية التي تجاوزت قدرات أثينا.
بالنسبة للبعض منا، يبدو أن الأمر الأكثر إثارة للقلق حتى من نجاح أردوغان هو الأدلة من نتائج الانتخابات على أن القوى اليمينية المتطرفة تكسب دعمًا شعبيًا في تركيا، مما يجعل احتمال التحول نحو القومية المتطرفة تهديدًا حقيقيًا في المستقبل. كانت القوى السياسية والدينية اليمينية الرئيسية أو المتحالفة مع “حزب العدالة والتنمية” هي الفائز الكبير في الانتخابات البرلمانية الموازية يوم 14 أيار (مايو)، إلى جانب نسبة الفضل إليها في أداء أردوغان الأفضل من المتوقع. وبعبارة أخرى، لم تكن المخاطر في الانتخابات التركية تتعلق بجودة الديمقراطية التركية فحسب، بل بالتهديد الأكبر المتمثل في مستقبل رجعي للبلاد، والذي يزيد من مركزية الدولة، وانتهاكات حقوق الإنسان، وتعزيز القومية الإقصائية التي تنفي اللاجئين وتعاقب المنتقدين. أضيق الهوامش، ما تزال الانتخابات التركية غير حاسمة رسميًا بعد الانتهاء من فرز الأصوات في الصباح الباكر من يوم 15 أيار (مايو)، مع ضرورة إجراء انتخابات إعادة بين الرئيس الحالي، رجب طيب أردوغان، ومنافسه الرئيسي، كمال كليتشدار أوغلو، المقررة في 28 أيار (مايو) الحالي.
في هذا الوقت، يبدو من شبه المؤكد أن أردوغان هو الذي سيفوز، بعد أن حصل على 49.5 في المائة من الأصوات في الجولة الأولى، على عكس كليتشدار أوغلو الذي تمكن من الفوز بنسبة 44.9 في المائة من دعم 64 مليون تركي أدلوا بأصواتهم، والذين يمثلون نسبة مثيرة للإعجاب بلغت 88.9 في المائة من مجموع الناخبين المؤهلين.
السبب الرئيسي الذي يجعل فرص أردوغان تبدو مواتية إلى هذا الحد، بصرف النظر عن كونه قريبًا جدًا من (50 في المائة +1)، نسبة الأصوات اللازمة للفوز في الجولة الأولى، هو أن المرشح الرئاسي الثالث الذي كان غامضًا في السابق، سنان أوغان، والذي فاز بنسبة كبيرة مفاجئة بلغت 5.1 في المائة من أصوات الجولة الأولى، والذي لن يكون على ورقة الاقتراع في جولة الإعادة، ناشد الناخبين من خلال تأكيد قوميته المتطرفة، وأوراق اعتماد قوامها مناهضة للاجئين. وقد ندد أوغان بخطوات المصالحة مع الأقلية الكردية الكبيرة باعتبارها معادلاً لاحتضان الانفصالية الكردية والتكتيكات الإرهابية. وأصر على ضرورة إعادة أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ إلى ديارهم في سورية.
تقود نسخة أوغان من القومية الوحدوية معظم المراقبين المطلعين في تركيا إلى افتراض أن أردوغان سيحصل على معظم الأصوات التي ذهبت إلى أوغان في الجولة الأولى. وفي الوقت نفسه، ينطوي دعم أوغان على عناصر من عدم اليقين، بما في ذلك الشروط المسبقة التي طالب بوضعها في بروتوكول وقعه المرشحون الرئاسيون الذين يسعون للحصول على دعمه. إضافة إلى أولوياته السياسية، يبدو أن أوغان يعلق دعمه للمرشح على شرط تقديم ضمانات له بالحصول على منصب سياسي في أي حكومة تخرج من جولة الإعادة. وفي جانب واحد على الأقل، من المرجح أن يكون أردوغان مترددًا في الموافقة على مثل هذه الصفقة غير التقليدية لأن أوغان يقدم نفسه على أنه مؤيد كمالي متحمس للعلمانية.
يلقي أوغان باللوم على كليتشدار أوغلو بشكل أكثر وضوحًا، متهماً إياه بتمييع العلمانية والكمالية، فضلاً عن الإعراب عن أسفه لفشل أوغلو في كسب ثقة الشعب التركي كبطل حقيقي للقومية التي تبين أنها القضية الأساسية للحملة. وفي ظل هذه الظروف، يبدو من المعقول افتراض أن غالبية أولئك الذين صوتوا لصالح أوغان سيحولون أصواتهم إلى أردوغان، حتى من دون وجود أي إشارة واضحة لقيامهم بذلك. وتضع دعاية حملة أوغان صورته وهو يقف أمام صورة عملاقة لكمال أتاتورك، للإشارة إلى أنه هو فقط من بين المرشحين الذي حافظ على إيمانه بإرث الزعيم المؤسس للجمهورية التركية. ومع ذلك، تعلم أولئك الذين يتابعون السياسة التركية أن ما يبدو معقولاً ليس هو الذي يحدث دائمًا هناك، ولذلك يكون من الأفضل الانتظار حتى جولة الإعادة لمعرفة ما إذا كان ناخبو أوغان يتمتعون حقًا بنفوذ سياسي مؤثر، وإذا كان الأمر كذلك، كيف ستتم ممارسة هذا النفوذ.
بشكل عام، يبدو أنه حتى لو امتنع أردوغان عن تقديم التزام لأوغان والحصول على التزام منه، يظل من المنطقي توقع أن بعض مؤيدي أوغان على الأقل إما أنهم لن يصوتوا من الأساس أو أنهم سيصوتون لأردوغان. ويكاد يكون من المستحيل تخيل سيناريو سياسي معقول ينهض فيه كليتشدار أوغلو من رماد هزيمة متوقعة إلى نصر انتخابي في 28 أيار (مايو). ومع ذلك، في السياسة كما في الحياة يحدث المستحيل أحيانًا. وعلى الرغم من هذه المؤشرات على انتصار مؤكد لأردوغان، فقد لا تسير الأمور على هذا النحو. ثمة بعض الفرص بأن يشعر أردوغان و”حزب العدالة والتنمية” بالثقة المفرطة، ويفشلان في تعبئة قاعدتهما بفعالية كما فعلا في 14 أيار (مايو). وثمة أيضاً تحول في اللهجة أصبح واضحًا مسبقًا، حيث تعدِّل الحكومات الغربية توقعاتها لتتواءم مع الواقع المحتمل للغاية المتمثل في انتخاب أردوغان قريبًا لولاية ثالثة مدتها خمس سنوات.
يمكن لهذا الاتجاه أن يقوض الأطروحة السابقة القائلة إن أوروبا والولايات المتحدة كانتا تعملان خلف الكواليس لهزيمة أردوغان، عن طريق جعل المخاوف الاقتصادية الحادة وتلك المتعلقة بالفساد تؤثر في عدد كاف من ناخبي “حزب العدالة والتنمية” للتحول إلى كليتشدار أوغلو أو عدم تكلف عناء التصويت جملة وتفصيلًا. ويوازن هذه العوامل توجيه أصابع الاتهام من قبل مختلف أعضاء ائتلاف المعارضة على “طاولة الستة”، الذين يعزون السبب في أدائهم الأضعف مما كان متوقعًا إلى تقديم المرشحين الخطأ للرئاسة، وفشلهم في تقديم حجة قوية بما فيه الكفاية لإعادة قيادة علمانية إلى أنقرة، والتي، على عكس العلمانيين السابقين، لن تتدخل في الحياة الدينية للمسلمين المتدينين، وعدم كونهم مقنعين بما فيه الكفاية بأن للقومية التركية الأسبقية على حقوق الأقلية الكردية، بما في ذلك الخط المتشدد من إرهاب “حزب العمال الكردستاني” و”داعش”، وأخيرًا، عدم التمكن من إدانة عسكرة أردوغان للمجتمع المدني التركي بشكل فعال من خلال إقامة علاقة قمعية بين الدولة والمجتمع.
وبالنظر إلى الضجة التي سبقت الانتخابات خارج تركيا والتي أشارت إلى أن المعارضة تشكل تحديًا قويًا لاستبداد أردوغان، وتم تسويقها على أنها تجعل من هذه “الانتخابات الأكثر أهمية في العام”، فضلاً عن كونها اختبارًا لمرونة الديمقراطية الليبرالية في مواجهة التكتيكات القمعية، فإن الصمت النسبي خارج تركيا منذ 14 أيار (مايو) هو مظهر محيِّر إلى حد ما. هل هي مسألة رد فعل غربي متجهم على خيبة الأمل، والتي تحول الانتباه عن تقييماتها الخاطئة قبل الانتخابات، أم أن “الدول العميقة” في الولايات المتحدة وأوروبا لم تكن غير راضية تماماً عن فوز لأردوغان، على الرغم من السلوك العلني الذي أبدته هذه الحكومات بإسكات آمالها بفوز كليتشدار أوغلو خوفًا من أن يثير ذلك رد فعل قوميا عنيفا يكون مفيدًا لأردوغان؟ بينما كان يخوض حملته الانتخابية، لعب أردوغان بورقة القومية هذه بمهارة، مذكرًا الأتراك بأن التفضيلات الغربية لمعارضيه ترقى إلى تدخل غير لائق في الحياة السياسية للبلاد. ويتناسب هذا الدفع بشكل جيد مع القومية الوحدوية لتحالف أردوغان المناهض للأكراد مع الحزب القومي المهيمن في تركيا، “حزب الحركة القومية”، كما أنه يسر أيضًا الأحزاب اليمينية الصغيرة والاتجاهات الدينية المحافظة. وتتناقض هذه النظرة مع تركيز المعارضة على الديمقراطية التعددية التي من المحتمل أن يكون العديد من الأتراك قد فكوا شفرتها باعتبارها إشارة إلى التوافق مع تطلعات الأكراد لتعزيز حقوق الأقليات ودرجة أكبر من الحكم الذاتي في تلك الأجزاء من البلاد حيث يشكلون الأغلبية العرقية.
إلى الحد الذي أجري فيه تحليل جاد لنتائج انتخابات 14 أيار (مايو)، انصب التركيز على أن أردوغان يجسد القومية التركية بشكل أكثر مركزية وإقناعًا من كليتشدار أوغلو، وأن قضية الهوية الجماعية هذه ترجح على الإخفاقات الاقتصادية التي حققتها قيادة أردوغان، فضلاً عن مزاعم المعارضة حول الفساد المستشري إلى جانب الممارسة المثبتة جيدًا لقمع المنتقدين، بما في ذلك الصحفيين. في الواقع، لم يأتِ الفوز في الانتخابات وفقًا للمعايير المادية للديمقراطيات الليبرالية (ولنتذكر شعار حملة بيل كلينتون، “إنه الاقتصاد، يا غبي!”) وإنما تعلقت بالجانب الذي تحققت فيه مصداقية أكبر وفقًا للمعايير غير الليبرالية، مثل اعتناق القومية العرقية والتدين.
كان للمصاعب الاقتصادية المستمرة تأثير أكبر بكثير على الطبقات العاملة والمتوسطة في المناطق الحضرية مقارنة بسكان الريف الذين يعيشون في قلب الأناضول الداخلي الكبير في تركيا. وطوال حياته السياسية، فاز أردوغان دائمًا بأغلبية كبيرة في الأناضول والعديد من المدن الصغيرة، بينما كان أداؤه ضعيفًا في كثير من الأحيان في المدن الكبيرة. ولم تكن هذه الانتخابات مختلفة. حتى في منطقة الزلزال المدمرة مؤخرًا، وعلى الرغم من فشل الحكومة في الاستجابة في الوقت والطريقة المناسبين، اعتقد معظم المواطنين المتضررين أن هناك زعيمًا واحدًا فقط هو الذي وعد بِـ، ويمتلك القدرة على توفير المساكن، وهو أردوغان الذي دعموه. وبفعلهم ذلك، تجاهلوا الاتفاق شبه الكامل بين الأتراك على أن عدم تحمل الحكومة مسؤولياتها أدى إلى مفاقمة المأساة، والذي اتخذ أشكال عدم تنفيذ قوانين البناء والاستجابة البطيئة غير الكفؤة للزلازل، وهي العوامل التي يلقى عليها باللوم على نطاق واسع في زيادة الدمار والمعاناة التي شملت أكثر من 50.000 حالة وفاة.
بهذا المعنى، كانت الانتخابات التركية للعام 2023 تدور حول القومية أكثر مما تتعلق بالديمقراطية، وكان التفكير المتمني داخل حجرة الصدى المناهضة لأردوغان هو افتراض خلاف ذلك، وهذا يعني أنه في مجتمع مستقطب لن يكون هناك سوى القليل من الحوار وبين المتشابهين في التفكير فحسب. وفي هذا المشهد، تميل الأطراف المعارضة إلى سماع وجهات النظر التي تؤكد قيمها وآمالها فقط، بينما تشيطن أولئك الذين يخالفونها الرأي. وقد لعبت المنصات الإعلامية في الغرب دورًا، حيث تأثرت بشكل مفرط بالآراء الأكثر تواؤماً مع الأصوات المناهضة لأردوغان في الشتات التركي، التي سلطت الضوء على الديمقراطية باعتبار أنها ستكون الرهان الرئيسي في المنافسة السياسية.
كان هذا مضلِّلاً من جوانب عدة. بادئ ذي بدء، ينبغي النظر إلى أردوغان على أنه نوع من “ديمقراطي”، ولكنه اختار بشكل متزايد السياسات والممارسات القاسية للديمقراطية غير الليبرالية في التعامل مع المنتقدين. إنه لم يرفض الديمقراطية أبدًا بشكل صريح، وإنما قام، على العكس من ذلك، بطبعها بنظرته الخاصة. وخلال 20 عامًا من قيادته، تناثرت عقبات قليلة على طريق ما تسمى بـ”الديمقراطية الإجرائية” في تركيا، بما في ذلك استعداده الذي لم يتم اختباره بعد، وإنما المعلن عنه بوضوح، لقبول الهزيمة ونقل السلطة الحكومية بطريقة سلمية. ويتم قبول الدول في ما يسمى بتحالف الديمقراطية الذي أنشأه بايدن، مثل الهند وإسرائيل، على أنها “ديمقراطيات” على الرغم من سجلات انتهاك حقوق الإنسان المسيئة بشكل صارخ. وفي الحقيقة، لم تكن لنظرة أكثر موضوعية لطبيعة الديمقراطية في أي وقت سطوة عقائدية حتى في “الديمقراطيات الليبرالية”، حيث العنصرية، والسياسات الإقصائية المناهضة للهجرة، والتسبب بالفقر المدقع، ووجود تراث من العبودية والإبادة الجماعية والاستعمار. وعلى الرغم من هذا السجل التاريخي، ظل تمجيد الاستثنائية الأميركية هو السرد الوطني الذي لا يُنازع تقريبًا في التيار السائد.
حتى وقت قريب، لم تشكّ الولايات المتحدة أبدًا في أنها ديمقراطية، بل في كونها في الحقيقة النموذج المثالي للديمقراطية، لأنها تجري انتخابات نزيهة، وتجري انتقالًا سلميًا للسلطة، وتمتلك دستورًا يوزع السلطة على مختلف فروع الحكومة. وقد نشأت شكوك جدية نتيجة لمحاولة ترامب في العام 2020 تقويض كل من العملية الانتخابية والانتقال السلمي للسلطة، وفشل بفارق ضئيل. وخلال فترة رئاسته التي بدأت في العام 2017، أظهر ترامب ازدراء للحقائق الدستورية الأساسية مثل القضاء المستقل والفصل بين السلطات، وسعى قبل كل شيء إلى أن يكون أداؤه عرض رجل واحد يعيد تشكيل الحياة الديمقراطية الطبيعية.
في الواقع، إذا كان أردوغان يتجه إلى تحقيق الفوز كما هو متوقع، ويستمر كرئيس لتركيا، فإن ذلك سيثير أسئلة مقلقة حول ما إذا كانت الديمقراطية هي في النهاية أفضل طريقة للحكم في كل المجتمعات. ثمة الكثير مما كُتب حول ما إذا كان هناك سبب للثقة بأن القادة السياسيين سيلتزمون بسيادة القانون في أسلوبهم في الحكم، وإنما القليل الذي قيل حول ما إذا كانت غالبية المواطنين على استعداد لفرض معايير المساءلة الانتخابية على قيادة ما، حتى عندما تكون قد أظهرت كونها قمعية وفاسدة وغير كفؤة. أليس هذا تفسيرًا مقلقًا للنتيجة غير المتوقعة في الانتخابات التركية؟ هل يمكن أن تنجح “الديمقراطية” إذا لم يكن المواطنون حاسمين في رفضهم لأولئك الذين يتحدون أبسط حقوقهم أو يظهرون ضعفهم أمام سطوة الديماغوجيين مع القليل من الاحترام للمعايير الأخلاقية والقانونية الدنيا؟ هل يمكن للانتخابات الحرة أن تجعل أبدًا من اختيار الفاشية مشروعًا؟ إذا نظرنا وراءً في تاريخ الديمقراطية، فسنرى من الجدير بالملاحظة أن أولئك المدافعين البارزين عن الحكم الإنساني والمعتدل في أثينا القديمة، مثل أفلاطون وأرسطو وثوسيديدس، تحولوا ضد الديمقراطية كنمط مفضل للحكم. وأُلقي باللوم على الديمقراطية الأثينية لتسببها في تدهور هذه الدولة المدينة العظيمة على يد الديماغوجيين الذين حركوا المواطنين للمطالبة بالمغامرات الخارجية التي تجاوزت قدرات أثينا.
بالنسبة للبعض منا، يبدو أن الأمر الأكثر إثارة للقلق حتى من نجاح أردوغان هو الأدلة من نتائج الانتخابات على أن القوى اليمينية المتطرفة تكسب دعمًا شعبيًا في تركيا، مما يجعل احتمال التحول نحو القومية المتطرفة تهديدًا حقيقيًا في المستقبل. كانت القوى السياسية والدينية اليمينية الرئيسية أو المتحالفة مع “حزب العدالة والتنمية” هي الفائز الكبير في الانتخابات البرلمانية الموازية يوم 14 أيار (مايو)، إلى جانب نسبة الفضل إليها في أداء أردوغان الأفضل من المتوقع. وبعبارة أخرى، لم تكن المخاطر في الانتخابات التركية تتعلق بجودة الديمقراطية التركية فحسب، بل بالتهديد الأكبر المتمثل في مستقبل رجعي للبلاد، والذي يزيد من مركزية الدولة، وانتهاكات حقوق الإنسان، وتعزيز القومية الإقصائية التي تنفي اللاجئين وتعاقب المنتقدين.
الغد