تدعو “استراتيجية الدفاع الوطني” في الولايات المتحدة للعام 2022 الجيش الأميركي إلى الحفاظ على المزايا الدائمة وإنشاء مزايا جديدة للمعارك المستقبلية. ووفقا لـ”استراتيجية الدفاع الوطني”، سيتمكن الجيش الأميركي، بفضل خلق المزايا والحفاظ عليها بهدف تعزيز المصالح الوطنية الأميركية، من ردع الهجمات ضد الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها إلى ترسيخ قدرة صمود القوة العسكرية والنظام الدفاعي أيضاً. وهذا التحدي مهم جداً في الشرق الأوسط حيث تتمتع الولايات المتحدة بالكثير من المزايا الدائمة التي قد تختفي في النهاية إذا لم تجرِ الحكومة الأميركية تغييرات كبيرة في طريقة عملها في هذا الجزء من العالم.
إمكانية الوصول وبناء القواعد والحق في عبور المجالات الجوية
تنطوي أكبر ميزة عسكرية أميركية دائمة في الشرق الأوسط على إمكانية الوصول وبناء القواعد والحق في عبور المجالات الجوية. ولدى الجيش الأميركي اليوم أكثر من 34 ألف جندي ينتشرون في جميع أنحاء المنطقة ويشاركون في التعاون الأمني مع الشركاء الإقليميين. وغالباً ما ضمن الوجود العسكري الكبير للولايات المتحدة إمكانية الوصول إلى القادة العسكريين والمدنيين الرئيسيين وأتاح لها الحفاظ على علاقاتها الإستراتيجية في أوقات التوترات الدبلوماسية أو الاقتصادية مع هؤلاء الشركاء. وقد يشكل هذا عاملاً أساسياً في حال الدخول في أزمة أو صراع مع الصين التي تحصل -اعتباراً من العام 2021- على نحو 50 في المائة من نفطها المستورد، و33 في المائة من إجمالي إمداداتها النفطية، من الشرق الأوسط.
إحدى الطرق التي تعزز بها الولايات المتحدة شراكاتها الأمنية وبالتالي امتيازات الوصول وبناء القواعد والحق في عبور المجالات الجوية- هي من خلال مناورتها واسعة النطاق وبرامجها التدريبية، وأبرزها “المناورة البحرية الدولية 2022” ومناورة “كاتلاس إكسبرس” 2022 بقيادة الولايات المتحدة، اللتان شملتا سفناً حربية من ستين قوة بحرية إقليمية. ولطالما اعتبر خصوم أميركا في بكين وموسكو الوجود الأميركي في المنطقة ميزة استراتيجية وحاولوا مواجهته وفقاً لذلك -وإن كان ذلك من خلال إجراء تمارين أصغر بكثير أكّدت محدودية قدراتهم على إظهار قوتهم وضآلة شراكاتهم العسكرية. وعلى الرغم من أن هذه الجهود قد تتكثّف قريباً، فإن من الواضح أن الولايات المتحدة ما تزال الشريك المفضل في التدريبات العسكرية، نظراً لإجرائها ما يزيد عن 70 مناورة بحرية في الشرق الأوسط العام الماضي.
تحظى الولايات المتحدة، بفضل العلاقات المبنية عبر الأنشطة العسكرية الإقليمية، بقدرة لا تضاهى على تحصيل تصاريح سريعة لإمكانية الوصول وعبور المجالات الجوية. وتشمل الأمثلة البارزة إمكانية الوصول المباشر إلى قناة السويس التي تمنحها الحكومة المصرية غالباً للبحرية الأميركية للمرور العاجل. ومن شأن ذلك أن يمكّن القوات الأميركية من تنفيذ مجموعة واسعة من المهمات في المنطقة، غالباً في غضون مهلة قصيرة.
قد يعتمد مستقبل إمكانية وصول الولايات المتحدة وبناء قواعدها وحقها في عبور المجالات الجوية في المنطقة على نجاحها في تبديد الشكوك حول التزام أميركا المستمر بأمن شركائها. ولذلك تحتاج الولايات المتحدة بشكل خاص إلى بذل المزيد من الجهود لاحتواء أنشطة إيران الإقليمية والنووية، ومساعدة شركائها في الرد بالمثل على الأعمال العدوانية -أي إقامة نوع من الشراكات الحقيقية الموضحة في “استراتيجية الأمن القومي” لإدارة بايدن -عند الضرورة.
التفوق الجوي
لطالما شكلت قدرة الجيش الأميركي على التفوق الجوي على خصومه والحفاظ عليه إحدى المزايا الأساسية التي يتمتع بها. وقد جعلت الطائرات المقاتلة المتقدمة وأنظمة الأسلحة والدفاعات الجوية الأرضية من التفوق الجوي عنصراً أساسياً في “طريقة الحرب” الأميركية. إلا أن المنافسين للولايات المتحدة يحدّثون قدراتهم سريعاً، مما يجعل من الصعب عليها الحفاظ على هذه الميزة. ومن اللافت للنظر أن القائد السابق لـ”القيادة المركزية الأميركية”، الجنرال كينيث ف. ماكنزي الابن، قد أبلغ الكونغرس في ربيع العام 2022 أن الولايات المتحدة “تعمل بدون تفوق جوي كلي” للمرة الأولى منذ الحرب الكورية بسبب قدرات الطائرات المسيّرة التابعة لإيران ووكلائها.
أظهرت الحرب في أوكرانيا مدى صعوبة اكتساب القوة الجوية التقليدية التفوق الجوي نتيجة وجود أنظمة دفاع جوي ومسيّرات وصواريخ كروز متقدمة. وتدّعي أوكرانيا أنها أسقطت 80 في المائة من مجموع الطائرات الروسية المسيّرة والصواريخ باستخدامها مجموعة متنوعة من أنظمة الصواريخ والمدافع، وتجدر الإشارة هنا إلى أن روسيا نادراً ما ترسل طائرات مأهولة إلى المجال الجوي الأوكراني. ومع ذلك، تسبب العدد القليل من الطائرات من دون طيار وصواريخ كروز التي اخترقت الدفاعات الجوية الأوكرانية في إلحاق أضرار جسيمة بالبنية التحتية الحيوية والمساكن. واستعداداً للصراعات المستقبلية، من المرجح أن يحوّل خصوم الولايات المتحدة جهودهم نحو بناء دفاعات جوية أكثر تقدماً وطائرات مسيّرة وصواريخ بعيدة المدى لمنع التفوق الجوي الأميركي.
من هنا، من الضروري أن تعمل الولايات المتحدة على تطوير طرق مبتكرة للتصدي لمساعي الخصوم الرامية إلى الحرمان الجوي ولكسب التفوق الجوي والحفاظ عليه. وتحقيقاً لهذه الغاية، يجب على الجيش الأميركي دراسة مناهج متعددة المجالات للقضاء على الدفاعات الجوية للعدو. وبالإضافة إلى ذلك، يجب على المخططين الأميركيين تطوير أساليب خاصة بالمجالات الجوية التي تستخدم مزيجاً من الطائرات المأهولة والطائرات المسيّرة والقذائف والصواريخ بعيدة المدى والدفاعات الجوية المتكاملة، من أجل اكتساب التفوق الجوي والحفاظ عليه في المعارك المستقبلية.
أسلحة عالية التقنية ومعضلة المبيعات العسكرية الخارجية
تشتهر قاعدة الصناعة الدفاعية الأميركية بمنتجاتها المبتكرة، من تقنية التخفي إلى المركبات الجوية غير المأهولة والذخائر دقيقة التوجيه، وبذلك تكون الشركات الأميركية قد أرست معياراً للأسلحة عالية التقنية، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة المصدر الأكبر والوحيد للأسلحة في المنطقة لأكثر من عشرين عاماً.
إلا أن الحصول على الأسلحة الأميركية ليس بالأمر السهل، إذ يشكو الكثير من العملاء من ارتفاع الأسعار والتأخيرات الطويلة في عمليات التسليم والمتطلبات الإدارية المعقدة. وفي بعض الحالات، قد تستغرق عملية إخطار الكونغرس بشأن عملية بيع سنوات، في حين يستغرق منح عقد البيع ثمانية عشر شهراً في المعدل. ويجدر بالذكر أن معدل الوقت بين منح العقد والتسليم بلغ بين العامين 2012 و2021 أربع سنوات لأنظمة الدفاع الجوي وثلاث سنوات ونصف للطائرات وسنتين ونصف للصواريخ. وهو شيء تعاني منه إسرائيل حالياً، حيث تتوقع استلام طائرة “كي سي – 46” في العامين 2025 و2026، بعد ما يقرب من أربع سنوات من توقيع العقد.
نتيجة لذلك، بدأ بعض الحلفاء والشركاء في البحث عن أسلحة في دول أخرى. وفي هذا الإطار، أفاد مؤخراً القائد الحالي لـ
“القيادة المركزية الأميركية”، الجنرال مايكل كوريلا، قائلاً: “خلال رحلاتي إلى المنطقة ومكالماتي مع رؤساء الدفاع الإقليميين، أسمع دائما عن مدى سرعة وسهولة برنامج المبيعات العسكرية الخارجية للصين مقارنة ببرنامجنا”. وتُقدم قاعدة الصناعة الدفاعية الأميركية ميزة مهمة لأنها تعزز قدرات الحلفاء والشركاء الرئيسيين وتوفر وسيلة للجيش الأميركي للتشارك والتدريب مع الجيوش في المنطقة -مع تحمل تكاليف الأسلحة للجيش الأميركي بِفَضل اقتصاديات الأحجام الكبيرة.
يتعين على الولايات المتحدة إصلاح برنامج المبيعات العسكرية الخارجية للحفاظ على ميزة الأسلحة الأميركية عالية التقنية. وكما قال في أيلول (سبتمبر) الماضي وكيل وزارة الدفاع الأميركية كولن كال: “عمليتنا بطيئة جداً”، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنه “من الأمور التي أثبتناها مع أوكرانيا هو أنه عندما نتحلى بالإقدام، يمكننا تحدي قوانين الفيزياء البيروقراطية”. ولاحظ الحلفاء والشركاء في الشرق الأوسط السرعة التي ساعدت بها الولايات المتحدة أوكرانيا، وتساءلوا عن ازدواجية المعايير تجاه المساعدة في الدفاع عنها ضد العدوان الإيراني. ولذلك، سيؤدي إلغاء بعض الإجراءات الإدارية الروتينية في عمليتَي إخطار الكونغرس ومنح العقود إلى تقصير المهل ومساعدة الولايات المتحدة على البقاء خياراً مغرياً للحصول على الأسلحة.
قدرات الاستخبارات الإقليمية والعالمية
مكّنت الحرب في أوكرانيا الولايات المتحدة من إظهار قدراتها الاستخباراتية الفريدة. فبعد أن كشفت أميركا علناً عن التحركات الروسية قبل حدوثها، نجحت في تشكيل الأحداث المتعلقة بالحرب في أوروبا وأماكن أخرى، وقد وفرت المخابرات الأميركية لأوكرانيا ميزة حاسمة على روسيا في الاستهداف والعمليات. وتأتي هذه الميزة الدائمة إلى حد كبير من نوعية الأصول الأميركية المكرسة لجمع المعلومات الاستخبارية وكميتها. وقد ساعد الجمع بين المصادر العالمية والأقمار الصناعية الحكومية والتجارية والقدرة المحسنة على رصد الاتصالات والمواد مفتوحة المصدر، الولايات المتحدة في رسم صورة واضحة للغزو الروسي. وبالإضافة إلى ذلك، تميزت الولايات المتحدة بتطورها في مجال التشفير وتكنولوجيا التجسس الإلكتروني بشكل لا يستطيع منافستها فيه سوى عدد قليل من البلدان. وتستفيد منطقة الشرق الأوسط خصوصاً بشكل كبير من الاستخبارات الأميركية التي تواصل مساعدة الحلفاء والشركاء في تحديد مواقع الأعضاء الرئيسيين في تنظيم “داعش” وتحييدهم.
ولكي تحافظ الولايات المتحدة على توفقها في مجال الاستخبارات، يتعين عليها تحديث سياستها فيما يتعلق بالمعلومات السرية. لقد أصبحت اختراقات البيانات السرية أمراً عادياً يسبب الإحباط والإرتباك بين حلفاء الولايات المتحدة وشركائها. ولذلك تقتضي الخطوة الأولى الحدّ من عدد الأشخاص الذين يمكنهم الوصول إلى المعلومات السرية، وهو أمر على الولايات المتحدة القيام به لاستعادة مصداقيتها في العالم ولتظهر لحلفائها وشركائها أن المعلومات الاستخباراتية التي تحتفظ بها موثوقة ولن تتم مشاركتها مع الخصوم أو تسريبها إليهم. وفي الوقت نفسه، أثبت الإفصاح المتعمد في أوكرانيا جدواه في تشكيل الأحداث والتصدي للمعلومات المضللة. وفي المقابل، تحتاج الولايات المتحدة إلى أن تستخدم المعلومات الاستخباراتية لتشكيل ساحة المعركة بقدر أكبر من الراحة، لأن الغرض من الاستخبارات في نهاية المطاف هو خدمة السياسة -سواء من خلال دعم العمليات العسكرية أو التأثير على بيئة المعلومات.
الخاتمة
تتمتع الولايات المتحدة على الدوام بفوائد مزايا إمكانية الوصول وبناء القواعد والحق في عبور المجالات الجوية والتفوق الجوي والأسلحة عالية التقنية والمبيعات العسكرية الأجنبية والاستخبارات. لكن هذه المزايا لن تبقى إلى الأبد ما لم تفعل أميركا ما هو ضروري للحفاظ عليها. فالصين وروسيا تتطلعان إلى تعزيز انخراطهما العسكري ونفوذهما في الشرق الأوسط والتصدي للقدرات الأميركية التقليدية أو تقويضها. وبالتالي، يؤكد العصر الحالي المتسم بتنافس القوى العظمى ضرورة اتخاذ خطوات أميركية حاسمة ومدروسة للحفاظ على هذه المزايا التقليدية.
الغد