حملت الانتخابات الرئاسية التركية عدة دروس للمبتدئين في مدرسة الديمقراطية، وبما أنه لا وجود لتجربة ديمقراطية ناجحة وناضجة في المنطقة العربية، باستثناء التي أجهضها العسكر في مصر، وتلك في تونس التي يمارس عليها قيس سعيّد ساديته وهو يقتلها يومياً عمداً وببطء، من دون الحديث عن التجربة اللبنانية التي تحوّلت إلى حالة إكلينكية معقّدة، فقد حملت الانتخابات التركية أخيراً دروساً عديدة تصلح للدول في المنطقة العربية التي ظلت عصيةً على رياح الديمقراطية وفشلت فيها، أو جرى إفشال كل تجارب الانتقال الديمقراطي التي تحوّلت إلى حالات مشوّهة تستدعي القتل الرحيم لما باتت تسبّبه للمواطن من جهل وتفقير وللاقتصاد من نهب وإفلاس وللدول من فساد وخراب.
صحيحٌ أن الديمقراطية التركية ليست نموذجية، خصوصاً في السنوات الأخيرة، منذ قرّر الرئيس أردوغان تحويل نظام الحكم إلى نظام رئاسي، تحوّل إلى شبه “دكتاتورية منتخبة”، بحيث تراجعت فيها قيم ديمقراطية عديدة، وتقلص في ظلها هامش الحريات، وارتفع منسوب القمع، ورافقت ذلك نكسات كبيرة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، بفعل التضخّم وارتفاع الأسعار. وعلى المستوى الخارجي، فقد “النموذج التركي” في المنطقة العربية الكثير من الهالة التي كان يحظى بها زعيمُه، خصوصاً بعد تطبيعه مع أنظمة عربية مستبدّة وقمعية طالما انتقد قمعها شعوبها وانقلابها على اختياراتها، بالإضافة إلى استئناف علاقاته مع الكيان الصهيوني التي شكّلت صدمة لمن كان يرى في تركيا درعاً لمواجهة غطرسة الاحتلال الإسرائيلي وعنفه. كما أن أردوغان متّهم بتقويض أسس الديمقراطية العلمانية في تركيا، وإخضاع المؤسسات لإرادته، ودفع الدين إلى الفضاء العام، وبناء شبكةٍ قويةٍ من المحسوبية عبر المجتمع، وغيرها من الانتقادات التي تطاول الزعيم التركي.
لكن، في الوقت الذي تعيش فيه الديمقراطية في دولٍ عريقةٍ نكساتٍ وخيباتٍ أدّت إلى هجرة الناخبين صناديق الاقتراع، ما أفسح المجال للتيارات الشعبوية لتملأ الفراغ، وتتراجع تجاربها في مناطق ما زالت تتخبّط في مراحل الانتقال التي لا ينتهي، لتفسح المجال لعودة شبح الدكتاتورية والأوتوقراطية والاستبداد بكل أشكاله وأنواعه، أعطتنا الانتخابات التركية دروساً ملفتة للانتباه تعيد الثقة بصناديق الاقتراع، وتحطّم الصورة المتشائمة التي كان كثيرون يخشون من أن تسود المشهد، في حال حصول انتكاسة كبيرة خلال هذه الانتخابات، تعيد تركيا إلى معسكر الاستبداد الشرقي.
فقد “النموذج التركي” في المنطقة العربية الكثير من الهالة التي كان يحظى بها زعيمُه، خصوصاً بعد تطبيعه مع أنظمة عربية مستبدّة وقمعية
الدرس المهم والكبير الذي أعطته الانتخابات التركية للعالم أجمع، في دوريها الأول والثاني، رسالة أمل بأن الديمقراطية بوصفها نظاماً للمحاسبة والتداول السلمي على الحكم ما زالت بخير. وبالرغم من كل المؤاخذات التي يمكن تسجيلها على التجربة الديمقراطية التركية إلا أنها ما زالت بخير، بدليل تشبث الأغلبية الساحقة من الشعب التركي بها سبيلاً للتعبير عن آرائهم وتقرير مصيرهم ومصير بلدهم. والفريد في التجربة التركية أن النموذج والدرس هذه المرّة يأتيان من الشرق الاستبدادي ومن شعوبه التي تستكثر عليه أنظمته القمعية ممارسة عملية الاختيار الحر بدعوى عدم نضجها وتأهلها لممارستها، ويرفض الغرب، بتعالٍ مُبالغٍ فيه، الاعتراف بقدرتها على الاحتكام إلى صناديق الاقتراع بدون تزوير أو إسالة الدماء.
وبالنسبة للعرب، وخصوصا الشعوب التوّاقة إلى الحرية والديمقراطية، يمكنها أن تستفيد من دروس كثيرة حملتها الانتخابات التركية، مثل درس الاحتكام إلى صناديق الاقتراع لتكون الفيصل عندما يحتدم الاصطفاف وتتعالى نبرة النعرات الشوفينية داخل المجتمعات، فصناديق الاقتراع ما زالت المكان الآمن والأقل كلفةً لحل الخلافات، وتجنيب المجتمعات الحروب الأهلية ومآسيها ودمارها.
الفشل لا يعني موت النموذج، والدليل أن النموذج التركي ما زال يحقّق الانتصار في بيئة معقّدة مثل البيئة التركية
يتعلق الدرس الثاني من هذه الانتخابات بنزاهة عملية الاقتراع وشفافيتها، لأنها هي التي تعزّز ثقة المواطن بصناديق الاقتراع. عندما تكون الانتخابات ذات مصداقية، ويتم فيها احترام قواعد اللعبة، وتكون الحملة الانتخابية مفتوحةً ومتكافئةً، ويشعر الناس بأنهم أحرار في اختيارهم، تزيد ثقتهم بالعملية، ويقلّ عدم يقينهم في جدواها، فالأمر يتعلق، أولاً وقبل كل شيء، بقدرة الدولة على احترام معايير الشفافية ونزاهة الاقتراع. لذلك فاجأ الناخبون الأتراك العالم بنسب المشاركة الاستثنائية في الدورين الأول والثاني، وهي علاوة على كونها علامة على صحة الديمقراطية التركية، فهي تعني أيضاً أن المواطن التركي كان مقتنعاً فعلاً بأن لصوته قيمة داخل صندوق الاقتراع، وبأنه هو سيّد قراره داخل بلده.
الدرس الثالث، ويتمثل هذه المرّة في فلسفة الانتخابات أو مقصدها، عملية للمحاسبة والمساءلة والمراقبة يمارسها الشعب بحرّية في حقّ من يوليهم تدبير شؤونه، فقد أثبتت التجربة التركية أن الإنجاز عندما يكون واقعياً وتصل ثماره إلى الناس تتم مكافأته ومجازاته، وفي هذا تعبيرٌ قويٌّ على أن وعي الشعب يبقى هو الحَكَم والسيد والآمر والناهي.
الدرس الرابع، وهذا موجّه إلى الراغبين في تثبيت أنفسهم حكّاماً دائمين لبلدانهم، فالاستمرار في الحكم ممكنٌ، لكن بطريقة ديمقراطية، وبالعودة الدورية إلى صناديق الاقتراع لتزكيته. لقد أثبتت هذه الانتخابات أن الزعيم ليس هو الرئيس المستبدّ أو رئيس العصابة أو قائد القبيلة أو العشيرة أو القومية، ولكن الزعيم هو من تزكّي زعامته صناديق الاقتراع في كل مرّة يريد فيها تجديد ثقة الناس فيه وفي برامجه.
الدرس الخامس، وهذا موجّه إلى الإسلام السياسي وأنصاره، فالفشل لا يعني موت النموذج، والدليل أن النموذج التركي ما زال يحقّق الانتصار في بيئة معقّدة مثل البيئة التركية، وداخل مجتمع دستوره علماني، وأمام معارضة قوية مشكّلة من علمانيين ويساريين وليبراليين، فالنموذج عندما يكون نابعاً من المجتمع ملتصقاً ومستجيباً لإرادة الناس لا يمكن هزمه أو القضاء عليه وبالأحرى استئصاله، وهذا تعبيرٌ لا نجده إلا في منطقتنا العربية التي ما زالت تمتح تعابيرها السياسية من قاموس مشافي الأمراض الخبيثة.
الزعيم هو من تزكّي زعامته صناديق الاقتراع في كل مرّة يريد فيها تجديد ثقة الناس فيه وفي برامجه
جاء الدرس الآخر من هذه الانتخابات من المعارضة التي كانت مشتّتة تضم ألوان طيف متنافرة، لكنها نجحت في توحيد صفوفها، وانضباط منتسبيها، وتجلى ذلك في النسبة المهمة من الأصوات التي نالها مرشّحها التوافقي في الدورين الأول والثاني مع الحفاظ على وحدة صفّها وزخم تعبئة مناضليها حتى آخر لحظة في التنافس الديمقراطي.
وأخيراً وليس آخراً، الدرس المهم من هذه الانتخابات هو ذلك الموجّه إلى الشباب العربي الذي يمثل أغلبية السكان في المنطقة العربية، فقد شهدت الانتخابات التركية مشاركة أكثر من خمسة ملايين شابة وشاب تركي، شاركوا بالانتخابات أول مرّة في حياتهم، وهو ما يمثل أكثر من 70% من هذه الفئة، وكانت هذه أحسن وأكبر مفاجأة حملتها الانتخابات التركية للعالم، وهي قدرتها على جذب جيل تقنيات التواصل الحديث والفضاءات الافتراضية والذكاء الاصطناعي، لتجريب أقدم نظام للتداول السياسي اكتشفته البشرية، وفي هذا قيمة إضافية للعملية الديمقراطية.
خلاصة القول: فاز الرئيس أردوغان بولاية ثانية، وليس في هذا الفوز جديد، لأن الرجل ظل يفوز في الانتخابات منذ كان رئيساً لبلدية إسطنبول، لكن الرابح الأكبر في هذه الانتخابات ليس هو أردوغان، وإنما تركيا التي وضعت نفسها في مصافّ الدول الديمقراطية الكبيرة، والشعب التركي الذي أكّد تمسكه بصناديق الاقتراع مكاناً للتنافس الحضاري، وربحت فيها الديمقراطية نموذجاً للحكم، ليس مثالياً، ولكنه سيبقى الأحسن الذي اكتشفته البشرية كما كان يقول الزعيم البريطاني ونستون تشرشل. ويبقى الدرس الكبير من هذه الانتخابات للعالم أن النظام الديمقراطي ما زال بخير.
العربي الجديد