صدرت مذكّرات الرئيس العراقي الأسبق، جلال الطالباني، ولم تُثِر ما كان يجب أن تثيره من ردود ومساجلات وآراء ومناقشات. ويرجع ذلك، على الأرجح، إلى ضعف اهتمام العرب بالتفصيلات الكردية، مع أن الكرد جزءٌ أساسي من الشعبين السوري والعراقي، وهم الإثنية الوحيدة التي لديها مشروع سياسي “قومي” مختلف عليه في المشرق العربي. وهذه المذكّرات المهمة كان الطالباني قد أملاها بتقطّع على صلاح رشيد في برلين منذ مايو/ أيار 1990، ثم توقفت عملية الإملاء لتُستكمل في شمال العراق في سنة 2000، ما يعني أن إعداد هذه المذكّرات استغرق خمسة عشر عامًا بصورة غير متواصلة. وقد جَهِد صلاح رشيد في تحويل هذه المذكّرات إلى حوار مطوّل وشامل، ثم أَكبّ شيرزاد شيخاني في السليمانية على ترجمتها من الكردية إلى العربية بعناية واضحة. غير أن جلال الطالباني لم تُتَحْ له الفرصة لمراجعة النص النهائي، ولم يتمكّن، جرّاء مرضه، من تمرير قلمه عليه حذفاً أو إضافة أو إيضاحًا أو استفاضة. ومهما يكن الأمر، من محاسن الأيام أن تصدُر هذه المذكرات بالعربية بعنوان “مذكّرات الرئيس جلال الطالباني: رحلة ستون عامًا من جبال كردستان إلى قصر السلام” (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2018، 572 صفحة). والمزعج في العنوان الفرعي لهذه المذكّرات سقطة لغوية شنيعة، هي كلمة “ستون” التي يجب أن تكون “ستين”، وهي من أغلاط ساعة النحس.
كنا نقرأ اسمَه هكذا: جلال الطَالْباني، لكننا كنا نسمع لفظه هكذا: جلال الطَلَبَاني. وعرفنا أن هناك عشائر كردية كثيرة تعرّبت في إحدى فترات التاريخ، مثل آل جنبلاط والمرعبي والأيوبي، وأن هناك عربًا تكرّدوا مثل آل الحيدري والطالباني والبارزاني والحفيد والجاف وغيرهم كثر. إذاً فإن مام جلال كردي من جذور عربية، ويُسجّل له أنه لم يدعُ مرّة إلى انفصال شمال العراق عن كيان العراق، بل كان يدعو دائمًا إلى التعاون العربي – الكردي، وإلى توسيع منطقة الحكم الذاتي، ومنح الكرد المزيد من الحقوق في نطاق الوطن العراقي الواحد.
المذكّرات واللقاء المنفرد
التقيته قبل نحو ربع قرن في بهو فندق الاستقلال في طهران (الإنتركونتيننتال في عهد الشاه محمد رضا بهلوي) القريب من خِيابان فالي العصر، أي شارع ولي العصر (جادّة بهلوي سابقًا). وكنتُ وصفتُه في مقالة لي في مجلة “الرأي الآخر” العراقية (العدد الأول، تشرين الأول/ أكتوبر 1994) بـِ “زعيم البهلوانية السياسية”، فردّ عليّ عبد الوهاب الطالباني وجواد علي في “الرأي الآخر” أيضًا (العددان الثاني والثالث). ثم نُشرت المقالة نفسها مع تعديلات في صحيفة الحياة، وردّ علي أيضًا كثيرون. لذلك خشيت أن نتنافر جرّاء ذلك السجال. لكنه، بعد أن عرّفته إلى اسمي، كان شديد اللطف والأريحية. وحين اقترحتُ عليه إجراء حديثٍ عفوي لصحيفة السفير عن زيارته طهران، من دون تحضير مسبق، رحّب على الفور، وقال لي إنه يعرف رئيس التحرير طلال سلمان، وإنه كتب مرارًا في الصحيفة. وكان طلال سلمان قد وصفه في إحدى مقالاته بـِ “الكردي التائه” الباحث عن كيان سياسي لشعبه، على غرار “اليهودي التائه” الذي تمكّن من تأسيس دولة لأبناء مِلّته.
لم يدعُ الطالباني مرّة إلى انفصال شمال العراق عن كيان العراق، بل كان يدعو دائماً إلى التعاون العربي ــ الكردي، وتوسيع منطقة الحكم الذاتي
وتواعدنا على اللقاء في الفندق في اليوم التالي في حال بقي في طهران. أما إذا اضطرّ إلى المغادرة فسيكون معذورًا. ولم يعد مام جلال إلى الفندق، ولم ألتقِه ثانية، وها أنا ألتقيه الآن هنا على صفحات مذكراته.
ماذا في المذكّرات؟
تروي المذكّرات جوانب من طفولة جلال الطالباني، وشذرات من حقبة دراسته، وتضيء على المؤثرات الأولى التي ساهمت في تكوين وعيه، والتي أدّت به إلى الانخراط في السياسة مع نزوع يساري جلي. وتتناول المذكّرات تأثير الحزب الشيوعي العراقي في خياراته الفكرية، مع أنه لم ينضمّ إلى صفوفه، بل انخرط في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) تبع الملا مصطفى البارزاني. وتستفيض المذكّرات في سرد نشاطه الخارجي منذ أول زيارة له إلى وارسو في سنة 1955 حين التقى هناك ناظم حكمت وياسر عرفات وكريم مروّة وصفاء الحافظ. وما لم يذكره الطالباني في مذكّراته، وربما لم يتذكّره، هو أن الوفد الفلسطيني إلى المهرجان العالمي للشباب والطلبة لم يكن موجودًا بصفة مستقلة، لأن دولة فلسطين لم تكن مُدرجة على لوائح الأمم المتحدة، بل كان في عداد الوفد المصري. وفيما كانت الوفود تسير في الاستعراض الافتتاحي للمهرجان، وكان ياسر عرفات ومعه صلاح خلف (أبو إياد) يسيران بين صفوف الوفد المصري، عمد عرفات إلى رفع يافطة مكتوب عليها “فلسطين”. وأثارت تلك الحادثة ضجّة في المهرجان، فاستحسنتها معظم الوفود، واستاءت منها القلة. وفي أي حال، تسرد هذه المذكرات شوطًا مهمًا من تاريخ العراق وتاريخ أكراد العراق في أكثر الحقب اشتعالاً واضطراباً، وتتضمن لمحات عن ثورة 14 تموز 1958 وعودة الملا مصطفى البارزاني من منفاه الروسي، وانتفاضة عبد الوهاب الشواف في الموصل في سنة 1959، ثم إعلان “الثورة الكردية” في سبتمبر/ أيلول 1961، ووقوف البارزاني ضدها وتأييده الزعيم عبد الكريم قاسم … إلخ. وفي المذكّرات تفصيلات كثيرة عن انشقاق الطالباني عن الملا مصطفى البارزاني وتأسيسه العصبة الماركسية – اللينينية، ولاحقًا عصبة شغيلة كردستان (كوملة). والملاحظ أن معلوماتٍ كثيرة تعج بها هذه المذكّرات تستحوذ بالتأكيد على انتباه الكاتب العربي أو الباحث العربي أو المؤرّخ العربي، لكن معلوماتٍ كثيرة، في المقابل، لا تهم العربي إلا في حدود ضيقة جدًا، بل تُربكه مثل أسماء المنظمات الكردية في إيران وتركيا وسورية وشمال العراق، وكذلك تحالفاتها وصراعاتها وانشقاقاتها وانحلالاتها وأسماء شخصياتها، الأصلية والمستعارة، وأَعلامها البارزين والمتوارين. وهذه أمور مهمة لمن يريد أن يرصد التاريخ القريب لأكراد العراق، لكن الإيغال في تلك التفصيلات يحوّل المذكرات لدى الباحث العربي إلى متاهة. وفي أي حال، يقدّم الكتاب بالكردية خدمة تاريخية مهمة جدًا للقارئ الكردي، لكنه يبدو لي أقلّ فائدة للقارئ العربي الذي سيدوخ بين أسماء الأشخاص وأسماء المواقع الجغرافية والأمكنة والحوادث.
كردي وفلسطيني يروي الطرائف
جلال الطالباني أول رئيس غير عربي للعراق منذ تأسيس الدولة العراقية في مارس/ آذار 1921. ومع أنه صار يُدعى رئيس “كوماري عيراق” منذ 2005، أي رئيس العراق، وهو موقع غير مبهج إطلاقاً خصوصا أن نوري المالكي عُيّن رئيسًا للحكومة في إحدى فترات عهده، ومع أن مام جلال فشل في بعض تجاربه الغرامية، فقد بقي باسمًا ووجهه وضاح طوال حياته. ويعترف بأنه أحبّ فتاة وكتب لها رسائل يبث فيها لواعج قلبه، لكن، تبيّن أن الفتاة تحبّ غيره. ثم أحب زميلة له في الجامعة، واضطرّ إلى مغادرة بغداد في مهمة إلى الخارج، وعندما عاد وجدها قد تزوجت (ص 556). ويروي من طرائف الإيرانيين ما يلي: كنا جالسين في منزل الشيخ حسين علي منتظري في طهران حين دخل علينا أحد الأشخاص وسلّم وجلس، فسأله بعض الحاضرين: من أين أتيت؟ فقال: كنتُ في الجهاد. فاستوضحوه عن مكان الجهاد فأجاب: ذهبت إلى مدينة سننداج (عاصمة محافظة كردستان الإيرانية) كي أُحارب هؤلاء العصاة (يقصد الأكراد)، فقد وردني خبر عن أن جلال الطالباني ومعه ألفان أو ثلاثة آلاف من أتباعه دخلوا إلى إيران لبث الفتنة والفوضى، وذهبت لإنقاذ المنطقة من شرور جلال الطالباني. فسأله منتظري: وهل رأيت جلال الطالباني هناك؟ فرد: نعم، رأيتُه بأم عيني. عند ذاك قال له منتظري: سوّد الله وجهك. هذا هو جلال الطالباني، وهو معنا هنا منذ أربعة أيام (ص 535-536). ويستسيغ جلال الطالباني أن يغني موالاً عراقيًا يشير إليه شخصيًا هو:
لا قَصَبْ لا حُصرانْ لا عندنا بَردْي/ فوق القهر والضيم رئيسْنا كردي
روى مام جلال هذا الموال للزميل غسّان شربل، ويمكن العثور عليه في كتاب “زيارات لجروح العراق” (بيروت، رياض الريس للكتب والنشر، 2021، ص 107). وفي إحدى مقابلاته التلفزيونية روى أن زوجته هيرو ابنة إبراهيم أحمد اتصلت به ليلًا تستعجله العودة إلى المنزل، لأنها قلقة عليه، فأجابها أنه اضطرّ للتأخر لأن لديه اجتماعًا حكوميًا، فعاتبته لأنه تركها وحيدة في ذلك الليل، وهي تخشى اللصوص، فقال لها: “نامي ولا خوف عليك من اللصوص لأن جميع الحرامية قاعدون أمامي الآن”. ويعترف جلال الطالباني في هذه المذكّرات بأن علاقته بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بدأت منذ تأسيسها في 9/12/1967.
الطالباني أول رئيس غير عربي للعراق منذ تأسيس الدولة العراقية في مارس/ آذار 1921
وفي مكان آخر يقول إنه أقام في بيروت تحت حماية الجبهة، وكان لصيقًا بوديع حداد (أبو هاني) بالدرجة الأولى، ثم بمحسن إبراهيم ونايف حواتمة وكمال جنبلاط، وبدرجة أقلّ بجورج حاوي (راجع: غسان شربل، زيارات لجروح العراق، مصدر سبق ذكره، ص 44). ويكشف أن الجبهة الشعبية منحته بطاقة عضوية برتبة ضابط كي يتسنّى له حمل مسدس شخصي مع بندقية كلاشينكوف في سيارته (ص 192). وكان هذا الامتياز من البنود المشتقّة من اتفاق القاهرة بين منظمة التحرير الفلسطينية والجيش اللبناني الموقّع في سنة 1969. ويعترف أيضًا بأنه عمل في المجال العسكري مع وديع حداد وهاني الهندي (ص 292)، والمقصود المجال الخارجي أو العمليات الخاصة في الجبهة الشعبية. وساهم في إمداد وديع حداد بجوازات سفر إيرانية لاستخدامها في خطف إحدى الطائرات الإسرائيلية من مطار روما، وأنه أدخل أسلحة إلى روما عن طريق سفير العراق في إيطاليا آنذاك، طه محيي الدين معروف (ص 293-294). ولعل ليلى خالد خلطت في حديثها إلى غسّان شربل في صحيفة الشرق الأوسط (12/2/2023) بين جلال الطالباني ورفيق الحريري، حين ادّعت أن الحريري نقل أسلحة إلى أوروبا بطلب من وديع حداد، وهو أمر غير صحيح.
تسرد المذكرات أن الأجهزة العراقية حاولت اغتيال الطالباني في بيروت في ربيع 1972، وأن هاني الهندي (أبو محمود) أبلغ إليه أن الملحق العسكري في سفارة العراق في بيروت، وكان ينتمي إلى حركة القوميين العرب، أفشى هذا الخبر إلى “شخصٍ مسيحي نبيل كان وزيرًا لحركة القوميين العرب في انقلاب 1963 في سورية”. وعلى الفور بادر “الرجل المسيحي النبيل” إلى نقل تلك المعلومات إلى هاني الهندي (ص 296). وللإيضاح، هذا الوزير المسيحي الذي نسي الطالباني اسمه هو جهاد ضاحي مؤسس كتائب الفداء العربي في سورية، وكان هاني الهندي عضوًا فيها، وهو الذي ضمّ جورج حبش إليها في بدايات عمله السياسي. ولعل خطر الاغتيال هو الذي ألجأ مام جلال إلى الانتقال من بيروت الغربية إلى منطقة الأشرفية. وهناك ارتاب به عناصر حزب الكتائب. ولما قابله بشير الجميل، وبعد أن عرف الغاية من إقامته في الأشرفية، رحب به وبإقامته في المنطقة المسيحية (غسّان شربل، مرجع سابق، ص 44). وفي تلك الحقبة كان الطالباني “ماركسيًا” معجبًا بستالين وماو تسي تونغ وهوشي منه وجورجي ديمتروف (ص 559). وربما كان إعجابه بديمتروف هو ما دفعه إلى كتابة 14 حلقة في مجلة الهدف الناطقة بلسان الجبهة الشعبية عن “الجبهة الوطنية المتحدّة في مرحلة التحرّر الوطني” (ص 291). وكان اليسار الفلسطيني، واللبناني أيضًا، قد “فلقنا” بهذه النظرية. ولم يكن الطالباني يدرك أن جورجي ديمتروف زعيم الحزب الشيوعي البلغاري ورئيس الحكومة بين 1946 و1949، كان متعاطفًا مع الصهيونية، ومؤيدًا لقيام دولة إسرائيل. ولهذا سهّل هجرة يهود بلغاريا إلى فلسطين في سنة 1948 بعد لقائه شموئيل ميكونيس في إبريل/ نيسان 1948. وكتاب ديمتروف عن الجبهة الوطنية المتحدة ترجمه أبو سيف يوسف في سنة 1972، ثم لطش فصولاً منه هاشم علي محسن الذي أنهى حياته في أحضان المشؤوم أبو خالد موسى العملة.
المديني اللطيف والريفي الجلف
في بداية اكتشافنا المشكلة الكردية في مطالع السبعينيات من القرن الماضي، ثم مع ظهور الاتحاد الوطني الكردستاني في سنة 1975، كنا نميل إلى جلال الطالباني لا إلى البارزاني، ربما ليساريته، ولأنه أقلّ تعصبًا إثنيًا، ولأنه انشقّ عن الملا مصطفى البارزاني الذي، وإن كنتُ أعرف مكانته بين أكراد العراق وموقعه في تاريخ الحركة الوطنية الكردية، لم أكن أُطيقه ألبتة بعدما شاهدتُ صورته ومعه شمس الدين المفتي ومحمود عثمان في مطار بن غوريون في سنة 1968، فيما الأعلام الإسرائيلية تحفّ به وتخفق من حوله، وكانت جروح هزيمة يونيو/ حزيران 1967 ما برحت نازفة. أما الطالباني فكان يبدو واحدا من النخب المدينية المتعلّمة الذي يعرف ما تعني التسويات والحلول الوسط، خلافًا للبارزاني. وكان الطالباني قادرًا على شَبْكِ علاقات مع العراق وإيران وتركيا وسورية وبريطانيا والولايات المتحدة في وقت واحد. وتمكّن ببراعته من أن ينسج صلات وثقى مع معمّر القذافي وحافظ الأسد وصدّام حسين وسليمان ديميريل وتورغوت أوزال وعبد الله أوجلان، كأنه يريد أن يراهن على جميع الجياد المشاركة في السباق؛ فلا بد من أن يفوز أحدها في النهاية. وهو في هذا المسلك لا يختلف كثيرًا عن البارزاني وربما تعلم منه، إذ عمل مترجمًا له في ستينيات القرن المنصرم.
كشف الطالباني أن الجبهة الشعبية منحته بطاقة عضوية برتبة ضابط كي يتسنّى له حمل مسدس شخصي مع بندقية كلاشينكوف في سيارته
وفي هذا الميدان يقول إن الملا مصطفى البارزاني عقد مقابلتين متتاليتين مع صحافي أميركي وصحافي روسي في فترة واحدة، فقال للصحافي الأميركي إنه يتطلع إلى جعل كردستان الولاية الأميركية الحادية والخمسين، وقال للصحافي الروسي إنه مستعد لجعل كردستان الجمهورية السوفييتية السادسة عشرة (انظر: جوناثان راندل، أمة في شقاق، بيروت: دار النهار، 1997، ترجمة فادي حمود، ص 437 الهامش 42). ويروي الطالباني: كان البارزاني شخصًا أميًا، ويكره أن يناديه أحد بصفة “أستاذ” لأنه يعتقد أنه يسخر منه. وفي إحدى المرّات، ذهب الطالباني برفقة عبد الحسين الفيلي وهاشم عقراوي وعلي العسكري لمقابلة البارزاني، وكان عبد الحسين الفيلي يكن إعجاباً كبيرًا بالملا مصطفى. وفي بداية اللقاء، أجلس البارزاني الفيلي قربه وحيّاه، فردّ الفيلي التحية بقوله: أُقبل يديك أيها الأستاذ. فاستشاط البارزاني غضبًا وقال له على الفور: “أنت كلب ابن كلب”. فارتعب عبد الحسين الفيلي وتراجع إلى الوراء قائلاً: يا أستاذ أنا لم أفعل شيئًا يمس مقامك. فأجابه البارزاني: بل فعلت. أنت كلب ابن كلب. ومع شحوب وجه الفيلي خاطب الملا قائلاً: قل لي يا أستاذ ماذا فعلتُ كي تغضب مني هكذا؟ فرد الملا: أنت ابن الكلب لا أنا. فسأله عبد الحسين الفيلي راجفًا: ومتى قلتُ ذلك؟ فقال البارزاني: كل مَن يخاطبني بكلمة أستاذ يكون قد سبّني. أنا لستُ أستاذًا (ص 160).
تجاهل ما هو معروف
صاغ دافيد بن غوريون استراتيجية دول المحيط بعد العدوان الثلاثي على مصر في سنة 1956. ومن ثوابت نظرية الأمن القومي الإسرائيلي المشتقة من “سياسة المحيط” هو إبعاد العراق عن الصراع العربي – الصهيوني. وكانت إسرائيل تسعى بقوة إلى إعاقة الجيش العراقي عن تقديم أي دعم متوقع إلى سورية والأردن في أي حرب مقبلة. وكانت إيران تعمل على إلهاء الجيش العراقي وإبعاده عن “شط العرب” وعن منطقة الأحواز الغنية بالنفط والمياه (راجع: جوناثان راندل، أمة في شقاق، مصدر سبق ذكره، ص 247). وجرى تأسيس منظمة خاصة في سنة 1958 لهذا الهدف هي “ترايدنت” التي ضمّت قادة الأجهزة الاستخبارية لإسرائيل وتركيا وإيران، وكانت غايتها مواجهة الحركة القومية العربية بقيادة جمال عبد الناصر والحركة الشيوعية في الوقت نفسه. ووجدت الأجهزة الاستخبارية للدول الثلاث أن أفضل مَن يقوم بمهمة إلهاء الجيش العراقي وإبعاده عن الجبهة الشرقية هو مصطفى البارزاني ومجموعاته القتالية. وفي هذه المذكرات تجاهل جلال الطالباني حكاية التعاون البارزاني – الإسرائيلي الذي بدأ في سنة 1951، ومرّ به مرورًا مواربًا وخجولاً بقوله: “تبيّن بأن الملا مصطفى قد أصبح متورطًا في علاقات مع إيران وإسرائيل وأميركا، وكانت الزيارة التي قام بها الدكتور محمد عثمان وإدريس البارزاني إلى أميركا ولقاؤهما رئيس المخابرات الأميركية سبباً في برودة علاقتنا مع الملا مصطفى” (ص 276). والثابت تاريخيًا ووثائقيًا أن رؤوفين شيلوّاح، وهو أول مدير للموساد (1951) كان أول من عقد صلات بالأكراد من أنصار البارزاني، وهؤلاء كانوا قد ساهموا مساهمة فاعلة في تهريب يهود العراق إلى إسرائيل في سنة 1950. وفي 1963، سافر إبراهيم أحمد، الأمين العام للحزب الديمقراطي الكردستاني، وهو والد هيرو زوجة جلال الطالباني، إلى باريس مبعوثًا من البارزاني ليلتقي ميناحيم نافوت (مندي) والسفير الإسرائيلي والتر إيتان. ومنذ ذلك اللقاء، بدأت المساعدات تتدفق على البارزاني كالأسلحة والذخائر والتدريب العسكري وإرسال المستشارين والخبراء الزراعيين والأطباء علاوة على إقامة مستشفى ميداني. وتولى يعقوب نمرودي (الملحق العسكري الإسرائيلي في طهران) منذ سنة 1965 نقل الأسلحة إلى جماعة البارزاني عبر مطار طهران. وأسّس الموساد في سنة 1966 جهاز الاستخبارات الكردي (الباراستين)، وتولى قيادة الجهاز مسعود البارزاني الذي خضع لدوراتٍ استخبارية في شمال العراق وفي إسرائيل (انظر، جوناثان راندل، مصدر سبق ذكره، ص 251-253). وكان عصمت شريف وانلي زار إسرائيل في سنة 1964 والتقى يعقوب هيرتزوغ المدير العام لوزارة الخارجية وشمعون بيريز وليفي أشكول. وساعد الملا مصطفى البارزاني الموساد في تأمين فرار الطيار العراقي منير روفا إلى إسرائيل بطائرة الميغ 21 في سنة 1966، وكان العقيد أوري ساغي مقيمًا في شمال العراق منذ سنة 1966، وكان يتردد على المنطقة الكردية من بين رجال الموساد مئير عميت وتسفي زامير ودافيد كيمحي وحاييم لافكوف وغيرهم. وبسبب هذه العلاقة الوثيقة نظّم النادي العسكري في تل أبيب في نيسان/ أبريل 1979 حفلاً تأبينيًا لمصطفى البارزاني حضره يتسحاق رابين ورئيسا الموساد السابق والحالي وعدد من ضباط الاستخبارات. وكان البارزاني توفي بسرطان الرئة في 1/3/1979 في مستشفى جورجتاون بواشنطن (جوناثان راندل، مصدر سبق ذكره، ص 243).
وقائع من التاريخ
يُخبرنا جلال الطالباني في مذكّراته أنه التقى الرئيس الليبي معمّر القذافي في عام 1975 فأخبره أن وزير خارجية العراق آنذاك، سعدون حمادي، التقى نظيره الإيراني عباس خلعتبري في إسطنبول، وأن الاتفاق بين العراق وإيران بات وشيكًا، وعلى الأكراد الاستعداد للمرحلة الجديدة. وبالفعل وُقّع اتفاق الجزائر بين العراق وإيران في 6/3/1975، فانهارت التشكيلات العسكرية الكردية التي كانت تقاتل الدولة العراقية في كردستان العراق بدعمٍ مكشوف من الشاه، وازداد انهيارها بعد إعلان الملا مصطفى البارزاني في 19/3/1975 حلّ جميع تشكيلاته العسكرية، والطلب من أعضاء حزبه العودة إلى العراق أو التوجّه إلى إيران. حينذاك، رفض الطالباني هذا الأمر، وبادر مع مجموعة من رفاقه إلى تأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني، وأُعلن البيان التأسيسي للاتحاد في مؤتمر صحافي عُقد في مقهى طليطلة بدمشق في 22/5/1975 (ص 327). وتلقى الاتحاد الدعم المالي والعسكري والسياسي من سورية وليبيا.
تكشف المذكّرات أن الطالباني هو من عرّف الخميني إلى الليبيين، وكانت النتيجة أن ليبيا أمدّت حركة الخميني بملايين الدولارات
وتكشف المذكرات بلسان الطالباني أن مصطفى جمران استولى على كميات كبيرة من الأسلحة التي أُرسلت إلى الاتحاد الوطني الكردستاني عبر سورية (ص 536)، وأن الرئيس السوري حافظ الأسد قدّم له في إحدى المرّات مائتي قطعة سلاح أُرسلت بالجو إلى إيران، فصادرها مصطفى جمران وقال للطالباني إنه منحها للباسدران الذين يقاتلون الجيش العراقي مثلكم (الباسدران تعني حرس الثورة الإسلامية). ودعم القذافي الاتحاد الوطني الكردستاني بالمال والسلاح، لكن الباسدران صادر السلاح. وبلغ مجموع ما استولى عليه الإيرانيون ثلاثة آلاف قطعة سلاح من سورية، وعشرة آلاف من ليبيا.
ومن مروّياته الطريفة أن “المجموعة المنافقة داخل السلطة الجديدة [في إيران] حاولت أن تعكّر صفو علاقتنا بالسوريين، فراحت تردّد أمام عبد الحليم خدّام أن هؤلاء الأكراد سُنّة، فلا تعطوهم الأسلحة الرشّاشة، بل المسدّسات فحسب، لأنهم سيستخدمونها ضد الشيعة. ولم يدركوا أن عبد الحليم خدّام سُنّي المذهب” (ص 536). وتكشف المذكّرات أن الطالباني هو من عرّف الإمام الخميني إلى الليبيين، وكانت النتيجة أن ليبيا أمدّت حركة الخميني بملايين الدولارات (ص 534). ومع ذلك، لم يتردّد الطالباني في التنديد بأعمال الخميني وإجراءاته ضد الشعب الكردي في إيران، وأعلن بجرأة: يجب ألا ننسى أن هذه الأعمال والإجراءات هي من طبيعة المذهب الذي يدين به الخميني والدين الذي آمن به (ص 567). لكن مام جلال تجاهل اغتيال عبد الرحمن قاسملو في فيينا في 13/7/1989 ربما لأن المتهم بتنفيذ هذه العملية هو محمود أحمدي نجاد الذي صار رئيسًا لإيران في سنة 2005.
خلاصة الكلام
أثارت مذكرات جلال الطالباني مواجع كثيرة في شأن العراق وأحواله. وهذه المواجع المتشعبة يمكن تكثيفها في نهاية المطاف بالكلام التالي: ليست القضية الكردية قضية الأكراد وحدهم، بل هي قضيتنا أيضًا كعرب، ولا يصدر هذا الكلام من باب التضامن وحده، بل من باب الواقع والواقعية السياسية والمصير المشترك. صحيح أن المسألة الكردية هي قضية الكرد أولاً وأخيراً، إلا أنها لن تُحلّ من دون العرب الذين يشتركون معهم في المكان والجوار والتاريخ والمصير. والأمر الواقع المفروض في شمال العراق منذ سنة 1992، وبحماية أميركية، لن يستمر طويلاً، ولا سيما أن تركيا وإيران من المحال أن تقبلا بدولة كردية مستقلة. وفي هذا الميدان، يجب أن نتنبه، عربًا وكردًا، إلى ما يفكّر به الإسرائيليون، وعلينا إنعام النظر طويلاً، ونستبصر في ما يقولونه. ففي المؤتمر السنوي لمعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في تل أبيب في 29/9/2014 وقف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ليقول: إن لإسرائيل مصلحة في قيام دولة كردية. وكرر نتنياهو موقفه هذا بصيغة أخرى في 13/9/2017 حين أعلن أن إسرائيل تدعم قيام دولة كردية. وكانت وزيرة العدل في إسرائيل، إيليت شاكيد، أكثر وضوحًا عندما صرّحت في مؤتمر للأمن القومي الإسرائيلي في يناير/ كانون الثاني 2016 إن من شأن قيام دولة كردية أن يفصل إيران عن تركيا، وأن يساعد إسرائيل في تعزيز أمنها القومي. وبسقوط الاستفتاء على الانفصال الذي نظمه مسعود البارزاني في 25/9/2017 كان واضحًا المستوى الهابط للتجربية السياسية لدى مسعود البارزاني، وتبيّن، إلا للعميان الواقفين على باب مسجد السليمانية، أن من قَبَر الانفصال ليس الأكراد في شمال العراق وحدهم، بل إيران وتركيا وروسيا بالدرجة الأولى. وكان من النتائج الفورية لذلك اقتحام الجيش العراقي والحشد الشعبي الطائفي مدينة كركوك المتنازع على هويتها وتبعيتها الإقليمية.
وفي خضم الأوهام القومية المنفوخة لدى بعض الأكراد مثل خريطة كردستان العظمى التي تمتد من إيران إلى البحر المتوسط شاملة في طريقها أراضيَ من سورية وروسيا وأرمينيا وتركيا، نفتقد حقًا رجلاً من طراز مام جلال الذي طالما تمتّع بالحكمة والبصيرة معًا، وكان دائمًا يرفض الانفصال، لأنه رآه وبالًا على الكرد لا حلاً لمشكلاتهم. وأخشى ألا يدرك أكراد سورية الدرس العراقي؛ فبعض الجماعات الكردية، والعربية أيضًا، تتحوّل إلى التعاقد مع الولايات المتحدة وجيشها واستخباراتها للقيام، بالنيابة عنها، بأعمالٍ منحطّة مثل الاتّجار بالنفط السوري المسروق، وبيعه هنا وهناك، خصوصًا في تركيا، وطرد العرب من بعض أماكن سكناهم، الأمر الذي يرفع، بمقدار خَطِر جدًا، منسوب العنصرية والعنصرية المضادّة. وما أخشاه أن يُقدّم الأميركيون رأس الكرد على طبقٍ من خشب إلى إيران وتركيا، كما قدّم هيرودوس رأس يوحنا المعمدان إلى سالومي ابنة هيروديا. حينذاك، وأرجو ألا يتحقّق ذلك إطلاقًا، سيخسر أشقاؤنا الكرد رؤوسهم جرّاء افتقار بعض قادتهم إلى ما يجب أن يكون مستقرًا، لا تحت عمائمهم، بل في دواخل رؤوسهم، أي الدماغ أو العقل. وستكون حالهم عند ذلك كحال العرب اليوم في العراق وسورية ولبنان: شعوب وشراذم طائفية من دون إرادة سياسية، وبلا بصيرة، ومساقون إلى مصائرهم بحسب ما يقرّره اللاعبون الكبار الآن، أي أميركا وإيران وتركيا وإسرائيل وروسيا. وما نعرضه على إخوتنا الكرد في سورية والعراق هو وطن واحد، مواطنون أحرار، المساواة والحرية والديمقراطية، واحترام الهوية الثقافية والتاريخية لكل إثنية التي من حقها تطوير ثقافتها وهويتها كما تريد وترغب من دون الاصطدام بشركائها في الوطن الحر والسيد والمستقل. لِنَسْتعِدْ شعار “وطن حر وشعب سعيد”.
العربي الجديد