معمر فيصل خولي
لم يتمكن رجب طيب أردوغان من حسم انتصاره ضد منافسه كمال كليجدار أوغلو في الانتخابات الرئاسية إلا بعد اجراء جولة انتخابية ثانية حسمت لصالحه. فقد شارك فيها نسبة 84%.
مما لاشك فيه أن هذه النسبة من النسب المرتفعة جدا في الانتخابات الرئاسية على مستوى العالم. فهناك من يرى أن مردها يعود إلى نضج الوعي السياسي لدى الشعب التركي بسبب وجود حياة حزبية مستقرة منذ عقود، لذلك يقع على عاتق تلك الأحزاب والمجتمع المدني التركية المشاركة في اختيار من سيحكمهم لمدة خمس سنوات قادمة.. نعم، نسبة المشاركة ملفتة جدا وقد لانراها في انتخابات سواء كانت رئاسية أو نيابية في أعرق الديمقراطيات الغربية، وهذا أمر صحيح، ليس لغياب الوعي السياسي لدى شعوب تلك الديمقراطيات وأن أمر الانتخابات لا يعنيها، لا، الأمر ليس على هذا النحو.
بل يمكن القول إن تلك الديمقراطيات استقرت منذ قرون وخاصة منذ القرن العشرين في دولها على شكل النُظم السياسية والقيم الاقتصادية والقومية المؤمنة بها، بحيث غدت الانتخابات الرئاسية أو النيابية في تلك الديمقراطيات عبارة عن تنافس بين برامج حزبية، فالمنتصر في تلك الانتخابات لن يغير بهوية الدولة وسياساتها الداخلية والخارجية بشكل جذري.
وهذا أمر يكاد يكون مفقود في الانتخابات الرئاسية التركية التي جرت جولة الإعادة الثانية لها قبل أيام،، ومن هنا أيضًا جاءت نسبة المشاركة المرتفعة في الجولة الأولى ما يقارب 89% والثانية 84%، وما أدل على ذلك النسبة التي حصل عليها كل من رجب طيب أردوغان على “52.11%”، بينما حصل كمال كليجدار أوغلو على ن (47.89%). هذا التقارب الكبير في نتيجة التصويت ما هو إلا مؤشر على حالة من الاستقطاب الشديد بين رؤيتين متناقضتين في إدارة الدولة التركية على المستويين الداخلي والخارجي، الأمر الذي يعني أن المجتمع التركي منقسم وليس متوافقا ولو بشكل نسبي على العديد من المسائل المجتمعية أولّا، كارتداء الحجاب مثلا.
فمن صوت للرئيس رجب طيب أردوغان، مقتنع بما يطرحه في المسائل التي تتعلق بالتاريخ القومي والثقافة والهوية التي يريد حزب العدالة والتنمية إعادة إحياءها، كبناء الجوامع وخاصة في عاصمة الدولة العثمانية ” اسطنبول”- علمّا بأن هذه المدينة ليست بحاجة إلى بناء الجوامع كونها تزخر بها منذ عهد الدولة العثمانية، وإنما للتأكيد على هوية تركيا الإسلامية-، ومحاربة ” المثلية”، كما أنه مقتنع في الإبقاء على النظام الرئاسي الذي اعتمد في عام 2017م في جمهورية تركيا، كونه يشكل ركيزة أساسية في استقرار الدولة التركية.
بينما من صوت لكمال كليجدار أوغلو يرون أنفسهم على النقيض تماما من تلك الطروحات، فعلى سبيل المثال لا الحصر فهم يرون بعلمانية كمال أتاتورك التغريبية كهوية لتركيا في الماضي والحاضر والمستقبل ولا بديل عنها، ويرون أيضًا لا سيما أعضاء تحالف الطاولة السداسية في العودة إلى النظام الجمهوري النيابي بدلا من الرئاسي.
هذا الاستقطاب الشديد بين ما يمثله رجب طيب أردوغان وأنصاره وبين كمال كليجدار أوغلو وأنصاره لا يخدم المجتمع التركي، لاسيما وهو الآن يبني ديمقراطيته الناشئة في مرحلة ما بعد وصاية المؤسسة العسكرية التركية على النظام السياسي، كما أنّ هذا الاستقطاب الذي يتسم بالاقصائية من قبل أنصار كمال كليجدار أوغلو لا يعود بالنفع على حاضر ومستقبل تركيا، لأنه قد يمهد الطريق من جديد لعودة القلق الاجتماعي الذي خبرته تركيا في سبعينيات القرن الماضي بين الأحزاب اليسارية واليمينية، -ومن رحم هذا القلق نشأ حزب العمال الكردستاني- وانعكست بشكل سلبي على الواقع التركي آنذاك.
ولكي لا يعاد انتاج القلق الاجتماعي في مجتمع متنوع قوميا ومذهبيا كالمجتمع التركي يجب على النظام السياسي التركي بشقيه الحكومي وغير الحكومي، وهو يستعد للاحتفال بمئوية الدولة التركية أن يتبنى نقاشا عقلانيا للوصول إلى اتفاق على مبادىء عامة تأخذ بعين الاعتبار التطورات التي شهدتها تركيا خلال مئة عام الماضية ولا سيما في العقدين الماضيين لتبني عليها القواسم المشتركة لحاضر ومستقبل، فتركيا عام 1923م التي فرضت عليها مبادىء الكمالية، ليس هي تركيا عام 2023م.
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية