سوريا والعراق.. اشتباك المصالح وصراع الكبار

سوريا والعراق.. اشتباك المصالح وصراع الكبار

580

تبدو الصراعات في تفاقم بعد إسقاط تركيا لطائرة سوخوي 24 الروسية، حيث طوّرت روسيا وجودها العسكري في سوريا، وهددت تركيا بعواقب وخيمة، وما زالت تواصل تهديداتها، رغم أن بوتين قال إنه لن يلجأ إلى الحرب.

ورغم مساعي التهدئة التركية ومحاولة الالتفاف على الاعتذار من خلال الادعاء بأنها لم تكن تعرف مرجعية الطائرة -رغم أنها في خطابها الأول أوضحت بشكل جلي أنها تعرف أنها طائرة روسية- وأنها استخدمت “قواعد الاشتباك” بعد أن نبهت روسيا بعد اختراق سابق لأراضيها.

ربما يشير تفاقم الصراع بين الطرفين إلى حساسية علاقة كل منهما بسوريا، حيث يريد كل منهما السيطرة. وإذا كانت تركيا قد عملت على التشويش على السياسات الأميركية الروسية التي كانت تبدو متوافقة معها على الحل في سوريا، بعد أن ظهر لها أن أميركا “تبيعها”، فقد استفادت من التدخل العسكري الروسي وارتباك الموقف الأميركي الذي لم يكن يريد سياسة فرض الأمر الواقع بالقوة، رغم أن أميركا عملت أصلا على أن تكون سوريا لروسيا في إطار التقاسم العالمي.

لهذا وافقت تركيا بعد التدخل الروسي على دخول التحالف ضد داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، والسماح لأميركا باستخدام قاعدة إنجرليك لانطلاق طيرانها الذي “يضرب” داعش. وتشددت في مواجهة التدخل الروسي مستغلة اختراق مجالها الجوي لكي تفرض حدودا للتدخل الروسي، وتردع استهدافها ريف اللاذقية الذي يسكنه تركمان اعتبرت تركيا أنها مسؤولة عنهم.

ومع كل ما جرى فإن موسكو ما زالت تميل إلى التصعيد رغم وقوف الناتو مع تركيا، والدعم الأميركي المباشر لها كذلك. وهذا ما يطرح سؤالا جوهريا حول أهداف روسيا الحقيقية، وما يمكن أن يصل إليه الوضع على ضوء ذلك؟

المشكلة هنا تتمثل في أن التبادل التجاري بين البلدين كبير، وكلاهما خاسر بعد العقوبات الروسية. كما أن تركيا كانت المتنفس الذي يسمح لروسيا بكسر الحصار الأوروبي على تصديرها النفط والغاز، حيث كسرت تركيا حسابات أميركا خصوصا الهادفة إلى حصار روسيا بمنع وصول النفط والغاز إلى أوروبا بعد أزمة أوكرانيا التي قادت إلى فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، وأفضت إلى وقف تصدير النفط والغاز عبر أوكرانيا، وبالتالي خسارتها السوق الأوروبي الذي كان أساسيا لاقتصادها.

وقد جرى التوقيع مؤخرا على مدّ خط أنابيب غاز إلى تركيا، على أساس أن تصدّر فيما بعد إلى أوروبا. إضافة إلى أن روسيا هي المصدر الأساسي للنفط والغاز التركي.

في هذه المعادلة يمكن لتركيا تعويض مستورداتها من النفط والغاز، وإنْ كان ذلك يفرض سعرا أعلى بشكل ما، لكن ستكون خسارة روسيا أكبر لأنها المحتاجة إلى طريق تصدير بعد توقف “الخط الأوروبي”. بالتالي، فما تفعله روسيا هو زيادة تضييق الحصار المفروض عليها، وهو أمر لافت، وربما يشير إلى عنجهية تتضخم دون أي حساب عقلاني. ورغم أنها استبعدت الحرب منذ البدء فإن ما تفعله ربما يوصل إلى الحرب، حيث تشعر بأن اللحظة تمثل فرصة لها للسيطرة على سوريا، وعليها أن تبعد كل المنافسين، وتركيا هي الأخطر هنا.

في هذا المسار نلمس تفاقما في حدة الصراع. لكن يبدو أن الأمر بات أوسع من تركيا وروسيا، حيث دفع التدخل العسكري الروسي أميركا إلى تغيير تكتيكها “في مواجهة داعش”، ليظهر أنها تتقدم لحسم الصراع ضد التنظيم.

وقد لعبت روسيا بوضع العراق حين أعلنت أنها تسعى للتدخل ضد داعش هناك، وقامت بتشكيل “تحالف أمني” مع كل من النظام العراقي والسوري والإيراني كمقدمة لتكوين تحالف عسكري “ضد داعش”.

وفي سوريا باتت داعش هي المشجب الذي يستخدمه الروس لسحق الثورة وفرض بقاء بشار الأسد رئيسا، وأداة لها. لهذا تغيرت الإستراتيجية الأميركية بحيث باتت معنية بتوسيع الصراع ضد داعش، فقررت إرسال قوات عسكرية “صغيرة” إلى العراق، وكذلك إلى سوريا، وأيضا بدأت تطرح فكرة إرسال قوات عربية برية لمحاربة داعش، وساعدت بدخول قوات تركية إلى شمال العراق، لأن هزيمة داعش تستوجب “قوات على الأرض” وليس الاكتفاء بالطيران كما جرى في عام وثلاثة أشهر.

لقد قررت إرسال قوات إلى العراق، وهذا ما استثار إيران والحشد الشعبي التابع لها، ورفض رئيس الوزراء ذلك رغم إعلان أميركا أن الحكومة العراقية وافقت على ذلك.

هنا نلمس أن توترا يمكن أن يحدث، حيث يظهر الآن أن أميركا تريد “وجود قوات لها على الأرض”، لكنها أيضا تريد تدخل “قوات عربية” في سوريا. ماذا سيكون رد الفعل الروسي من جهة والإيراني من جهة أخرى؟

ما تفعله أميركا يمكن أن يقود إلى صدام مع الحشد الشعبي (واجهة إيران) في العراق، وبالتالي يمكن أن يتطور إلى صدام مع إيران ذاتها، لأنها لا تريد خسارة العراق، وستكون نتيجة التدخل العسكري الأميركي هي فرض “نظام تابع” لأميركا بدل النظام القائم والتابع لإيران.

ليس هذا فقط ما تريده أميركا أصلا منذ أن أعلنت “الحرب ضد داعش”، بل كان هدف الحرب هو إعادة السيطرة على النظام في بغداد، لأنها تعتبر أن العراق جزء من دول الخليج التي يجب ألا تخرج عن دائرة النفوذ الأميركي، ولذا يجب إبعاد إيران، وهو ما لن يتحقق إلا بوجود قوات برية.
لقد كانت خطتها تتمثل في إبقاء ما بين عشرة و15 ألف جندي في العراق، لكنها اضطرت إلى الانسحاب في “لحظة ارتباك إستراتيجي”، وهي الآن تعود لكي تفرض إستراتيجيتها بحجة الحرب ضد داعش.

ماذا سيكون رد فعل إيران؟ هل ستندفع لدخول الحرب ضد أميركا؟ الظاهر هنا هو أن التوتر يتزايد أيضا، وأن الصراع على السيطرة على العراق يشتدّ. ولا شك في أن إيران ستكون مدعومة من روسيا التي تريد السيطرة، وتجد في تركيا خطرا فيما يتعلق بسوريا، وأميركا فيما يتعلق بالعراق.

وهذا الأمر مرتبط كذلك بالتدخل الأميركي المباشر في سوريا، ودعمها دخول “قوات عربية” لحسم الحرب “ضد داعش”. حيث سيفرض ذلك ردّ فعل روسي، لأن هذا التدخل سوف يمنع روسيا من حسم الصراع لمصلحة النظام، وبالتالي لمصلحتها.

إذن، فروسيا تحاول تطوير الصراع ضد تركيا، وأيضا ضد الثورة عبر زيادة القصف الذي يطال المدنيين، وتعمل على الرد على إسقاط الطائرة. وهو أفق مفتوح لتفاقم الصراع، ربما يوصل إلى صدام. لكن سيكون الدور الأميركي الجديد في سوريا والعراق رادعا لروسيا، لكنه كذلك محرّض لتشدد أكبر، حيث سيقود إلى إفشال إستراتيجيتها القائمة على السيطرة على سوريا، والتدخل في العراق. هل سيؤدي ذلك إلى احتفاظ روسيا بالساحل السوري، حيث فرضت وجودها العسكري المتطور؟ أو تسير الأمور نحو الصدام، رغم خطر ذلك بين دول تمتلك قنابل ذرية يمكن أن تهلك الكرة الأرضية برمّتها؟

طبعا هذه النتيجة تشي بشكل من أشكال تقسيم سوريا. في العراق سوف تفرض أميركا سيطرتها على المنطقة الغربية، وستأتي هذه المرة كـ “محررة” بعد أن كانت المنطقة الأكثر مواجهة للاحتلال الأميركي. هل سيؤدي هذا الدور إلى صدام مع إيران؟ ربما، لكن أميركا هنا معنية بكل العراق، ولا تقبل السيطرة على المنطقة الغربية فقط، لذا ربما تنجرّ إيران إلى حرب تهلكها. هل سيتدخل الروس؟

أظن أن الأمر صعب كثيرا نتيجة خطر الانزلاق لحرب نووية، ولذا ربما أيضا تكون المساومة هي الحل عبر توافق أميركي روسي على تقاسم العراق وسوريا، بحيث تسيطر أميركا على العراق وروسيا على سوريا.

هدف أميركا الآن هو إضعاف الحشد الشعبي، وإنهاء تدخل إيران في العراق، وفرض نظام تابع لها هي، مع وجود عسكري دائم كما كان مقررا بعد احتلاله. وهدفها في سوريا يتمثل في سحب كل الأوراق من روسيا لكي تعود إلى “طاولة المفاوضات”، حيث كانت أميركا مقرة أصلا بالدور الروسي في سوريا. لكن دون عنجهية تنطلق من أنها قادرة على فرض مصالحها بالقوة، دون حاجة إلى “تنازل” أميركي يفرض عليها التنازل في مناطق أخرى.

في كل الأحوال تندفع الأمور بالمنطقة نحو مزيد من التوتر، ويسعى كل طرف لفرض وقائع تجبر الطرف الآخر على القبول بها. هل تفلت عملية الشدّ هذه؟ ربما، رغم حرص كل الأطراف على عدم الوصول إلى لحظة الحرب، لكن عنجهية بوتين ربما لا تسمح بتوقع ما، فهو التعبير المكثف عن أزمة روسيا التي باتت إمبريالية دون أن يكون لها مناطق نفوذ في العالم. هذه الحالة قادت إلى الفاشية والنازية، فإلى أين ستقود الآن؟

المشكلة هنا تتمثل في أن روسيا متأزمة نتيجة تأخرها في السعي للسيطرة والهيمنة لتحقيق مصالحها. وهي تواجه تنافسا كبيرا من إمبرياليات متعددة، ومن دول إقليمية تريد التحوّل إلى أن تكون دولا إمبريالية.

الوضع يزداد توترا، ربما ينزلق نتيجة عنجهية بوتين إلى حرب كبيرة، وربما أن ما يجري يعيد الرشد لروسيا بوتين فيقبل القسمة التي يسمح بها الوضع العالمي الراهن. فسوريا لها، لكن ليس لها العراق. وهي معنية بأن تقبل ما يمكن في إطار التساوم مع أميركا، أو تنجرف لحرب “أفغانية” جديدة، لن تخرج منها إلا منهكة.

إن وضع روسيا لا يسمح بأن تكون موازية لأميركا بعد، وربما لن يكون ذلك أيضا، فـ العالم يتجه نحو وضع ثوري لن تكون أميركا ولا روسيا صاحبة اليد الطولى فيه.

سلامة كيلة

الجزيرة