يتخذ مسار الأحداث في السودان منعطفا خطيرا منذ قرار الجيش تعليق مشاركته في مفاوضات جدة، والذي أعقبه قرار لواشنطن والرياض بتجميد تلك المحادثات، في ظل شعور الوسيطين بالإحباط. ويرى متابعون أن الإشكال الأساسي يكمن في أن الجيش السوداني يعتقد أنه يملك القدرة على قلب الموازين على الأرض، وهو اعتقاد سيدفع ثمنه السودانيون باهظا.
الخرطوم – تتجه الأوضاع في السودان إلى الأسوأ مع احتدام القتال الجمعة في أعقاب انهيار الهدنة بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني الذي استقدم تعزيزات إلى العاصمة، غداة فرض واشنطن عقوبات على طرفي النزاع.
ويرى مراقبون أن قيادة الجيش السوداني تتحمل المسؤولية الأكبر عن حالة الانسداد الراهنة، برهانها على العمل العسكري وإجهاض جهود الوسطاء في حلحلة الأزمة، محذرين من أن هذه القيادة المسكونة بهوس السلطة تجر البلاد إلى حرب طويلة الأمد.
وأفاد شهود عيان بسماع “أصوات قصف مدفعي في محيط مبنى الإذاعة والتلفزيون” في ضاحية أم درمان.
الجيش السوداني يعتزم شن هجوم واسع قريبا ضد قوات الدعم السريع، ولهذا انسحب من المفاوضات في جدة
وتشهد الخرطوم ومناطق أخرى في السودان معارك عنيفة منذ 15 أبريل بين الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”.
وأودت المعارك بحياة أكثر من 1800 شخص، بينما أفادت الأمم المتحدة بأن أكثر من 1.2 مليون شخص نزحوا داخليا ولجأ أكثر من نصف مليون شخص إلى الخارج.
وتوصل الجانبان إلى أكثر من اتفاق تهدئة، كان آخرها خلال مباحثات في مدينة جدة بوساطة سعودية – أميركية. لكن سرعان ما ينهار الاتفاق وتتجدد الاشتباكات خصوصا في الخرطوم وإقليم دارفور غربيّ البلاد.
وفي ما يبدو تمهيدا لتصعيد إضافي محتمل في أعمال العنف، أعلن الجيش الجمعة استقدام تعزيزات للمشاركة “في عمليات منطقة الخرطوم المركزية”.
وأشارت المحللة السودانية خلود خير، من مركز “كونفلوانس أدفايزوري” ومقره في الخرطوم، إلى أن الجيش يعتزم “شن هجوم واسع قريبا (ضد قوات الدعم)، ولهذا انسحب” من المفاوضات في جدة.
وأعلن الجيش الأربعاء تعليق مشاركته في المباحثات المستمرة منذ أسابيع، متهما قوات الدعم بعدم الإيفاء بالتزاماتها باحترام الهدنة والانسحاب من المستشفيات ومنازل السكان.
وبعدما حمّلت طرفي النزاع مسؤولية انهيار الهدنة والمباحثات في جدّة، أعلنت واشنطن الخميس فرض عقوبات على شركات وقيود على تأشيرات الدخول لمسؤولين على ارتباط بطرفي النزاع.
وتستهدف العقوبات الاقتصادية العديد من الشركات في قطاعات الصناعة والدفاع والتسلح، من بينها شركة “سودان ماستر تكنولوجي” التي تدعم الجيش.
وبالنسبة إلى قوات الدعم فرضت واشنطن عقوبات على شركة الجنيد للمناجم التي تدير عدة مناجم ذهب في إقليم دارفور وتوفّر تمويلا للقوات.
ويشكك محللون في جدوى العقوبات الأميركية على الطرفين اللذين يمسكان بمفاصل التحايل عليها كما جرى في ظل العقوبات الدولية خلال حقبة الرئيس السابق عمر البشير الذي حكم البلاد لثلاثة عقود قبل أن يطيح به انقلاب عسكري في عام 2019.
وقال مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جايك ساليفان الخميس إن “حمام الدم” في الخرطوم ودارفور “مروّع”.
وأشار ساليفان إلى أن خرق الهدنة الأخيرة “زاد مخاوفنا من نزاع طويل الأمد ومعاناة كبيرة للشعب السوداني”.
ومنذ بدء أعمال العنف لم يحقق أي من الجانبين تقدما ميدانيا ملموسا على حساب الآخر أو خرقا في موازين القوى.
ورأت المحللة خلود خير أن الجيش يرغب في تحقيق “بعض المكاسب العسكرية قبل الالتزام بأي محادثات مستقبلية بهدف تحسين موقعه” على طاولة المفاوضات.
وبُعيْد إعلانه تعليق مشاركته في مباحثات جدة، قصف الجيش بالمدفعية الثقيلة الأربعاء مواقع لقوات الدعم السريع في جنوب الخرطوم.
وطال القصف سوقا شعبية، ما أدى إلى مقتل 18 شخصا من المدنيين، وفق ما أفاد به محامو الطوارئ الأربعاء.
وهدفت مباحثات جدة إلى توفير ممرات آمنة تتيح للمدنيين الخروج من مناطق القتال وإيصال مساعدات إنسانية، وكان من المفترض أن تناقش مسألة وقف إطلاق نار دائم، قبل أن يجري تعليقها.
وفرّ مئات الآلاف من السودان إلى دول الجوار، ومنها تشاد الحدودية مع إقليم دارفور.
ونقلت منظمة “أطباء بلا حدود” الجمعة عن لاجئين إلى تشاد قولهم إن “مسلحين كانوا يطلقون النار على الأشخاص الساعين للفرار… وإن قرى تعرضت للنهب، وجرحى توفوا جراء إصاباتهم”.
وحذّر منسق الطوارئ في المنظمة كريستوف غارنييه من أن بدء موسم الأمطار يهدد بمصاعب إضافية.
وقال “مع بداية موسم الأمطار ستزيد سوءا ظروف الحياة غير المستقرة أساسا في المخيمات العشوائية، وسيعقّد فيضان الأنهر إمكانية التحرك والتموين”.
ومن المقرر أن يبحث مجلس الأمن الدولي مساء الجمعة مصير بعثة الأمم المتحدة إلى السودان التي تنتهي مهمتها السبت.
وشدد المدير القطري للمجلس النرويجي للاجئين وليام كارتر على الحاجة إلى “قيادة إقليمية وقارية لحلّ الأزمة”.
وأشار إلى أن الإمارات العربية المتحدة التي تتولى حاليا الرئاسة الدورية للمجلس، إضافة إلى الدول الأفريقية الأعضاء (الغابون وغانا وموزمبيق) “تتمتع بقدرة تأثير استثنائية بشأن التوجه الذي سيسلكه المجلس في هذا الشأن”.
مباحثات جدة هدفت إلى توفير ممرات آمنة تتيح للمدنيين الخروج من مناطق القتال وإيصال مساعدات إنسانية، وكان من المفترض أن تناقش مسألة وقف إطلاق نار دائم، قبل أن يجري تعليقها
وقال حزب الأمة القومي في السودان الجمعة إنه لا خيار أمام الجيش وقوات الدعم السريع سوى الجلوس إلى طاولة التفاوض لإنهاء الحرب.
وأكد في بيان “أنه لا خيار أمام المتقاتلين سوى الجلوس إلى طاولة التفاوض للوصول إلى حل ينهي الحرب اللعينة وتجنيب البلاد المزيد من الخراب وضياع الأنفس”.
وجدد الحزب (ضمن الائتلاف الحاكم السابق) “موقفه الرافض للحرب”، مؤكدا “ضرورة ممارسة المزيد من الضغط لإيقافها في أسرع وقت ممكن”.
وطالب طرفي النزاع بـ”ضرورة الالتزام بتعهداتهما الموقعة في جدة، والعودة إلى طاولة الحوار والالتزام بوقف إطلاق النار والعمل على حماية المدنيين”.
وتواجه أعمال الإغاثة مصاعب جمّة منها غياب الممرات الآمنة وعرقلة الجمارك للمساعدات التي تصل جوّا وعدم منح العاملين الأجانب تأشيرات دخول لتعويض نقص المحليين الذين اضطروا إلى النزوح أو الاحتماء بمنازلهم.
كما تستمر أعمال النهب والسرقة خصوصا التي تطال مقار ومخازن المنظمات الأممية.
وأدانت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي الخميس “أعمال نهب أصول وأغذية برنامج الأغذية العالمي التي تجري الآن في الأبيض (شمال كردفان)”، مضيفة عبر تويتر “تعرضت مستودعاتنا للهجوم، والغذاء الذي يكفي 4.4 مليون شخص معرض للخطر”.
وبحسب الأمم المتحدة بات السودان، الذي كان من أكثر دول العالم معاناة حتى قبل النزاع، أمام وضع “كارثي”، في ظل خروج ثلاثة أرباع المستشفيات عن الخدمة، فيما يحتاج 25 مليون نسمة (أكثر من نصف السكان) إلى مساعدات إنسانية.
وأكدت المنظمة الدولية أنها لم تحصل إلا على 13 في المئة من مبلغ 2.6 مليار دولار تحتاجه.
العرب