القاهرة – أسهمت الحالة الحرجة التي يمر بها الاقتصاد المصري في تزايد التقديرات المتشائمة حوله، وسط تحذيرات من أن البلاد قد تشهد انهيارا مصرفيا مع تصاعد أزمة الديون مقابل بطء ملحوظ في معدل الإصلاح.
يأتي هذا في وقت يقلل فيه خبراء مصريون من هذه التوقعات ويرون أن الوضع ليس في غاية السوء ويمكن إنقاذه عبر إصلاحات جديدة.
وتوقف الباحث الاقتصادي ماجد مندور في تحليل له نشر مؤخرا في موقع “عرب دايجست” عند خفض وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في السابع عشر من مايو الماضي التصنيف الافتراضي طويل الأجل للمصدر المصري وتصنيفات القدرة على الاستمرار درجة واحدة من “ب+” إلى “ب” لأربعة بنوك مصرية كبرى.
وأشار إلى أن التصنيف الافتراضي طويل الأجل للمصدر هو لقياس مخاطر التخلف عن سداد الكيانات المعنية، بينما تُعتمد تصنيفات القدرة على الاستمرار لتقييم قدرة الجهة المالية على البقاء والازدهار في المدى الطويل.
وذكر ماجد مندور أن التخفيض في التصنيف الائتماني تزامن مع اتساع عجز صافي أصول مصر الأجنبية في مارس الماضي بنحو 1.47 مليار دولار، ليتجاوز 24.46 مليار دولار مقابل نحو 23 مليار دولار سُجّلت في فبراير الماضي، وكان العجز المذكور يدل على زيادة ضعف القطاع.
ولفت إلى أن تفاقم العجز جاء بسبب ضعف الاحتياطيات الوطنية من العملات الأجنبية التي بلغت 32.4 مليار دولار في مارس 2023.
وتعدّ هذه الاحتياطيات المورد الرئيسي الذي يمكن للحكومة أن تعتمده للوفاء بالتزامات ديونها ولإنقاذ البنوك المصرية، إذا فشلت في الوفاء بالتزاماتها بالعملة الأجنبية، ويزداد الوضع تعقيدا بوجود نقطة ضعف أخرى لم تُعتبر عاملا في تخفيض فيتش للتصنيف الائتماني رغم أن الوكالة ألمحت إليها في التقرير.
وتكمن في حوالي 11 مليار دولار من سندات الخزانة المملوكة لغير المقيمين، وهو ما يعرف عادة باسم “الأموال الساخنة”، وستكون العواقب كارثية إذا حدثت هجرة جماعية لهذه الاستثمارات، كتلك البالغة 20 مليار دولار التي حدثت في مارس 2022 بسبب الحرب في أوكرانيا التي عجلت بأزمة الديون.
لكن الخبير المصرفي السابق في بنك مصر ياسر عمارة كشف في تصريح لـ”العرب” أن خفض التصنيف لعدد من البنوك المصرية لم يحدث لسوء الأداء أو الموقف المالي، لكنه جاء كتابع للنظرة الائتمانية السلبية للدولة، وهو إجراء لا يستهدف هذه البنوك لإبراز أزمة مصرفية.
وأضاف “ما يؤكد أن البنوك المصرية لن تتعرض لبوادر أزمة أن أسهم القطاع المصرفي في البورصة المصرية، ومنها البنك التجاري الدولي، لم تشهد تذبذبات، ولم تكن هناك ردود أفعال سلبية بعد هذا التصنيف، على عكس الحال في دول تشهد أزمات مصرفية أو إفلاس بعض البنوك فيها”.
ولدى البنوك المصرية احتياطيات كاملة، ويزيد متوسط معدل كفاية رأس المال على 20 في المئة، وهي نسبة أكبر من المطلوبة في معدلات “بازل”، وفق اتحاد المصارف العربية، ولذلك من المستبعد حدوث أزمات مصرفية في مصر.
ويعرف معدل كفاية رأس المال بأنه نسبة رأسمال البنك إلى مخاطره، وهو مصطلح يوضّح العلاقة بين مصادر رأسمال المصرفي والمخاطر المحيطة بالأصول وأيّ عمليات أخرى، وتعتبر نسبة كفاية رأس المال أداة لقياس ملاءة المصرف، أي قدرته على تسديد التزاماته ومواجهة خسائر قد تحدث في المستقبل.
وأوضح عمارة أن مصر تخطت مرحلة المخاطر بشأن الأموال الساخنة، فمنذ خروج نحو 22 مليار دولار عقب الأزمة الروسية – الأوكرانية استوعبها اقتصاد البلاد، كما أن القاهرة لم تعد تعول على هذه الأموال، بدليل أن مجلس النواب المصري وافق مبدئيًا قبل أيام على إلغاء إعفاء عوائد أذون الخزانة والسندات التي يستثمر فيها الأجانب من الضرائب، وهي رسالة مفادها أن “الأموال الساخنة لم تعد أداة أساسية لجذب الأجانب”.
71 في المئة مجموع الحصيلة الضريبية من الإيرادات المتوقعة والتي تبلغ قيمتها نحو 50 مليار دولار
وقال ماجد مندور إن خفض التصنيف تزامن مع مرحلة قد تتعمق فيها أزمة الديون مع تصاعد الضغوط من حلفاء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وعدم ظهور مساعدات مالية في الأفق، مشيرا إلى أن حلفاء النظام المصري الخليجيين قد اتفقوا على موقف موحد يتطلب أن تلتزم القاهرة بثلاثة شروط رئيسية قبل تلقيها المساعدة.
الأول: تخفيض قيمة الجنيه، وهو طلب منطقي لأن الخليج المشتري الأساسي للأصول التي تملكها الدولة وأن تخفيض قيمة العملة يجعل هذه الأصول أرخص.
والثاني: إجراء تغيير في المسؤولين عن إدارة الاقتصاد المصري، ويعد هذا هجوما مباشرا على سياسة النظام الاقتصادية، لكون الإدارة شديدة المركزية.
والثالث: إنهاء ما يسمى بـ”عسكرة الاقتصاد”، وهو ما يراه ماجد مندور بعيد المنال اليوم، في ظل عدم اتخاذ خطوات ملموسة منذ بدء الأزمة.
وكانت عواقب تباطؤ معدل الإصلاح كبيرة، ولم يحدث تقدم كبير منذ أن أعلنت الحكومة عن بيع 32 شركة مملوكة للدولة، مع مطالبة دول الخليج بتحييد الجهاز العسكري عن الاقتصاد قبل الشراء من الأصول المملوكة للدولة.
وأشار مندور إلى أن النظام المصري يأمل أن يتدخل المجتمع الدولي لدرء انهياره الكامل، وقد انعكس هذا المنطق بوضوح في موازنة العام المقبل التي تفترض أن المصدر الرئيسي للإيرادات العامة سوف يأتي من القروض، بحصة تقدر بنحو 49.2 في المئة من الموازنة، بينما تشكل الضرائب 35.2 في المئة من موازنة الدولة.
وتعول السلطات المصرية على حصيلة الضرائب خلال العام المالي المقبل لتلبية مصروفات الموازنة العامة للدولة، إذ تستحوذ الحصيلة الضريبية على أكثر من 71 في المئة من الإيرادات المتوقعة والتي تبلغ قيمتها نحو 50 مليار دولار.
ومن المتوقع أن تنمو الإيرادات الضريبية المتوقعة في العام المالي الجديد بنحو 27.8 في المئة مقارنة بموازنة العام المالي الجاري، وفقاً للبيان المالي لمشروع الموازنة الجديدة، وتتنوع حصيلة الضرائب في البلاد بين ضرائب عامة وضريبة على القيمة المضافة وضريبة جمركية.
وفي رأي مندور أن هذا المحدد يعني استمرار توافر مصادر التمويل الخارجية، على الرغم من الصعوبات الحالية التي يواجهها النظام في التماس الإعانات الدولية، ويأتي ذلك في وقت احتلت فيه مصر المرتبة الثالثة بين الدول المهددة بالتخلف عن سداد ديونها الخارجية، بعد غانا وأوكرانيا، وفقا لوكالة بلومبرغ.
ويجعل هذا الأمر من عملية استمرار التمتع بالتدفقات النقدية الدولية الوافدة مجرد أمنيات في ظل الظروف الحالية الصعبة. وأضاف مندور أن النظام لا يواجه أزمة ديون سيادية فقط، بل أزمة مصرفية أيضا، ما يجعله يواجه وضعية ضعف فريدة من نوعها.
وإذا كانت البنوك الكبرى غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها، فلن تتمكن الدولة من التدخل لدعم البنوك، لأن النظام لا يملك ببساطة احتياطيات كافية من العملات الصعبة في خزائنه لتحقيق ذلك، ووصوله إلى السيولة السريعة لضمان الإنقاذ محدود، وهو أمر كارثي للقطاع المصرفي، ويمكن أن يؤدي إلى انهياره أو قطعه عن الأسواق المالية الدولية.
وسوف يزيد هذا من تعميق أزمة الاقتصاد المصري، ما يتطلب تدخلا دوليا فوريا، وهذا السيناريو قد يصبح أكثر احتمالا مع عدم حل أزمة الديون السيادية، وعواقبه ستكون وخيمة على الاقتصاد والمواطنين.
وباستثناء احتمال ضئيل لإقامة خط تبادل العملات مع نظام الاحتياطي الفيدرالي، لا يوجد طريق آخر سوى حزمة إنقاذ أخرى من صندوق النقد الدولي، بقيمة أكبر بكثير وشروط أكثر صرامة، والتي من المرجح أن يحاول النظام تجنبها.
27.8 في المئة نسبة النمو المتوقعة للإيرادات الضريبية مقارنة بموازنة العام المالي الجاري
في المقابل، أكد خبير الاستثمار المصري عادل سلامة أن مصر قطعت شوطًا في بيع الشركات الحكومية، والتابعة للقوات المسلحة، حيث تخلصت من حصص كبيرة في شركتي المصرية للاتصالات وباكين من خلال بيع نسب لمستثمرين محليين وعرب وأجانب.
وأوضح في تصريح خاص لـ”العرب” أن المستثمرين العرب ملتزمون بضخ الاستثمارات والتعهدات التي أعلنوا عنها أمام صندوق النقد الدولي، ويتضح ذلك من التصريحات المتكررة لبعض المسؤولين في دول الخليج بشأن حرصهم على الاستثمار في مصر.
ورغم الانتقادات الموجهة للحكومة، وبشكل خاص للمجموعة الاقتصادية، إلا أنها هي من رتبت إستراتيجية ضخ الاستثمارات العربية المرتقبة عبر الجولات التي قامت بها في الفترة الماضية، وهي أيضا من تفاوضت ولا تزال تتفاوض مع صندوق النقد.
وخطا الجيش المصري خطوات جادة في الخروج من النشاط الاقتصادي عبر طرح عدد من شركاته للبيع، في مقدمتها صافي ووطنية، وبدأت بعض بنوك الاستثمار التجهيز لبيع الشركتين، لكن يتطلب ذلك وقتا للاتفاق مع المستثمرين العرب أو الأجانب للوصول إلى سعر يتوافق عليه الطرفان.
واستبعد عادل سلامة في تصريحه لـ”العرب” تخلف مصر عن سداد ديونها، لأن ما تمر به البلاد وضع اقتصادي مؤقت، وليس مزمنا مثل غانا أو أوكرانيا، وهو موقف يدركه العديد من المستثمرين، ويصعب التلويح بورقة التخلف عن سداد الديون واعتبارها مؤشرًا على أزمات لاحقة أو طاردة للمستثمرين، لأن كبرى دول العالم تعاني من ذلك، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
العرب