ستة تحديات كبرى تواجه اردوغان في ولايته الجديدة

ستة تحديات كبرى تواجه اردوغان في ولايته الجديدة

نجا الرئيس التركي رجب طيب اردوغان للتو من أصعب استحقاق انتخابي على الإطلاق يواجهه خلال مسيرة عقدين في السلطة، واستطاع تمديد فترة حكمه لخمس سنوات إضافية. في الولاية الرئاسية الجديدة، سيكون اردوغان قد مدد فترة وجوده في السلطة إلى ما يقرب من ربع قرن، وهي مدّة لم يسبقه إليها أي زعيم تركي في التاريخ الحديث للجمهورية على الإطلاق. من المفترض أن تكون هذه الولاية الأخيرة لاردوغان لأنّ الدستور التركي لا يسمح للرئيس للترشح لولاية ثالثة، كما أن اردوغان نفسه سبق أن طالب الأتراك بدعمه في الانتخابات الرئاسية للمرة الأخيرة. بالنظر إلى أن الرئيس التركي حريص على تتويج حكمه بشكل يليق بالإرث الذي سيتركه، فإنه سيتعين عليه مواجهة ستة تحديات رئيسية في السنوات الخمس المقبلة. لأن العبرة في الخواتيم، فإن طريقة إدارته للسياستين الداخلية والخارجية والاقتصاد على وجه الخصوص في الولاية الجديدة ستُحدد الشكل النهائي لهذا الإرث.

الاقتصاد أكبر التحديات

كانت النهضة الاقتصادية الكبيرة التي صنعها اردوغان خلال عقدين من حكمه هي السلاح الذي تمكن من خلاله مواجهة معارضيه والفوز بنحو ستة عشر استحقاقاً انتخابياً على التوالي.
لقد تمكن من وضع تركيا في قائمة أكبر عشرين اقتصاداً في العالم ووسع حدود الطبقة المتوسطة التي تحولت إلى قاعدة التأييد الشعبي الرئيسية له. كما أنجز مشاريع تنموية هائلة كتطوير البنية التحتية والمؤسسات الخدمية الحكومية وتطوير الصناعات الدفاعية المحلية التي باتت تنافس صناعات دفاعية لدول كبرى. مع ذلك، فإن التراجع الاقتصادي، الذي بدأته البلاد مع بداية العقد الماضي، والذي يرجع في جانب رئيسي إلى الاضطرابات الداخلية كاحتجاجات تقسيم في عام 2013 ومحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في عام 2016 والاضطرابات الجيوسياسية المحيطة، فضلاً عن وباء كورونا، هيمن على مسيرة اردوغان في السلطة في العقد الثاني. تواجه البلاد الآن مُعضلة التضخم الذي يقترب من حدود 45 في المئة وعجز متزايد في الميزان التجاري وخروج مضطرد للاستثمارات الأجنبية وتحدي إعادة إعمار المناطق المنكوبة التي دمرها زلزال السادس من شباط/فبراير الماضي وتُقدر تكلفة إعادة إعماره بنحو مئة مليار دولار أمريكي.
ويسعى اردوغان من خلال تشكيل طاقم اقتصادي جديد للإشراف على إدارة السياسة الاقتصادية في السنوات الخمس المقبلة، إلى معالجة هذه التحديات ويبدو أنّه قادر بالفعل على القيام بهذه المهمة لأنّ لديه إرث يستند عليه، لكنّه قبل أي شيء، سيتعين عليه منح المسؤولين الاقتصاديين الجدد صلاحيات واسعة للعمل بما ينبغي القيام به. سيكون تعيين محمد شيمشيك وزير الاقتصاد السابق، والذي يحظى بسمعة طيبة في الخارج، في منصب نائب الرئيس للشؤون الاقتصادية مؤشراً قوياً على طبيعة النهج الاقتصادي الجديد لاردوغان في الفترة المقبلة. وخلق تراجع قيمة الليرة في السنوات الأخيرة المزيد من المتاعب المعيشية لكثير من الأتراك، لكنّ اردوغان سعى للحد من ارتفاع تكلفة مستوى المعيشة عبر الإنفاق السخي على حزم التحفيز الاقتصادي ورفع رواتب موظفي القطاع العام وزيادة الحد الأدنى للأجور. لكنّ هذه المعالجات كانت أشبه بالمسكنات. نظرًا لانخفاض احتياطيات تركيا من النقد الأجنبي مع عجز الحساب الجاري الذي بلغ أكثر من 6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من هذا العام، وما ترتب عليه من ضغوط على الليرة، فإن تشديد السياسة النقدية قد يكون خيارا لا مفر منه للحد من التضخم. من المعروف أن اردوغان يُعادي بشدة رفع أسعار الفائدة، لكنّه قد يكون أكثر مرونة في تشديد السياسات النقدية هذه المرة.

إعمار المناطق المنكوبة

يواجه اردوغان تحدي إعادة إعمار المناطق المنكوبة في جنوب البلاد جراء زلزال شباط/فبراير المدمر. بالنظر إلى التكلفة الكبيرة لهذه العملية، فإنها قد تؤدي إلى تفاقم الضغوط المالية على خزينة الدولة في الفترة المقبلة، لكنّ اردوغان لديه خبرة واسعة في كيفية التعامل مع مثل هذه التحديات. من المفارقات أن الجزء الأكبر من سكان هذه المناطق صوتوا له في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة لأنّهم ما زالوا يؤمنون بأنه الوحيد القادر على إعادة النهوض بمناطقهم وإعادة بناء منازلهم المدمرة. ويُجمع كثير من الخبراء الاقتصاديين على حاجة تركيا إلى جلب الاستثمارات الأجنبية لمساعدتها في إعادة إعمار المناطق المدمرة. لأن الاستثمارات الأجنبية عادة ما تتأثر بشدة بطبيعة العلاقات الخارجية لتركيا، فإن الطريق إلى إعادة هذه الاستثمارات يمر عبر صياغة سياسة خارجية جديدة ترتكز على مبدأ تحسين العلاقات مع الدول التي يتوفر فيها رأس المال كالخليج والغرب.
إعادة ترتيب البيت الداخلي

نجح الرئيس رجب طيب اردوغان في الفوز مُجدداً في الانتخابات الرئاسية للمرة الثالثة على التوالي، لكنّ الفوز الأخير استثنائي بكل المقاييس. ليس لأنه جاء في ظل ظروف داخلية سياسية واقتصادية صعبة، بل لأنه من المفترض أن يكون آخر استحقاق انتخابي يخوضه على المستوى الشخصي. سيتعين على اردوغان، الحريص على تتويج مسيرة ربع قرن في السلطة بالنجاحات، أن يتعامل مع تحدي آخر متمثل في إعادة ترتيب البيت الداخلي لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم وإعداد زعيم جديد يُمكن أن يقود الحزب بعد انتهاء ولاية اردوغان الثالثة في حال قرر الأخير الابتعاد عن النشاط السياسي الحزبي. اردوغان شخصية قيادية استثنائية في تاريخ السياسة التركية الحديث، ومن الصعب الاعتقاد أن زعيماً آخر يُمكن أن يكون ببساطة قادراً على تقديم نموذج شبيه بالنموذج الذي قدّمه إن على مستوى قيادة الحزب أو على مستوى إدارة البلد. من المتوقع أن يُركز جانباً كبيراً من جهوده في الولاية الجديدة على إعادة ترتيب البيت الداخلي للحزب.

استعادة البلديات الكبرى

مُني حزب «العدالة والتنمية» الذي يتزعمه اردوغان بانتكاسة كبيرة في الانتخابات المحلية السابقة عام 2019 عندما خسر رئاسة بعض البلديات الكبرى كإسطنبول وأنقرة لصالح المعارضة. وفي أول خطاب له بعد النصر في جولة الإعادة الرئاسية في 28 أيار/مايو، أطلق اردوغان بالفعل حملته الانتخابية لاستعادة هذه البلديات في الانتخابات المحلية المقررة بعد نحو تسعة أشهر. سيُساعد النصر الانتخابي الكبير في 14 و 28 أيار/مايو إلى جانب الانتكاسة الكبيرة للمعارضة، اردوغان في تعزيز فرص الحزب الحاكم في تحقيق نصر انتخابي مشابه في الانتخابات المحلية المقبلة. مع ذلك، فإن الطريق إلى تحقيق نصر انتخابي آخر في الولاية الرئاسية الجديدة لاردوغان يمر أولاً عبر معالجة التحديات الاقتصادية ومعالجة ملف اللاجئين السوريين على وجه الخصوص لإقناع سكان هذه المدن بأن مستقبلاً مزدهراً لهم لا يكون سوى مع حزب العدالة والتنمية. ستكون الانتخابات المحلية المقبلة آخر فرصة للمعارضة المهزومة لإعادة التأكيد على أن حضورها في المشهد السياسي لا يزال مؤثراً وإن بشكل متواضع.

وضع دستور مدني

منذ تولي اردوغان السلطة، أجرى ثلاثة تعديلات دستورية تُوجت بالتحول إلى النظام الرئاسي في عام 2017. لكنّ طموحا كبيراً، لم يتمكن من تحقيقه حتى الآن، وهو وضع دستور مدني بالكامل. ستُركز جهوده في الولاية الرئاسية الجديدة على تحقيق هذا الهدف الذي سيُتوج عقدين من جهد اردوغان لتعزيز الحكم المدني وتكريس تبعية المؤسسة العسكرية للسلطة السياسية.

تحدي السياسة الخارجية

استطاع اردوغان خلال عقدين من حكمه بناء هوية جيوسياسية جديدة لتركيا ترتكز على تحويلها إلى قوة قائمة بحد ذاتها وقلصت من اعتمادها على الغرب في المجالات الحيوية كالأمن والسياسة الخارجية وبدرجة أقل الاقتصاد. كما كان من أبرز سمات السياسة الخارجية التركية في العقد الماضي عقيدة التوازن التي تبناها اردوغان في صياغة العلاقات مع روسيا والغرب. لقد نجح بالفعل في تكريس هذا النهج، لكنّ في ظل عام مضطرب يسوده التنافس الجيوسياسي الجديد بين القوى الكبرى على إعادة تشكيل النظام العالمي، فإن السياسة الخارجية التركية ستواجه المزيد من الضغوط في السنوات المقبلة لا سيما من جانب الغرب الذي يُريد لتركيا أن تُقلص علاقاتها مع روسيا. من غير المرجح أن يستسلم اردوغان لهذه الضغوط، لأن العلاقة الجيدة مع روسيا لا تزال حيوية بالنسبة لتركيا. لكنّه سيتعين عليه إيجاد وسيلة لتحقيق توازن أكبر في الشراكات مع موسكو والغرب. في حال استطاع اردوغان في ولايته الرئاسية الثالثة تحسين العلاقات أو على الأقل تهدئة التوترات مع الغرب، وهذا ما هو مرجح، فإن تركيا ستُصبح أكثر قدرة على مواصلة عقيدة التوازن.
في العلاقات مع دول الجوار الجنوبي، يتمثل التحدي الأكبر الذي يواجه اردوغان في الفترة المقبلة في الملف السوري على وجه الخصوص. وشرعت أنقرة منذ أشهر في مفاوضات برعاية روسية مع النظام السوري لإعادة تحسين العلاقات، لكنّها لا تزال تنظر إلى بقاء وجودها العسكري في شمال سوريا على أنه حاجة لتأمين مصالحها الأمنية في هذا البلد وإعادة اللاجئين ودفع عملية التسوية السياسية للصراع السوري. منذ أن دخلت تركيا في شراكة مع روسيا وإيران ضمن منصة أستانة عام 2017 نجح اردوغان في خلق إطار ساعد بلاده على التحرك بشكل أفضل في سوريا للحد من ارتدادات الصراع عليها وتمكينها من الضغط على المشروع الانفصالي لوحدات حماية الشعب الكردية والمدعوم من الولايات المتحدة. من المرجح أن تواصل تركيا التحرك ضمن هذا الإطار في المستقبل المنظور ويبدو أنها قادرة بالفعل على فرض مطالبها على الفاعلين الأساسيين في المعادلة السورية لا سيما روسيا وإيران وبدرجة أقل الولايات المتحدة الأمريكية.
تبرز ليبيا أيضاً كإحدى القضايا الإقليمية التي سيتعين على الرئيس رجب طيب اردوغان تبني سياسة واضحة تحفظ مصالح تركيا في هذا البلد وتقوي موقفها في الصراع الجيوسياسي مع اليونان وقبرص الجنوبية في شرق البحر المتوسط. ستكون تركيا أكثر قدرة على لعب دور نشط وإيجابي في ليبيا من خلال المصالحة مع مصر، والتي تخلق بدورها إطاراً جديداً للتعاون بين أنقرة والقاهرة لدفع السلام في هذا البلد.

القدس العربي