إلى جانب القضايا الأخلاقية والرسائل السياسية، تمتلك الدول غير الغربية أسبابًا محسوبة أكثر لاختيار عدم اتخاذ موقف متشدد تجاه روسيا منذ الغزو. غني عن القول إنه بالنسبة لدول مثل الصين، التي دخلت في صراع مع الولايات المتحدة، فإن الانتصار الروسي في أوكرانيا ناتج مفضّل، نظرًا للطريقة التي يمكِّن بها إعادة تشكيل النظام العالمي بسرعة أكبر في اتجاه تعدد الأقطاب. وفي الوقت نفسه، بالنسبة لدول عدم الانحياز التي لطالما كانت حريصة على الحفاظ على حيادها، فإن ما تبدو حربًا بعيدة تجري في أوروبا لا تستحق قطع العلاقات مع موسكو.
بقيادة واشنطن، احتشدت الديمقراطيات في أوروبا وأميركا الشمالية خلف أوكرانيا منذ بدء الغزو الروسي في شباط (فبراير) من العام الماضي. واجتمعت الجهات الفاعلة الغربية الحكومية حول السرد القائل إن الحرب في أوكرانيا هي معركة بين الديمقراطية الليبرالية والحرية، في مقابل الاستبداد والإمبريالية. ومع ذلك، فشلت هذه الرواية في أن تلقى صدى لدى الأعضاء غير الغربيين في المجتمع الدولي، وكانت العديد من الجهات الفاعلة الحكومية مترددة للغاية في الانضمام إلى الغرب في معاقبة روسيا أو مساعدة أوكرانيا.
في آذار (مارس) من العام الماضي، خلال خطاب ألقاه في العاصمة البولندية، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أن الديمقراطيات في العالم قد “تم تنشيطها بهدف ووحدة” من خلال الرد على غزو روسيا لأوكرانيا. ورددت نائبة الرئيس، كامالا هاريس، مشاعر مماثلة في شباط (فبراير) من هذا العام، قائلة إن “ردنا على الغزو الروسي هو دليل على التزامنا الجماعي بدعم القواعد والأعراف الدولية”.
بالنسبة للجماهير غير الغربية، فإن مثل هذه الإشارات الخطابية إنما تقع على أذن صماء إلى حد كبير. وفي الواقع، أعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن أسفه علنًا على إحجام بعض الحكومات الأفريقية عن اتخاذ موقف قوي من الحرب، متهمًا إياها بـ”النفاق” بشأن هذه المسألة في تموز (يوليو) من العام الماضي. ومع ذلك، فإن النفاق هو ما ينبغي أن يُتهم به الغرب عندما يتعلق الأمر بالتهديد وإلقاء المحاضرات على بقية العالم حول الموقف الذي ينبغي عليهم اتخاذه من الصراع. على سبيل المثال، اشتكى س. جايشانكار، وزير خارجية الهند، من أن أوروبا تعتقد أن “مشكلات أوروبا هي مشكلات العالم، لكن مشكلات العالم ليست مشكلات أوروبا”.
يلمح فشل نقاط حديث القادة الأميركيين والأوروبيين في أن يتردد صداها لدى نظرائهم غير الغربيين إلى حالة من تضاؤل القوة الناعمة. وتبقى الديمقراطيات الليبرالية الغربية أكثر حساسية لمواجهة تهم النفاق من الجهات الفاعلة غير الليبرالية أو الاستبدادية، لأنها تستطيع أن تؤكد بسهولة أكبر على الضرورات الأخلاقية، مثل حقوق الإنسان والمعايير والقيم الدولية. ولعل الولايات المتحدة وحلفاءها محقون في شجب غزو روسيا لأوكرانيا، ولكن كان هناك إلماح مزعج بأن واشنطن وأصدقاءها يلقون الحجارة من منزل من زجاج. فقد أدى الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق -الذي اعتبره الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي عنان، غير قانوني- إضافة إلى تحالفات الغرب مع بعض الأنظمة الوحشية إلى إضعاف قدرة الغرب على طرح الحجج من منطلق أرضية أخلاقية عالية. على سبيل المثال، كتب المحلل الإندونيسي، راديتيو دارمابوترا، العام الماضي أن “ثمة تيارًا مهيمنًا في المناقشات الإندونيسية للحرب الروسية على أوكرانيا، ركز على النفاق الأميركي والغربي”.
إلى جانب القضايا الأخلاقية والرسائل السياسية، تمتلك الدول غير الغربية أسبابًا محسوبة أكثر لاختيار عدم اتخاذ موقف متشدد تجاه روسيا منذ الغزو. غني عن القول إنه بالنسبة لدول مثل الصين، التي دخلت في صراع مع الولايات المتحدة، فإن الانتصار الروسي في أوكرانيا ناتج مفضّل، نظرًا للطريقة التي يمكِّن بها إعادة تشكيل النظام العالمي بسرعة أكبر في اتجاه تعدد الأقطاب. وفي الوقت نفسه، بالنسبة لدول عدم الانحياز التي لطالما كانت حريصة على الحفاظ على حيادها، فإن ما تبدو أنها حرب بعيدة في أوروبا لا تستحق قطع العلاقات مع موسكو. وحتى لو بدا تراجعًا روسيًا بطيئًا أمرًا لا مفر منه، تظل موسكو شريكًا لا غنى عنه للعديد من البلدان في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
بالعودة إلى إندونيسيا كمثال، كانت جاكرتا تبذل قصارى جهدها للحفاظ على موقف محايد من الصراع. ويتماشى هذا الموقف مع تفضيلات السياسة الخارجية طويلة الأمد لإندونيسيا كعضو مؤسس في حركة عدم الانحياز، التي ظهرت كمجموعة من الدول التي اختارت عدم الانحياز إلى الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة. في تموز (يوليو) من العام الماضي، قام الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو بزيارة كل من كييف وموسكو في مهمات دبلوماسية. وفي آذار (مارس) من العام نفسه، أيدت إندونيسيا قرارًا للأمم المتحدة يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها رفضت فرض عقوبات على روسيا أو إدانة أعمال بوتين صراحة.
كما حافظت البرازيل، العضو في مجموعة “بريكس” -التي تضم البرازيل، وروسيا، والهند، والصين وجنوب إفريقيا- على موقف محايد. وعلى الرغم من أن البرازيل هي العضو الوحيد في “بريكس” الذي أيد قرار جمعية الأمم المتحدة الذي يدعو روسيا إلى سحب قواتها من أوكرانيا، إلا أن رئيس البلاد، لولا دا سيلفا، انتقد كلاً من الغرب وزيلينسكي. وقال لولا في أيار (مايو) قبل فوزه بالرئاسة: “هذا الرجل (زيلينسكي) مسؤول مثله مثل بوتين عن الحرب”. كما انتقد واشنطن، قائلاً إن “بايدن كان بإمكانه أن يستقل طائرة إلى موسكو للتحدث مع بوتين. هذا هو نوع الموقف الذي تتوقعه من زعيم”. وتمثل موقف البرازيل من الحرب بشكل أساسي في الدعوة إلى وقف إطلاق النار، مع تقديم لولا نفسه كوسيط محايد لتسوية سلمية محتملة. لكن شروط لولا للسلام تختلف بشدة عن التفضيلات الغربية والأوكرانية. في نيسان (أبريل)، حثّ لولا أوكرانيا على التفكير في التخلي عن شبه جزيرة القرم، وقال إنه من أجل تحقيق السلام، فإن زيلينسكي “لا يمكنه أن يريد كل شيء”.
كما أظهرت جنوب إفريقيا، وهي عضو في كل من “بريكس” وحركة عدم الانحياز، تفضيلًا مشابهًا للحياد. في أيار (مايو)، قال سيدني مفامادي، المستشار الأمني لرئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا، إن البلاد كانت “غير منحازة فعليًا عندما يتعلق الأمر بالنزاع”. وحتى الآن، امتنعت جنوب إفريقيا عن التصويت في الأمم المتحدة لإدانة الحرب. وعلاوة على ذلك، فإن إشارة حكومة جنوب إفريقيا الأخيرة إلى أن بلدها سيسمح للرئيس بوتين بحضور قمة دول “بريكس” التي ستُعقد هناك، على الرغم من أن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرة باعتقاله، أزعجت صانعي السياسة في الغرب. وفي أيار (مايو)، وصل الأمر إلى زعم السفير الأميركي في جنوب إفريقيا أن البلد كان يزود روسيا بالأسلحة، على الرغم من أن الدبلوماسي الأميركي اعتذر لاحقًا عن هذه الاتهامات.
خلال حقبة الحرب الباردة، أكد أول رئيس وزراء للهند، جواهر لال نهرو: “نحن لسنا مؤيدين لروسيا، ولا لأميركا، إذا كان ذلك يهم. نحن مؤيدون للهند”. والآن، بعد عقود، لم تكن هذه الأقوال نفسها لتبدو في غير محلها إذا عبّر عنها رئيس الوزراء الهندي الحالي، ناريندرا مودي. فعلى الرغم من أن مودي التقى مع زيلينسكي في أيار (مايو) من هذا العام وحث بوتين سابقًا على “السير على طريق السلام”، إلا أنه رفض إدانة الغزو الروسي، الأمر الذي أثار انزعاج صانعي السياسة الغربيين.
أشاد مودي بالرابطة بين نيودلهي وموسكو ووصفها بأنها “غير قابلة للكسر”، وقد استفادت الهند بالفعل من العقوبات الغربية المفروضة على روسيا من خلال شراء النفط الروسي بأسعار مخفضة للغاية. وفي نيسان (أبريل) الماضي، حثت واشنطن نيودلهي على عدم زيادة واردات النفط الروسية، وهو طلب تم تجاهله لاحقًا. وتراجعت الولايات المتحدة في وقت لاحق عن موقفها وقالت إنها “مرتاحة” لسياسة الطاقة في الهند، لكن هذا الفصل أظهر استعداد نيودلهي لممارسة استقلالها الاستراتيجي على الرغم من احتمال فرض عقوبات غربية عليها. كما أن الهند تحفزها أيضًا مخاوفها الأمنية للحفاظ على علاقة ودية مع روسيا. فعلى الرغم من أن نيودلهي تسعى إلى تنويع وسائلها العسكرية من خلال عمليات الشراء الأوروبية والأميركية والإسرائيلية الجديدة، إلا أن معظم مخزونها العسكري ما يزال يتكون من معدات قديمة تعود إلى الحقبة السوفياتية، وتستمر الهند في الاعتماد على روسيا في هذا المجال. وإضافة إلى ذلك، حرص صناع السياسة الهنود على عدم إغلاق الباب أمام الكرملين خوفًا من أن تؤدي عزلة روسيا المتزايدة إلى دفعها أقرب إلى الصين، المنافس الإقليمي والجيواستراتيجي الأول للهند.
لكي تكون السياسة الخارجية الغربية أكثر فاعلية، يحتاج القادة في أميركا الشمالية وأوروبا إلى تحديد أي الدعوات إلى العمل هي التي سيكون لها صدى لدى بقية العالم. من غير المرجح أن يضرب الخطاب المنمق حول الديمقراطية والحرية على وتر حساس في أجزاء من العالم ترى أن الصراخ بهذه القيم بمثابة لغة مشفرة لتبرير التدخلية الغربية. وهذا لا يعني أن الغرب يجب أن يتخلى عن قيمه، لكن على صانعي السياسة محاولة قراءة ما يجري في الغرفة. ويغلب أن تلقى المعايير والقيم الدولية، مثل السيادة الوطنية، والسلام واحترام الحدود صدى لدى جمهور أوسع.
إذا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يهدفون إلى التأثير على نسبة أكبر من دول عدم الانحياز للضغط على روسيا، فإنهم ربما يحاولون القيام بذلك من خلال تقديم حوافز اقتصادية. وعلى الرغم من أن النظام العالمي الناشئ متعدد الأطراف قد أضعف إلى حد ما نفوذ الغرب، وكذلك قوته الناعمة، إلا أن الاقتصادات الأميركية والأوروبية تظل ملهِمةً للغاية بالنسبة للبلدان النامية. يمكن معاقبة الدول التي تواصل التجارة مع روسيا، لكن الغرب يجب أن يكون حذرًا للغاية بشأن هذا الأمر. وهناك دلائل حاضرة مُسبقًا على أن العقوبات المكثفة المفروضة على روسيا جعلت بعض حلفاء الولايات المتحدة، مثل المملكة العربية السعودية، متوترين، وهناك جهود جارية مُسبقًا للتنويع بعيدًا عن الاعتماد على العملة الأميركية. وقد يكون لفرض العقوبات على دول عدم الانحياز التي تحافظ على علاقاتها مع روسيا تأثير سلبي، مما قد يساعد على تسريع اتخاذها إجراءات قد تضر بمصالح الولايات المتحدة وحلفائها على المدى الطويل، مثل فك الارتباط بالدولرة. ولهذا السبب، عند التعامل مع جهات فاعلة غير منحازة من الدول، قد يكون من الحكمة مد الجزرة، بدلاً من التهديد باستخدام العصا.
الغد