العراق على عتبة الاستقرار، لكن المخاطر ما زالت قائمة

العراق على عتبة الاستقرار، لكن المخاطر ما زالت قائمة

بعد سنوات طويلة من الاضطرابات تتوفر للعراق الآن فرص نادرة للاستقرار، ما قد يسمح بالعمل على تحسين وضعه الاقتصادي. لكن الإشكال الذي يعترضه يتلخص في التساؤل التالي: ما مدى قدرته على إحداث التوازن بين ثنائيات خارجية متناقضة الأجندات سياسيا واقتصاديا مثل إيران والولايات المتحدة، والولايات المتحدة والصين؟

بغداد- يبدو العراق الآن أكثر استقرارا من أي وقت مضى منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، وهو ما تحقق بفضل أسعار النفط المرتفعة وفترة الهدوء السياسي على الصعيدين المحلي والإقليمي، لكن محاولة الحكومة ترسيخ تلك المكاسب، بتحقيق فائض في الميزانية، لا تقوم فيما يبدو على أسس صلبة.

وأطلق رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي تولى منصبة في أكتوبر، برنامجا لإعادة تأهيل البنية التحتية وجذب المستثمرين الأجانب، إلا أن محللين يقولون إن الخطط معرضة للخطر بسبب تنبؤات غير مؤكدة تتعلق بتقدير أسعار النفط كما تواجه تحديا يتمثل في الحفاظ على دبلوماسية التوازن الدقيق في منطقة مضطربة.

وقال دبلوماسي غربي “نحن متفائلون فيما يتعلق بالتوقعات على المدى القصير لكن هناك تحديات كبيرة على المدى المتوسط إلى الطويل”.

واجتاز السوداني، الذي وصل إلى السلطة بمساندة من جماعات شيعية مدعومة من إيران، أول اختبار كبير هذا الأسبوع بإقرار البرلمان للميزانية.

كما تمكن من تحقيق توازن دبلوماسي صعب في إدارة العلاقات بين دولتين حليفتين لبلاده تناصبان العداء لبعضهما البعض وهما إيران والولايات المتحدة.

نال السوداني إشادة من واشنطن بسبب تنفيذ مطالبها بوقف تهريب الدولارات إلى إيران في انتهاك للعقوبات الأميركية، لكنه أبقى أيضا حلفاء طهران في العراق سعداء بفورة توظيف في دوائر الدولة وبخطط لمشاريع كبرى لإتاحة فرص عمل جديدة لأفراد جماعات مسلحة، الكثير منهم من جماعات مدعومة من إيران، بعدما تحقق الانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

وقال نائب شيعي يدعم السوداني إن رئيس الوزراء يعمل “كدبلوماسي ناجح يستطيع الحفاظ على علاقات جيدة مع الغرب والولايات المتحدة وفي الوقت نفسه يحرص على إرسال رسائل إيجابية إلى طهران”.

وقال النائب، الذي طلب عدم نشر اسمه حتى يتمكن من التحدث بحرية عن رئيس الوزراء، إن “مؤيدي السوداني المتحالفين مع إيران رأوا فيه رجلا يتصرف كمدير لعملية تحسين الخدمات الأساسية، وفي الوقت ذاته يحمي مصالحهم”.

مشاكل تستعصي على الحل
قال مستشار رئيس الوزراء للعلاقات الخارجية فرهاد علاء الدين إن السوداني خدم كل العراقيين وليس فقط من تدعمهم إيران.

وأضاف علاء الدين “مر وقت طويل لم نتمتع فيه بمثل هذا الاستقرار السياسي حيث يتم التعامل مع الأزمات التي نواجهها (الآن) في غرف الاجتماعات وتحت سقف البرلمان وليس خارجه”.

ويشكل هذا تحولا جذريا قياسا على العام الماضي، عندما أدى التنافس بين الجماعات الشيعية إلى عرقلة تشكيل حكومة، مما تسبب في اندلاع أعمال عنف وأذكى مخاوف من نشوب حرب أهلية في بلد يعاني من الصراع والفوضى منذ الغزو عام 2003.

وتنعكس صورة لهذا الهدوء في مناطق أخرى بالشرق الأوسط حيث أعادت إيران والسعودية العلاقات، مما خفف من حدة المنافسة التي كانت تظهر شواهدها في أنحاء المنطقة.

ومع ذلك، يقول محللون إن الكثير من مشكلات العراق لا تزال دون حل، وتتراوح من الاعتماد الكبير على عائدات النفط وسوق الطاقة العالمية المتقلبة إلى الفساد والطائفية.

وقال ريناد منصور مدير مبادرة العراق في مركز أبحاث تشاتام هاوس بلندن “منظومة الفساد والمحسوبية السياسية راسخة الأقدام ظلت تخنق أي محاولات للإصلاح على مدى العشرين سنة الماضية”، مضيفا أن فورة التوظيف الحكومية ليست “إصلاحا مستداما”.

ومضى قائلا إنه يمكن بسهولة زعزعة استقرار العراق بسبب مشكلات خارج حدوده، واصفا البلاد بأنها “ساحة (تتفاعل فيها) المشكلات الإقليمية والعالمية”. ومع ذلك، أوضح أن الانفراجة بين السعودية وإيران “من المحتمل أن تمنح العراق بعض المساحة للتنفس”.

ولا يزال العراق معرضا للصدمات الجيوسياسية، بما في ذلك مناطقه الشمالية التي يسيطر عليها الأكراد، وتتنازع فيه أحزاب متنافسة.

وشنت تركيا وإيران من قبل عمليات عسكرية ضد جماعات كردية مسلحة هناك، متذرعتين بأن هذه الجماعات تهدد أمنهما القومي.

أكبر موازنة للعراق
تكثر التحديات على أصعدة أخرى أيضا؛ فلم تهدأ مخاوف العام الماضي من اندلاع حرب أهلية إلا عندما انسحب رجل الدين الشيعي البارز مقتدى الصدر من المشهد السياسي وتركت أعداد ضخمة من أتباعه الشوارع. لكنه انسحب وعاد من قبل، ويقول محللون إنه قد يؤجج الاضطرابات في الشوارع مرة أخرى إذا سعى للعودة.

ومع ذلك، حقق السوداني نجاحات. وأقر البرلمان موازنته بعد مفاوضات شاقة لكسب دعم الشيعة والأكراد والعرب السنة.

لكن الموازنة، وهي الأكبر في العراق، تتوقع إنفاق 198.9 تريليون دينار (153 مليار دولار) مع خطط لإضافة أكثر من 500 ألف موظف إلى الجهاز البيروقراطي المتضخم بالفعل، في تحد صريح لتوصيات صندوق النقد الدولي.\

وتعتمد معظم العائلات على دخل أفرادها الذين يشغلون وظائف حكومية ويصعب خفضها إذا انخفضت أسعار النفط وتراجعت عائدات الدولة.

ولتعزيز الاقتصاد سعى السوداني إلى جذب الاستثمارات الأجنبية، بما في ذلك إحياء صفقة بقيمة 27 مليار دولار مع شركة توتال إنرجيز الفرنسية وقطر إنرجي لتطوير إنتاج النفط والغاز.

وفي الأثناء شملت مبادراته الدبلوماسية زيارات إلى ألمانيا وفرنسا والسعودية. لكنه حصل خصوصا على دعم من الولايات المتحدة، التي لديها 2500 جندي في العراق لتقديم المشورة والمساعدة في محاربة فلول تنظيم الدولة الإسلامية.

وقالت باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى إن أجندة الحكومة للإصلاح الاقتصادي ومحاربة الفساد هي الوصفة الدقيقة للعلاج أو “بالضبط ما أمر به الطبيب”.

وقالت في بغداد خلال مايو “سندعم عمل هذه الحكومة في تلك الخطوات”، ووصفت العراق بأنه مكان للتعاون وليس “ساحة للمعارك”.

ويبقى الرهان صعبا أمام العراق في مساره لتنويع الشركاء في مجال النفط وفتح الباب أمام شركاء متناقضين خاصة بانضمام الصين وحصولها على مزايا كبيرة تطال النفط والبنية التحتية ومنافسة الشركات الأميركية.

ويقول المراقبون إنه لا يكفي بالنسبة إلى الولايات المتحدة أن يقلص العراق علاقاته مع إيران وأن يلتزم بالضوابط الأميركية، ولكن عليه أيضا أن ينظر إلى مصالحها من جهة التنافس بينها وبين الصين.

وكثيرا ما كان اسم الصين يطرح في العراق كشريك اقتصادي بديل عن الولايات المتّحدة وقادر على مساعدة البلد على الخروج من أزمته الاقتصادية والمالية المستفحلة ومن تعثّر التنمية فيه وتوقّف إعمار المناطق المدمّرة.

وكانت إيران وراء طرح الصين كشريك اقتصادي للعراق أملا في تقليص مساحة تأثير الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في البلد، لكن الاستنجاد بالشركات الصينية والسماح لها بتوسيع مجال تحركها قد يقودان إلى ردة فعل من واشنطن التي لا تزال تتابع عن كثب أداء حكومة السوداني.

العرب