أجرى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن زيارة للصين يومي 18و19 يونيو الجاري (2023)، والتي كانت مقرراً لها في 5و6 فبراير الماضي، ولكن تم تأجيلها في أعقاب التوتر في العلاقات الأمريكية-الصينية بعد إسقاط الولايات المتحدة بالوناً صينياً حلّق فوق الأراضي الأمريكية، واتهمت الصين باستخدامه لأغراض التجسس، رغم إعلان بكين أنه كان يستخدم في دراسات متعلقة بمجال الأرصاد الجوية وغيرها من الأبحاث، وأنه من الممكن أن يكون قد انحرف عن مساره بسبب الرياح القوية ودخل المجال الجوي الأمريكي، ولكن مسئولي الإدارة الأمريكية رفضوا تلك المبررات وأكدوا أنه كان يراقب مواقع عسكرية أمريكية حساسة.
وتكمن أهمية زيارة بلينكن للصين في عدة اعتبارات: يتمثل أولها في أنها أول زيارة لأعلى مسئول أمريكي بإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للصين بعد خمس سنوات من زيارة وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو في عام 2018. وينصرف ثانيها إلى أنها تأتي في ظل التوتر الحادث في العلاقات الأمريكية–الصينية بعد أزمة منطاد التجسس الصيني، وارتفاع مستويات المواجهة بين الولايات المتحدة والصين في منطقة الإندو-باسيفيك والتي وصلت لتحليق مقاتلة صينية على بعد 400 قدم من طائرة استطلاع أمريكية فوق بحر الصين الجنوبي في مايو 2023، فيما وصفها الجيش الأمريكي بأنه “مناورة عدوانية بلا داعٍ”، ورفض الصين طلب أمريكي بلقاء بين وزيري الدفاع الأمريكي والصيني في سنغافورة.
ويتعلق ثالثها بعودة سيطرة منافسة القوى العظمي، التي أخذت في مراحل تاريخية بعداً عسكرياً، على استراتيجية الإدارة الأمريكية تجاه الصين باعتبارها “قوة تعديلية” في النظام الدولي وتمتلك العديد من المقومات لتحدي القيادة والنفوذ الأمريكي عالمياً.
ولذلك، فقد هدفت زيارة بلينكن إلى بكين بصورة أساسية إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية هي: إنشاء آليات لإدارة الأزمات بين الولايات المتحدة والصين، وتعزيز مصالح الولايات المتحدة وحلفائها والتحدث مباشرة عن المخاوف ذات الصلة، واستكشاف مجالات التعاون المحتمل، وذلك وفقاً لما أعلنه وزير الخارجية الأمريكي في مؤتمر صحفي في 17 يونيو الجاري قبل بداية زيارته للصين. وقد كانت تلك الأهداف على أجندة لقاءات بلينكن بالرئيس الصيني شي جينبينج، ومدير المكتب المركزي للشئون الخارجية للحزب الشيوعي الصيني وانج يي، وعضو مجلس الدولة ووزير الخارجية تشين جانج.
دبلوماسية أمريكية نشطة
رغم التوتر الحادث في العلاقات الأمريكية-الصينية بعد أزمة منطاد التجسس، والهواجس الأمريكية من تقديم الصين دعماً لروسيا في حربها على أوكرانيا، التي تدخل عامها الثاني، وما تعتبره واشنطن “سياسات عدوانية صينية” في منطقة الإندو-باسيفيك، وانتقال المنافسة الأمريكية-الصينية خارج آسيا لمناطق استراتيجية متعددة حول العالم، فإن إدارة جو بايدن حرصت على فتح قنوات اتصال مع الجانب الصيني للحد من مخاطر سوء التقدير، الذي قد يخرج عن السيطرة؛ لأن الجيشين الصيني والأمريكي لا يتواصلان بعد رفض الصين طلباً أمريكياً لعقد اجتماع بين وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، ووزير الدفاع الصيني الجديد لي شانجفو، على هامش المنتدى الأمني السنوي لحوار شانجريلا في سنغافورة، والذي عكس رفضاً صينياً للوجود العسكري الأمريكي في منطقة الإندو-باسيفيك، ولعدم رفع إدارة بايدن العقوبات الأمريكية المفروضة على وزير الدفاع الصيني منذ إدارة دونالد ترامب، في عام 2018، لموافقته عندما كان يشغل رئيس إدارة تطوير المعدات في الجيش الصيني، على شراء المقاتلات والصواريخ الروسية.
فقد سبق زيارة وزير الخارجية الأمريكي لبكين زيارات عدة معلنة وسرية لمسئولين أمريكيين لبكين، ولقاءات بين كبار مسئولي الإدارة ونظرائهم الصينيين في الولايات المتحدة والصين أو في دولة ثالثة بعد أزمة إسقاط بالون التجسس الصيني، ومن أبرزها زيارة مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون شرق آسيا والمحيط الهادي دانيال كريتنبرينك، ومديرة شئون الصين وتايوان في مجلس الأمن القومي سارة بيران، لبكين في 4 يونيو الجاري، والتي التقيا خلالها بمسئولين صينيين، بمن فيهم نائب وزير الخارجية ما تشاو شو. وقد التقت وزيرة التجارة الأمريكية جينا رايموندو، بوزير التجارة الصيني وانج وينتاو، بواشنطن في 26 مايو الفائت لمناقشة بيئة التجارة والاستثمار، ومجالات التعاون بين البلدين، بجانب إثارة المخاوف الأمريكية بشأن الإجراءات الصينية ضد الشركات الأمريكية في الصين.
وقد سبق أن التقي مستشار الأمن القومي جيك سوليفان بعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني ومدير مكتب الشئون الخارجية المركزية في جمهورية الصين الشعبية وانج يي، في 11 مايو الفائت في فيينا بهدف إحياء العلاقة المتوترة بين الجانبين.
وفي محاولة لإبقاء خطوط الاتصال الاستخباراتية مفتوحة، بعد التوتر الذي شهدته العلاقات الأمريكية-الصينية في أعقاب أزمة بالون التجسس الصيني، وفي وقت تختلف فيه الدولتان بشكل متزايد حول تايوان والحرب الروسية-الأوكرانية وقضايا اقتصادية وتكنولوجية، قام مدير وكالة الاستخبارات المركزية ويليام بيرنز، الذي يصف الصين بأنها الأولوية الاستخباراتية الأولى للوكالة، برحلة سرية إلى الصين في مايو 2023.
منافسة أمريكية “مسئولة”
لم تُحدِث زيارة وزير الخارجية الأمريكي للصين، في ظل تعدد القضايا الخلافية بين الدولتين، وغياب اللقاءات بين المسئولين العسكريين الصينيين والأمريكيين، انفراجاً في العلاقات مع الصين، وهو أمر توقعه بعض المسئولين الأمريكيين وفي مقدمتهم مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، ولم تكشف عن تحول في الاستراتيجية الأمريكية تجاه الصين وتخلي أمريكي عن بعض محددات السياسة الخارجية في ظل احتدام المنافسة مع الصين، ولكنها عززت من جهود الولايات المتحدة لاستئناف الزيارات رفيعة المستوى بين مسئولي البلدين ووقف التدهور في العلاقات.
ولذلك، يتوقع أن تمهد زيارة وزير الخارجية الأمريكي للصين لزيارات مرتقبة لكل من وزيرة التجارة الأمريكية جينا رايموندو، ووزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين كجزء من الجهود الأمريكية للحفاظ على اتصالات رفيعة المستوى مع الجانب الصيني في ظل المقاربة الأمريكية القائمة على إدارة المنافسة المتشددة مع بكين بمسئولية حتى لا تتحول إلى صراع، من خلال مواصلة استخدام الدبلوماسية، لبحث المخاوف ومجالات التعاون المحتمل التي تتفق مع المصالح والأمن القومي الأمريكي.
وقد اتفقت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي في الصين مع تصريحات سابقة لمستشار الأمن القومي ووزيرة الخزانة الأمريكية بأن ضوابط التصدير المفروضة على صادرات أشباه الموصلات المتقدمة إلى الصين كانت مركزة وتهدف فقط إلى معالجة مخاوف الأمن القومي، وليست مصممة لتحطيم الاقتصاد الصيني. فقد نفي بلينكن، خلال مؤتمر صحفي، عمل الولايات المتحدة على تقويض الاقتصاد الصيني ووصول بكين للتكنولوجيا، لأن نجاح بكين اقتصادياً ونموها يصب في مصلحة الولايات المتحدة، لكنه أكد في الوقت ذاته أن واشنطن تعمل على منع وصول الصين إلى بعض التكنولوجيا التي من الممكن أن تستخدمها ضد الولايات المتحدة.
ورغم احتدام التنافس بين الولايات المتحدة والصين، فإن الإدارة الأمريكية تولي أهمية لعدم تحولها إلى صراع بين الدولتين، في مقابل منح أهمية لمقاربة المنافسة المسئولة لتشابك الاقتصاد الأمريكي والصيني، الذي يشكل حافزاً كبيراً للأمريكيين والصينيين لوقف احتدام الخلافات والمنافسة بينهما لأن كلاهما سيدفع ثمناً اقتصادياً هائلاً لأي اشتباك عسكري مسلح بينهما، ولحاجة الولايات المتحدة للتعاون مع الصين لمواجهة التحديات المشتركة العابرة للحدود الوطنية مثل تغير المناخ واستقرار الاقتصاد العالمي والأمن الغذائي والصحة العامة، والتي يصعب على قوى عظمى، حتى لو كانت الولايات المتحدة، مواجهتها منفردة.
قيود داخلية
يواجه نهج إدارة الرئيس جو بايدن للتعامل مع الصين، والذي يركز على المنافسة المسئولة، والذي كشفت عنه زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وما سبقها من زيارات ولقاءات بين مسئولين أمريكيين وصينيين، انتقادات من جانب الحزب الجمهوري، الذي يرى أن الديمقراطيين متساهلون مع التهديد الصيني. فقد اعتبر عدد من المشرعين الجمهوريين زيارة بلينكن لبكين بمثابة تقويض للأمن القومي من خلال محاولة تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع بكين بينما يضغطون من أجل نهج أكثر تشدداً مع الأخيرة.
ومع تحول قضية العلاقات الأمريكية-الصينية إلى قضية انتخابية بامتياز، وعلى أساسها يحدد الناخبون مواقفهم الانتخابية، والضغوط التي يماسها الجمهوريون على الإدارة الأمريكية لتبني سياسة متشددة، فإن جو بايدن، الساعي للفوز بفترة رئاسية ثانية في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في نوفمبر 2024، سيتجنب حدوث تصعيد كبير في العلاقات الأمريكية-الصينية، نظراً لعواقبه الاقتصادية الشديدة، مع تجنب أن يظهر بأنه يتبنى سياسة أمريكية ناعمة تجاه الصين.