فجأة صار الحديث عن السيادة الوطنية الشغل الشاغل لسياسيي العراق، ليعم ذلك الحديث في ما بعد صفوف الشعب الذي يحتاج كما يبدو إلى ما ينشغل به لخلو حياته من المشكلات.
لقد دق زعماء الميليشيات طبول الحرب وتنادوا من أجل رفع العلم العراقي في سماء بعشيقة التي دنّس ترابها الطاهر الأتراك بعد أن تآمروا مع الأخوين النجيفي (أثيل وأسامة) استكمالا لمؤامرة سقوط الموصل.
لقد بدا واضحا أن حجم الغيرة العراقية لن يسمح بالاحتلال التركي، حتى وإن كانت الأرض المحتلة لا تتجاوز الكيلومتر المربع الواحد، وهي مساحة المعسكر الذي أقامه الأتراك لتدريب جيش لفقه الأخَوان النجيفي.
فالعراق، وهو دولة ذات سيادة، لن يفرط أبناؤه الغيارى في شبر واحد من أرضه.
خبر سار حقا، لولا أنه لا يمت إلى الحقيقة بصلة. ذلك لأن السيادة في العراق أمر مشكوك فيه منذ أن وضعت على الرف عام 2003 حين قرر المحتل الأميركي عدم الالتزام بالقوانين الدولية التي تملي عليه مسؤولية الحفاظ على البلد، بناسه وثرواته وقوانينه وسبل العيش فيه.
حين حطم المحتل الأميركي الدولة العراقية تعرض مفهوم السيادة الوطنية للإزاحة والانحراف، وهو ما استفادت منه أطراف عديدة، محلية وإقليمية وعالمية. وهو ما سمح أيضا لدول الجوار بأن تلعب دورا مرئيا في إشعال نار الفتنة الداخلية، التي لا تزال مشتعلة حتى الآن وليس هناك ما يؤكد أنها ستنطفئ في وقت قريب.
لم يعد لدى العراق دليل واحد على أنه دولة ذات سيادة، لذلك تبدو العودة إلى رفع شعار السيادة الوطنية على قدر كبير من البلاهة يراد منها استغباء الشعب، لا لأن تنظيم داعش يحتل ثلث أراضي العراق فحسب، بل وأيضا لأن الجهات التي هددت تركيا بالويل والثبور إن لم تسحب جنودها من الأراضي العراقية، لا تدين بالولاء لما يسمّى بالحكومة العراقية التي يفترض أن يكون الخضوع لها نوعا من الاعتراف بتلك السيادة.
الميليشيات التي تبارى أمراؤها في الزعيق والصراخ مندّدين بالاحتلال التركي ومهدّدين بسحق الجيش التركي المحتل الذي لا يزيد عدد أفراده عن مئة وخمسين فردا هي الوجه الشيعي لداعش السنية.
فبغض النظر عن حفلات العرس الإعلامية التي تقام من أجل تكريس وجود ما صار يسمى بالحشد الشعبي، وهو عبارة عن تجمع لعدد من الميليشيات الخارجة على القانون، فإن ذلك الكيان العسكري لا يتوجه بولائه إلى الدولة العراقية ولو رمزيا.
لا يخفي زعماء الحشد الشعبي ولاءهم لإيران وعدم خضوعهم للحكومة العراقية، بل أن البعض منهم كان قد هدد غير مرة بإنزال العقاب برئيس تلك الحكومة إن لم يتراجع عن قراراته في الإصلاح.
وبهذا يكون الحشد الشعبي هو الآخر قوة احتلال، تتمترس وراء شعار رثّ هو “السيادة الوطنية”، فيما يشكل وجودها دليلا صارخا على أن شيئا من تلك السيادة لم يعد موجودا على أرض الواقع.
حين فشل العراقيون والروس معا في إقناع دول العالم في مجلس الأمن بالخطر التركي على سيادة العراق الوطنية وصلت المزحة إلى درجات كريهة من السخرية من الذات. وهو ما دأب العراقيون على القيام به، في محاولة منهم للالتفاف على حقيقة ما انتهوا إليه، شعبا ضائعا ودولة مستباحة.
العراق دولة مستباحة، غير أن عقول العراقيين هي الأخرى مستباحة.
كل ما يشهده العراق اليوم لا صلة له بالمشروع الوطني العراقي الذي قد لا يرى النور في وقت قريب، في ظل الاستقطاب الطائفي الذي يشكل العمود الفقري للعملية السياسية التي انتهت بالعراق دولة فاشلة.
ما لم ينفتح العراقيون على مشروعهم الوطني الموحد، فإن سيادتهم الوطنية ستظل مجرد كذبة، يضحكون بها على أنفسهم.
فاروق يوسف
صحيفة العربي الجديد