لن يكون تنويع إمدادات الطاقة في العراق مجدياً إذا لم يعاد تأهيل البنية التحتية للطاقة، وإذا كانت نسبة التكاليف إلى الإيرادات غير المتجانسة في وزارة الكهرباء غير مستدامة.في 4 تموز/يوليو، وفي ظل الارتفاع الشديد في درجات الحرارة صيفاً، أعلنت وزارة الكهرباء العراقية أن شبكة الكهرباء فقدت 5000 ميغاواط من قدرتها على التوليد، مما أدى إلى زيادة ساعات انقطاع التيار الكهربائي. ونتجت هذه الخسارة بسبب انخفاض إمدادات الغاز الطبيعي من إيران، وهي مشكلة متكررة عولجت لاحقاً بعد أن عقد البلدان إتفاقاً لتبادل الطاقة (ستتم مناقشة ذلك في الجزء الثاني من هذا المرصد السياسي). ومع ذلك، حتى قبل هذه الخسارة، كان العراق يولد حوالي 24000 ميغاواط، أي أقل بكثير من 34000 ميغاواط اللازمة وفقا للتقديرات لتلبية الطلب المحلي.وفي الواقع، تكبّد قطاع الكهرباء العراقي أضراراً جسيمة خلال العقود القليلة الماضية بسبب الحرب وعوامل أخرى. وتستمر الفجوة بين العرض والطلب في الاتساع مع استمرار الخسائر الفنية والتجارية، والتي تفاقمت بسبب التحديات المالية والفساد على مستوى عالٍ. ومع أن الحلول واضحة، إلا أنه لا يمكن تنفيذها دون دعم سياسي، الذي لم يتوفر بعد. وركز القطاع مؤخراً على جهود جديدة لاحتجاز الغاز وتوليد الكهرباء، والتي تشمل المشاريع في إطار الصفقة الموقعة للتو بقيمة 27 مليار دولار مع شركة “توتال إنرجيز” الفرنسية، والتي رحبت بها إدارة بايدن. ومع ذلك، إذا لم تقرن السلطات هذه المشاريع بتحديثات مهمة في البنية التحتية، فلن تتمكن الشبكة من استيعاب الإمدادات الجديدة، وستستمر الخسائر والسرقة. وتبرز أيضاً حاجة ماسة إلى اعتماد نظام مناسب لتحصيل الفواتير من أجل وقف النزيف المالي. ولسوء الحظ، قد يتسبب التدخل السياسي المستمر في مشاريع الطاقة بمزيد من التأخير في مثل هذه الخطط.المشاكل المالية والهدرفي كانون الأول/ديسمبر 2021، أفاد وزير المالية آنذاك، علي علاوي، في معرض حديثه عن الكهرباء بما يلي: “إذا لا يصلح هذا القطاع نفسه خلال السنوات الثلاث إلى الخمس القادمة، فهناك احتمال أن يؤدي ذلك إلى تدمير ميزانية الحكومة”، مشيراً بذلك إلى اختلال التوازن المالي في وزارة الكهرباء، الأمر الذي يتطلب نفقات بمليارات الدولارات بينما تبقى إيرادات الوزارة ضئيلة. ووفقاً لـ “صندوق النقد الدولي”، بلغ إجمالي التكاليف التشغيلية المعلنة للوزارة في عام 2019، 9.3 مليار دولار (11.0 تريليون دينار عراقي، أو 4 في المائة من “الناتج المحلي الإجمالي”)، بينما كانت الإيرادات أقل من مليار دولار. وقد يُعزى انخفاض الإيرادات إلى تفشي السرقة، وعدم توفر نظام مناسب لتحصيل الفواتير أو غيرها من تدابير استرداد التكلفة، وتداعي شبكة النقل والتوزيع. بشكل عام، تراوحت الخسائر الفنية والتجارية بين 50 و 60 في المائة تقريباً منذ عام 2019، وهي “من بين أعلى المستويات في العالم”.كما تشير مصادر عراقية إلى أن وزارة الكهرباء تعتمد بشكل كبير على الحكومة في عدة نواحٍ: لتسديد ثمن الوقود الذي توفره وزارة النفط، وتمويل الكهرباء التي تشتريها من مشاريع الاستلام والدفع التي يديرها منتجو الطاقة المستقلون، وشراء إمدادات الطاقة الإيرانية المتقلبة. على سبيل المثال، أنفقت الوزارة 2.78 مليار دولار لشراء الغاز الطبيعي الإيراني في عام 2021 وضعف هذا المبلغ في العام التالي، بينما بلغت تكلفة استيراد الكهرباء الإيرانية حوالي مليار دولار في عام 2021.وفي غضون ذلك، يهدر العراق كميات هائلة من الغاز عن طريق الحرق خلال إنتاج النفط الخام. ووفقاً لـ “البنك الدولي”، يُعد العراق ثاني أكبر دولة في العالم بعد روسيا من ناحية حرق الغاز. وفي أيار/مايو، صرح رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أن العراق يحرق 1200 مليون قدم مكعب قياسي يومياً من الغاز بينما يستورد 1000 مليون قدم مكعب قياسي في اليوم من إيران، مما يكلف الحكومة ما لا يقل عن 4 مليارات دولار سنوياً. فضلاً عن ذلك، تشكل الانبعاثات الناتجة من حرق الغاز خطراً على العراقيين الذين يعيشون بالقرب من حقول النفط العملاقة، وتساهم أيضاً في تغير المناخ من خلال إطلاق ملايين الأطنان من ثاني أكسيد الكربون والميثان في الغلاف الجوي.Open imageSatellite images of flaring at an oil field in Rumaila, one of several Iraqi installations that regularly waste large volumes of gas in this manner. Source: Planet Labs, 2021-22.وفي الآونة الأخيرة، كثّف العراق جهوده لاحتجاز الغاز واستخدامه جزئياً في محطات توليد الكهرباء وسعى أيضاً إلى حد الواردات من إيران. وتشمل هذه المشاريع مبادرة من “شركة غاز البصرة” التي تديرها شركة “شل”، وكذلك مشروع نمو الغاز المتكامل، في إطار الاتفاق الذي وقعته بغداد مؤخراً مع شركة “توتال إنرجيز”. وتلقى هذه المشاريع ترحيباً بالنظر إلى أن العراق هو من البلدان الأكثر عرضة لتغير المناخ.Open imageومع ذلك، إذا لم تكبح الحكومة التدخل السياسي وتتجنب خلافاتها التعاقدية المعتادة خلال مرحلة التنفيذ، فلن تساعد هذه المشاريع قطاع الكهرباء. ووفقاً لويم زويجنينبورغ من منظمة “باكس” الهولندية، اتخذ العراق بعض الخطوات للاستثمار في احتجاز الغاز، ولكن “أي شركة دولية لن تستثمر المليارات في التكنولوجيا إذا كانت الحكومة غير مستقرة، ومع استمرار المخاطر الأمنية ومشاكل الفساد الخطيرة”. ولخّص وزير الكهرباء العراقي السابق لؤي الخطيب جميع هذه المشاكل في تعليقات أدلى بها لكاتبة هذا المقال: “إذا استمر العراق في التعامل مع قطاع الكهرباء على هذا النحو، فسيكون من الصعب إصلاح قطاع الكهرباء مهما كانت قدرة توليد الكهرباء التي يكتسبها العراق، وبغض النظر عن كمية الوقود التي تؤمنها المصادر الحكومية”.العقوبات والتنازلات الأمريكيةوفقاً للمتحدث باسم وزارة الكهرباء، أحمد موسى، يحتاج العراق إلى 55-60 مليون متر مكعب يومياً من الغاز الإيراني صيفاً، غير أنه لا يتلقى هذه الكمية. وعندما انخفضت الإمدادات بشكل حاد في 4 تموز/يوليو، عزت الحكومة هذا الانخفاض إلى العقوبات الأمريكية التي تمنع المعاملات المالية مع إيران، بينما نسبته طهران إلى مشاكل فنية ناجمة عن موجة حر.وتم تجديد الإعفاءات الأمريكية التي تسمح للعراق بمواصلة استيراد إمدادات الطاقة من إيران مراراً وتكراراً منذ عهد ترامب، وبررتها جزئياً جهود العراق الرامية إلى تنويع مصادر الطاقة. وتشمل هذه الجهود مشاريع احتجاز الغاز المذكورة أعلاه، والاستثمارات في حقول الغاز، والمشروع المتأخر الذي يربط شبكة الكهرباء في العراق بشبكة “مجلس التعاون لدول الخليج العربية”.ووفقاً لمصدر أمريكي، تُمنح هذه الإعفاءات بشكل أساسي لحماية “المصرف التجاري العراقي”، “بما أن الحكومة تسدد ثمن إمدادات الطاقة الإيرانية من خلال تحويل الأموال إلى حسابات إيرانية في «المصرف التجاري العراقي»”. وغالباً ما يُلقى اللوم على واشنطن للتخفيضات المتكررة في إمدادات الغاز الإيراني لأنها جمّدت الأموال الإيرانية في “المصرف التجاري العراقي”، على الرغم من أن المشاكل الفنية والطلب المحلي الإيراني تسببا في بعض الأحيان في انخفاض الإمدادات أيضاً. وفي 9 تموز/يوليو، دعا “الإطار التنسيقي”، وهو التحالف السياسي الرئيسي الموالي لإيران في العراق، بغداد إلى مطالبة الولايات المتحدة بتحرير المدفوعات. وفي السابق، طلب العراق أحياناً، في إطار جهوده الرامية إلى تسديد ثمن إمدادات الطاقة لإيران، إذناً منفصلاً من الولايات المتحدة لتسديد مدفوعات معينة نيابة عن طهران، فيما يتعلق بالأموال التي تدين بها إيران لدول أخرى أو لأغراض مثل الحج والتعاملات للأنشطة الإنسانية. وكانت واشنطن مستعدة لإلغاء تجميد الأموال لهذه الأغراض، شرط تسديد المدفوعات باليورو (لمنع إساءة استخدام العملة الأمريكية) وتحويلها مباشرةً إلى الدائنين.ولكن في نهاية المطاف، لم تعد بغداد قلقة بشأن مسألة الإعفاءات الأمريكية لأنها تعتقد أن واشنطن ستواصل منحها مشتريات الطاقة. وكما قال موسى لكاتبة هذا المقال: “حالما تنتهي صلاحية الإعفاءات، يتم تمديدها لأنه لا تزال هناك حاجة لاستيراد الغاز. بالإضافة إلى ذلك، أصبح الجانب الأمريكي اليوم مقتنعاً بـ [جهود] العراق لتنويع مصادر طاقته”. وفي الواقع، سيستمر العراق في الاعتماد على واردات الطاقة الإيرانية لسنوات.ولكن مجدداً، لن تفيد مشاريع التنويع قطاع الكهرباء الأوسع نطاقاً أو تخفف من الهشاشة المالية للوزارة ما لم تحدّث بغداد أيضاً البنية التحتية ذات الصلة وتعتمد الإطار التنظيمي المناسب. على سبيل المثال، تتضمن الصفقة الضخمة مع “توتال إنرجيز” تطوير محطة طاقة شمسية بسعة 1 غيغاواط، وهو إعلان واعد على الورق، إلا أن الشبكة الحالية لا تستطيع استيعاب إمدادات جديدة كبيرة، وقد تنشأ تحديات إضافية. وكما قال خبير الطاقة هاري ستيبانيان لكاتبة هذا المقال: “يحتاج العراق إلى جميع أنواع مصادر الطاقة المتجددة”، ولكن عدم القدرة على التنبؤ المترافقة مع الخيارات المعتمدة على الأحوال الجوية قد يجعلها غير مناسبة للحالة “الهشة” الحالية للشبكة العراقية. وأوضح أنه في الوضع الراهن، يفقد العراق آلاف الميغاواط في كل مرة تقيد فيها إيران إمداداتها من الغاز، مما يجعل “انخفاض الجهد وانحراف التردد” مشاكل رئيسية في الشبكة.الخطوات التاليةيعتقد البيت الأبيض أن مشاريع التنويع التي أعلنت عنها مؤخراً بغداد “ستعزز أمن الطاقة في العراق وموثوقية شبكة الكهرباء” وتساعد البلاد على تحقيق أهدافها المناخية. ومع ذلك، فعلى المستويات الفنية والمالية والسياسية، لا يزال أمام العراق شوط طويل ليقطعه قبل أن يقترب حتى من تحقيق أي من هذه الأهداف. فقطاع الكهرباء فيه لا يزال يحاول اللحاق بالركب بعد سنوات من الحرب الداخلية ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، وهو نزاع أثرت تداعياته على أولويات بغداد وتسبب بتأجيل تنفيذ الكثير من الإصلاحات العاجلة. ولا يزال القطاع يفتقر إلى نظام الفواتير المناسب، وتتم زيادة توليد الكهرباء دون تحديثات مناسبة في الشبكة الكهربائية، ويستمر الفساد والتدخل السياسي في شؤون الطاقة بلا هوادة. ولا يمكن الاعتماد على قطاع الكهرباء دون معالجة هذه المشاكل الكبرى، لا سيما في موسم الصيف المحفوف بالتحديات.
نعوم ريدان