لندن- تواجه دول عربية عاشت على وقع ما سمي بـ”الربيع العربي” خلال العشرية الماضية أزمة كهرباء متفاوتة الحدة، وهو ما يسلط الضوء على مرحلة من الفوضى سيطرت فيها الشعارات والجدالات الأيديولوجية وانشغل خلالها السياسيون بتقاسم السلطة ونشر “أوهام” الحرية والديمقراطية.
وتتوالى التقارير التي تفيد بتكرر انقطاع التيار الكهربائي في مصر وتونس وسوريا واليمن، في وقت يقول فيه مراقبون إن هذه الانقطاعات هي مؤشر على حال الأوضاع التي عاشتها دول الربيع العربي طيلة عقد من ضياع الفرص التنموية التي تبددت في مطلبيات سياسية وتبذير حكومي وفساد وحروب أهلية.
وفي حين غرقت دول مثل اليمن وسوريا وليبيا في الاقتتال والعنف والانقسامات السياسية، نعمت تونس ومصر باستقرار نسبي كان يمكن توظيفه في وضع خطط استباقية تجنب الحكومات الأزمات التي تمر بها في هذه المرحلة الدقيقة التي تشهد فيها دول أزمات اقتصادية ونقصا في المواد الغذائية وارتفاع أسعارها جراء الحرب الروسية – الأوكرانية وقبلها بسبب وباء كورونا، بالإضافة إلى تراجع المحاصيل الزراعية بسبب الجفاف والتغيرات المناخية.
وبينما أوحت مصر خلال السنوات الماضية بتجاوز مشكلة نقص الكهرباء وأعلنت عن توفر فائض في الإنتاج وجهته إلى التصدير، عادت الأزمة لتطل من جديد هذا الصيف على وقع ارتفاع درجات الحرارة وتزايد استخدام وسائل التبريد، وهو ما تسبب في تكرّر انقطاع التيار الكهربائي نتيجة التوسع في خطة ترشيد الكهرباء والتقشف في استهلاكها من خلال العمل على طرح الأحمال بهدف توجيه كميات أكبر نحو التصدير.
وقال خبير الطاقة المصري رمضان أبوالعلا إن مصر تمر بأزمة اقتصادية حادة وتحتاج إلى كل ما تيسّر من النقد الأجنبي، وهذا يتطلب تصدير أكبر كمية ممكنة من الغاز الطبيعي المنتج محليا.
وأضاف لـ”العرب” أنه يتفق كخبير مصري في هذا المجال مع توجه الحكومة إلى تصدير الغاز على حساب تخفيف أحمال محطات الكهرباء، لكن ذلك يتطلب مشاركة المواطنين وتقديم حوافز لمن يقللون استهلاك الكهرباء عبر تخفيض قيمة فواتير الكهرباء لمن يلتزمون بترشيد الاستهلاك وخفضه إلى النصف.
ووفقا لأحدث تقرير صدر عن مجلس الوزراء المصري، تحول العجز في الكهرباء إلى فائض يسمح بالتصدير بفضل المشاريع الكبرى، ووصلت قيمة الاستثمارات في مجال إنتاج الكهرباء إلى 11 مليار دولار منذ عام 2014 حتى نهاية العام الماضي.
وأظهر التقرير أنه تمت إضافة نحو 30 ألف ميغاواط كقدرات كهربائية بعد الانتهاء من تنفيذ 31 محطة إنتاج طاقة كهربائية، ومجمع بنبان للطاقة الشمسية في جنوب مصر، ليصل فائض الكهرباء في يونيو 2020 إلى 13 ألف ميغاواط بعد عجز وصل إلى 6 آلاف ميغاواط في يونيو 2014.
ويستهلك القطاع المنزلي نحو 14 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا، وبتوفير نصف هذه الكمية تحصل مصر على 18 مليار دولار سنويًا، وهي طريقة يمكن من خلالها الاستغناء عن الاقتراض من صندوق النقد الدولي مستقبلا.
وأكد رمضان أبوالعلا لـ”العرب” أن “ترشيد استهلاك الغاز محليًا من أجل تصديره يمكن أن يتقبله المواطنون حال انعكس ذلك إيجابيّا على الاقتصاد ومستوى معيشتهم، وإنتاج الغاز المصري مستقر لكن الحكومة توجه أكبر حصيلة غاز ممكنة إلى التصدير”.
ومن أبرز المشاريع لزيادة إنتاج الكهرباء في مصر تنفيذ شركة “سيمنز” ثلاث محطات هي: العاصمة الإدارية في شرق القاهرة وبني سويف جنوبها والبرلس شمالها، بإجمالي استثمارات بلغ 6.5 مليار دولار، وإجمالي قدرات بلغ 14.4 ألف ميغاواط، بينما تم تنفيذ مجمع بنبان للطاقة الشمسية بكلفة بلغت نحو ملياري دولار، وإجمالي قدرات بلغ 1465 ميغاواط.
وقال سعيد يونس، عضو جمعية مستثمري السويس بشرق القاهرة، إن هناك عدم رضاء شعبي بسبب انقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرر، مع عدم وجود خطة منظمة لفصل التيار.
وأقامت مصر ثلاث محطات لإنتاج الكهرباء في منطقة جبل الزيت بكلفة بلغت 600 مليون يورو، وإجمالي قدرات يبلغ 580 ميغاواط، وتحويل خمس محطات لتوليد الكهرباء من العمل بالدورة البسيطة إلى العمل بنظام الدورة المركبة، بإجمالي استثمارات بلغ 900 مليون دولار، وقدرات مضافة تبلغ 1840 ميغاواط.
وأوضح سعيد يونس لـ”العرب” أن “الحكومة لم تنجح في التعامل بموضوعية مع أزمة تكرُّر انقطاع التيار الكهربائي، فلم توضح للمواطنين الأسباب الحقيقية، ولم تصرح سوى بوجود ضغط شديد على شبكة الكهرباء ولجأت إلى تخفيف الأحمال”.
وأشار إلى أن المواجهة والمصارحة في صالح الحكومة ويمكن أن يتقبل الشعب استمرار الانقطاع، متوقعا استمرار الأزمة حتى انتهاء فصل الصيف في ظل حاجة البلاد الماسة إلى تصدير الغاز.
في المقابل تراجعت معدلات قطع التيار الكهربائي بشكل ملموس في ليبيا، بعد أن تمكنت حكومة عبدالحميد الدبيبة من معالجة الأزمة؛ حيث لم تسجل البلاد سوى بعض الانقطاعات بسبب مشاكل في التبريد بالدرجة الأولى. وبلغت انقطاعات الكهرباء ذروتها في البلاد خلال عهد رئيس الحكومة السابق فايز السراج حيث تجاوزت في بعض المناطق 8 ساعات.
وجعل الدبيبة، الذي يقول محللون إنه يخطط للبقاء طويلا في السلطة، من معالجة أزمة الكهرباء أولوية لحكومته ووقع عقودا مع شركات تركية وألمانية لإنشاء محطات توليد جديدة.
وسهل إنتاج البلاد الكبير نسبيا من النفط والغاز مهمة حكومة الدبيبة لاحتواء الأزمة، في المقابل بدأت الأزمة تحتدّ في تونس منذ نحو سنتين وسط تخوفات من تفاقمها؛ حيث لم يعهد التونسيون الانقطاعات بشكل دوري ويبدو أنها تندرج في سياق سياسة طرح الأحمال.
وتشهد تونس مثل غالبية الدول المتوسطية موجة حر غير مسبوقة هذه الأيام ما يسهم في تزايد الطلب على أجهزة التكييف والمبردات. ورغم الحديث الذي لم يتوقف على مدى السنوات الماضية بشأن ضرورة الانتقال إلى الطاقات المتجددة، إلا أن البلاد مازالت إلى اليوم تنتج أكثر من 95 في المئة من الكهرباء من النفط والغاز اللذين تستوردهما. وتمر البلاد بأزمة اقتصادية وسط تعثر المفاوضات بين الحكومة التونسية وصندوق النقد الدولي.
وقال الخبير الاقتصادي ووزير التخطيط السابق في تونس فوزي بن عبدالرحمن “من ناحية الإنتاج تونس تنتج 4.5 جيغاواط، وهي نسبة قليلة جدا ولا تكفي نظرا لطبيعة الاستهلاك التونسي المختلفة عن طبيعة استهلاك الكثير من البلدان الأخرى، حيث أن ذروة الاستهلاك الكهربائي في تونس تكون في فصل الصيف على الساعة الثامنة ليلا بالتوقيت المحلي، بينما تكون في البلدان الأوروبية في فصل الشتاء”.
وأضاف في تصريح لـ”العرب”، “لا بدّ أن نضاعف حجم الإنتاج، إذ تحتاج البلاد إلى ما بين 8 و9 جيغاواط لتحقيق الاكتفاء من الكهرباء، كما أن الكهرباء ستستغل مستقبلا في النقل والمصانع”.
وأشار فوزي بن عبدالرحمن إلى أن “الطاقة في تونس من المواضيع الإستراتيجية التي لم تنل حظّها كما ينبغي إلى جانب المياه، حيث أن الإنتاج ضعيف وشبكة التوزيع حكر على الدولة، وشركة الكهرباء والغاز هي المحتكر والموزع الرسمي للكهرباء”.
وتابع “نسبة الطاقات المتجددة والبديلة لا تزال ضعيفة، والدولة تريد الوصول إلى نسبة 20 في المئة بحلول سنة 2030، بينما لا يتجاوز الإنتاج اليوم 3 في المئة من الطاقات البديلة”، لافتا إلى أن “كلفة الإنتاج فيها سوء تصرّف ويتكفّل بخلاصها النسيج الاقتصادي والأسر، وهنا لا بدّ من حوكمة القطاع”.
وبخصوص عدم استباق الأزمة لتجنّب احتدامها قال فوزي بن عبدالرحمن “لم نستبق الأزمة نظرا لانعدام الكفاءة، كما أن الاستباق يحتاج إلى رؤية مستقبلية اقتصادية وسياسية وإستراتيجية”، مشيرا إلى أن “الدراسات الإستراتيجية موجودة، لكنّها لم تُفعّل، والإنجاز في هذه المشاريع يكون مكلفا جدّا، وهي مشاريع دولة بالأساس”.
واستطرد قائلا “لا توجد أطر قانونية وسياسية للانكباب على هذه الملفات الهامّة، كما أن هناك استقالة جماعية من النخب السياسية التي ما عادت تهتم بمثل هذه المسائل”.
وفي اليمن تعرضت 50 في المئة من محطات توليد الكهرباء لأضرار جزئية بينما دمرت 8 في المئة منها بشكل كامل. وبدلا من البحث عن حل للأزمة -حيث تحتاج المحطات إلى التجديد، فضلا عن توريد النفط لتوليد الكهرباء بشكل منتظم- يتبادل أطراف الصراع الاتهامات بشأن الجهة المسؤولة.
وفي سوريا تعاني الكثير من المحافظات، بما في ذلك العاصمة دمشق، من أزمة في وصول التيار الكهربائي، بسبب الأعطال والمشاكل التي أصابت الشبكات في البلاد. وغرقت العاصمة وضواحيها قبل نحو أسبوعين في الظلام جراء عطل فني استمر ساعات.
العرب