أردوغان أخذ الأتراك معه إلى أبوظبي

أردوغان أخذ الأتراك معه إلى أبوظبي

تبدو المسافة الزمنية الفاصلة بين المصالحة الإماراتية – التركية قصيرة، كي تحتوي على كل حجم التغيرات في الموقف الإماراتي الداعم بقوة لحيوية الاقتصاد التركي، بل والعمل على إنقاذه. فبعد إشارات واضحة عن “تصفير المشاكل” بين البلدين، أخذها الطرفان بجدية واضحة، ورغم ما أحاط هذه الفترة من ضغوط تزامنت مع الانتخابات التركية، لكن الجميع تصرف على أساس حساسية عامل الوقت في هذا التوقيت الاستثنائي عالميا وتركيّا. لا نعرف بالضبط ماذا سمع القادة الإماراتيون في أنقرة، لكن المؤكد أن ما وصلهم عزز قناعتهم أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اتخذ قرارا لا رجعة فيه بأن يقطع مع سياساته العدوانية تجاههم، أيّا كانت مبرراتها ودوافعها.

البروتوكولات والاتفاقات الثنائية الموقعة بين البلدين ضخمة بكل المعايير. الرقم المعلن هو أكثر من 50 مليار دولار من التدفقات المالية والاستثمارات الإماراتية في الاقتصاد التركي. هذه أموال مهمة في مرحلة اقتصادية عالمية عصيبة لا أحد يعرف أين ستقود العالم.

◙ وتركيا، إذا غيّرت من سياستها، فهي تعرف أنها نقطة مفترق طرق، وهي التي علمت نفسها بنفسها مرارات الأخطاء في اتخاذ القرارات ثم الشروع بتغيير وجهتها لأسباب سياسية

الملاحظة الأولى التي يمكن تسجيلها على صعيد هذا التطور الإقليمي المهم في العلاقات بين البلدين هي أن لا إشارات سياسية أو ملاحظات إقليمية صاحبت أيّا من الاتفاقيات. هذان بلدان بمقومات إستراتيجية مختلفة يمكن أن يعملا سوية على إعطاء هذه المقومات، ربما لأول مرة منذ وصول الإسلاميين إلى الحكم في تركيا قبل ربع قرن، فرصة أن تزدهر بحق. سبق وأن حاولت الإمارات أن تمد يدها الاقتصادية لتركيا ووقّعت عقودا ضخمة لتمويل توليد الطاقة الكهربائية في تركيا عام 2012، لكن روح المغامرة للحكومة التركية في حينها وانجرارها لتيار الربيع العربي، كانا مغريين تماما لأردوغان. بقية القصة معروفة عن الربيع العربي والإخوان وقطر.

القرار بمثل حجم قرار الموقف من دعم الاقتصاد التركي، يتخذ على أعلى المستويات في الإمارات. فرق مؤهلة دبلوماسية وسياسية واقتصادية واستخبارية تقوم بمهمة الإعداد لما يحتاجه القرار، لتتوفر لقائد البلاد الشيخ محمد بن زايد آل نهيان كل المعطيات اللازمة. القرار بمثل هذا المستوى، يجمع رؤية القائد وقوى شكيمته.

لكن ليس من باب المصادفة أن الجهاز التنفيذي الذي يقوم على تنفيذ قرار إستراتيجي تقوده شخصية تغطي صلاحياتها أكثر من وجه رسمي واستثماري ومالي. فالشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن الوطني هو الشخصية المحورية في آليات الأمن القومي في البلاد، وهو رئيس واحدة من أهم مجموعات الاستثمار القابضة في الإمارات، ورئيس مجلس إدارة بنك أبوظبي الأول، أكبر بنوك الشرق الأوسط. في كل حلقة من حلقات ما بعد القرار على الانفتاح على تركيا، يكمن مفصل تنفيذي يحتاج الاهتمام به ودفعه ومعالجته. هذه تركيا، البلد المجروح في كبريائه على أكثر من وجه، ليس أقلها جرح الزلزال.

الشيخ طحنون بن زايد وفريقه، كانوا يعرفون ماذا ينتظرون من تفاصيل سيقدمها الأتراك. المسؤولون الأتراك جديون تماما، ويعرفون ما هو على المحك. ما كان من أحد بوسعه أن يضيع مثل هذه الفرصة التي لن تتكرر على المدى المنظور. ذهب المسؤولون الأتراك إلى أبوظبي وهم مستعدون، فوجدوا من هو مستعد. ودارت العجلة.

هذا يحسب للأتراك. فإدراك المتغيرات في العالم، والإحساس بحركة الزمن هما الأساس في هذه السرعة الخاطفة التي جعلت فيها الأمور تتغير بين البلدين. هذا أمر تدركه حتى قطر، بغض النظر عن ارتياحها أو عدم راحتها من التقارب الإماراتي – التركي. فالدوحة، بحكم علاقتها الإستراتيجية مع تركيا، أكثر الدول العربية اطّلاعا على ما تواجهه أنقرة من تحديات. ليس من المبالغة في القول بأن تقاربا إماراتيا – تركيا ينقذ الاقتصاد التركي من الانهيار يصب في صالح عدم فقدان الاستثمارات القطرية في تركيا قيمتها، لو حدث وانهار الاقتصاد التركي على نفسه وعلى غيره.

القفزة كبيرة. ومن الواضح أن الكثيرين لم يستوعبوا حجمها، لكن هذه دول كبيرة ومؤثرة ولا تتحرك بأحجام ترقيعية أو استرضائية. الإمارات إما أن تتحرك لتحسم، أو لا تتحرك. وتركيا، إذا غيّرت من سياستها، فهي تعرف أنها نقطة مفترق طرق، وهي التي علمت نفسها بنفسها مرارات الأخطاء في اتخاذ القرارات ثم الشروع بتغيير وجهتها لأسباب سياسية، بل وأسمح لنفسي بالقول وصلت إلى الأسباب الأيديولوجية العاطفية التي لا مكان لها في عالم اليوم.

من المهم إجراء إشارة سريعة إلى أن الأزمة اليوم مختلفة عندما كانت مصر في قلب الصراع في المنطقة. من المفيد أن يدرك المصريون أن التعامل الإماراتي اليوم معهم لا يختلف عمّا كان قبل 10 أعوام. المصريون في قلب الإماراتيين كما تسمع في كل مكان في أبوظبي. ولكن المصريين غير شركات الجيش المصري. عندما يتحدث المصريون عن استثمارات لمصر، فإنهم يقدمون ما يشبه بقائمة مشتريات مشروطة: هذا نريده وهذا لا نريده. لوقت ليس بعيدا، مرت الكثير من قوائم المشتريات هذه. لكن الدعم، بأشكاله المالية والاستثمارية والإيداعات، لا يمكن أن يستمر على هذا المنوال. إذا جاز التعبير، ذهب أردوغان إلى أبوظبي بلا قوائم شركات الجيش، بل أخذ الأتراك معه. ذهب يقول للإماراتيين هذا استثماركم البعيد في تركيا وليس بمشروع سياسي. وهذا ما ينفع أن يتم سماعه في أبوظبي. بلا شك أن المقارنة لا تصح بالأصل بين الاقتصاد التركي ذي الإنتاجية العالية والمنافس في كل نطاق، مع اقتصاد مصر الذي لا يزال، بأفضل أحواله، في مرحلة التخطيط.

العرب