حاكم شيعي لمصرف لبنان يُقرض بقاء الدولة من “الاحتياطي الإلزامي”

حاكم شيعي لمصرف لبنان يُقرض بقاء الدولة من “الاحتياطي الإلزامي”

سيتعين على قادة مصرف لبنان الجدد التعامل مع فجوة في النظام المالي تزيد قيمتها على 70 مليار دولار، ودعم سياسي غير مؤكد في دولة منقسمة للغاية، وغضب شعبي جامح من تبدد الثروتين الوطنية والخاصة، ما يضعهم أمام سيناريو معقد قد يطيح بما تبقى من “الصمود النقدي” للدولة التي لا تمتلك سوى القيام بإصلاحات اقتصادية عاجلة تنقذها من الانهيار.

بيروت – يتولى نائب رئيس مصرف لبنان وسيم منصوري، وهو شيعي محسوب على حركة أمل بقيادة نبيه بري، منصب حاكم المصرف المركزي للمرة الأولى في تاريخ لبنان، ريثما يتم العثور على حاكم جديد تقتضي الأعراف أن يكون مسيحيا مارونيا.

فبعد جولة “تهديدات” أثارت الشكوك حول مقدار جديتها باستقالة نواب حاكم المصرف بعد انقضاء ولاية رياض سلامة، انتهت مساعي رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بإقناع نواب الحاكم الأربعة بالبقاء في مناصبهم، وتولي منصوري منصب الحاكم بصفة مؤقتة. وإلى جانب منصوري فإن النواب الثلاثة الآخرين هم سليم شاهين (سني) وبشير يقظان (درزي) وألكسندر موراديان (أرمني كاثوليكي).

وبالنظر إلى أنه “لا دائم كالمؤقت” في لبنان، فإن تعيين حاكم جديد للمصرف يتطلب أولا انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وهي عملية لا أحد يعلم كم يمكنها أن تطول، كما لا أحد يعلم كيف سيتم اختيار الحاكم الجديد من بين عدة مرشحين يتحولون إلى سبب إضافي للتنازع السياسي بين الأطراف المسيحية المختلفة حتى بعد انتخاب الرئيس.

ولكن منصوري بدا متحمسا لتولي المنصب، قائلا إنه “ليس من النوع الذي يترك المعركة ولا يعمل في الوقت عينه على خوض معارك خاسرة”. وهو يزيد في تأكيد الشكوك حول جدية تهديده السابق بالاستقالة.

خطوة منصوري ترقى إلى مستوى المحافظة على بقاء الدولة على حساب بقاء المصرف ريثما تتوفر للدولة موارد جديدة
◙ خطوة منصوري ترقى إلى مستوى المحافظة على بقاء الدولة على حساب بقاء المصرف ريثما تتوفر للدولة موارد جديدة
والخطوة الأولى التي تم التوافق عليها بينه وبين الرئيس ميقاتي هي أن يتكفل المصرف بتمويل الحكومة بمبلغ 200 مليون دولار شهريا حتى نهاية العام الجاري من “الاحتياطي الإلزامي” المتاح للمصرف الذي يغطي به معنى وجود عملة محلية.

ويبلغ الاحتياطي النقدي لدى المصرف المركزي نحو 9 مليارات دولار، وإلى جانب احتياطات الذهب التي تبلغ نحو 17 مليار دولار، فإنها كل ما يملكه لبنان قبل أن تعلن الدولة إفلاسها التام، وتعجز عن دفع الرواتب وكل الاستحقاقات الأخرى المتعلقة باستيراد المواد الأساسية مثل الأدوية والوقود وغيرها. هذا إذا لم تقرر قبل ذلك بيع أصولها العقارية التي تتفاوت التقديرات حول قيمتها أو ما إذا كان من الممكن تسييلها أصلا.

ويقول مراقبون إن خطوة منصوري الأولى ترقى إلى مستوى المحافظة على بقاء الدولة على حساب بقاء المصرف نفسه، ريثما تتوفر للدولة موارد جديدة. ويعني هذا التمويل أن تحصل الأطراف السياسية على كل ما تحتاجه من الوقت لإنجاز مناوراتها السياسية المتعلقة بانتخاب رئيس وحكومة جديدين.

وبحسب الاتفاق، فإن المبلغ المقترض يتم تقديمه عبر عقود اقتراض بين المصرف المركزي ووزارة المالية، على أن تلتزم الحكومة باحترام خصوصية هذه القروض وسداد أقساطها من خلال موارد الخزينة المجباة بالعملات الصعبة في المطارات والمرافئ وسواها.

كما يفترض أن تعمد الحكومة إلى الشروع بإعداد مشروع قانون يغطّي الصرف من ذلك الاحتياطي ضمن سقف لا يتعدّى المليار دولار، وبهدف تلبية المصاريف الضرورية فقط، لاسيما صرف مخصصات القطاع العام وفق سعر الدولار الساري حالياً على منصة “صيرفة” وفاتورة الأدوية الملحة.

وفي محاولة لتغطية “ظهر” الحاكم المؤقت ونوابه إزاء ما يعنيه الإنفاق على الدولة من الاحتياطي النقدي، فإن المجلس المركزي للمصرف يطالب بإضافة مادة قانونية خاصة بالتزام السداد. ولكن السؤال الغائب، هو أن الدولة التي لا تجد ما يكفي لتمويل احتياجاتها الأساسية وتضطر إلى الاقتراض من أصول المصرف المركزي لتغطية العجز، كيف سيمكنها تسديد تلك القروض؟

وكان نواب الحاكم قد قرروا سلفا إلغاء منصة “صيرفة” التي يشرف عليها المصرف لتمويل السوق بالدولارات وتخفيف الضغوط على الليرة اللبنانية. وهو ما يعني ترك الليرة لتواجه مصيرها في السوق الحرة، حيث يمكن للمصرف أن يدعم الليرة بشرائها.

وعلى الرغم من الاستقرار النسبي لأسعار صرف الليرة عند حدود قريبة من سعر المصرف، إلا أن هناك مخاوف من أن يؤدي إلغاء منصة “صيرفة” وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتطبيق الكابيتال كونترول وتشريع الاقتراض من الاحتياطي الإلزامي إلى انهيار أسعار صرف الليرة أكثر مما هي عليه الآن. وهو ما ينعكس تراجعا على رواتب موظفي القطاع العام.

وقال النائب الثالث لحاكم المصرف المركزي شاهين إن نواب حاكم المصرف يمنحون النخبة السياسية ستة أشهر لإجراء إصلاحات بناءة، لكنه لم يفصح عما إذا كانوا سيهددون مجددا بالاستقالة إذا لم يتم إجراء تغييرات. وأضاف “شرطنا أن تكملوا الإصلاحات المطلوبة، بدءا بقانون ضوابط رأس المال”.

◙ منصوري بدا متحمسا لتولي المنصب مؤكدا أنه ليس من النوع الذي يترك المعركة ولا يعمل في الوقت عينه على خوض معارك خاسرة

وقال مايك عازار الخبير في الشؤون المالية بلبنان إن نواب الحاكم في مأزق. وأضاف “السؤال هو: هل سيفعلون الشيء الصحيح ويتصرفون باستقلالية كما يسمح لهم القانون، حتى في مواجهة ما سيكون بالتأكيد ضغوطا سياسية شديدة؟”. واقترح منصوري وثلاثة نواب آخرين لحاكم مصرف لبنان مجموعة من الإجراءات تتضمن تشريعات عاجلة لإصلاح القطاع المصرفي ووضع ضوابط على رأس المال والتخلص من ربط الليرة اللبنانية بالدولار القائم منذ عقود.

لكن النخبة السياسية قاومت إجراءات الإصلاح في السنوات القليلة الماضية، مما جعل الشكوك تحيط بالخطوات التي اقترحها للمستقبل نواب حاكم مصرف لبنان. ويخشى بري أن يتحول تراجع أسعار صرف الليرة إلى ثمن سياسي باهظ للطائفة الشيعية بتحميلها مسؤولية الانهيار، لاسيما وأنها تتولى وزارة المالية ومنصب المدعي العام المالي.

ومصدر الخشية هو أن حاكمية المصرف الجديدة تسير من الناحية الفعلية في حقل ألغام، لا تعرف أيّا منها سوف ينفجر تحت أقدامها. فالإنفاق من “الاحتياطي الإلزامي” يعني إقامة ثقوب في جدار “الصمود النقدي” أمام سيل الضغوط الاقتصادية والسياسية.

وفي حال لم يتم حل أزمة الفراغ الرئاسي، والتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لتطبيق الإصلاحات المطلوبة، أو في حال تحول الصراع السياسي إلى صراع على هذه الإصلاحات نفسها، فإن التمويلات الجديدة المنتظرة لن تأتي، وذلك بينما تنضب تلك الاحتياطات وتعجز الدولة عن السداد، حتى ليبدو أن المصرف يقوم بتنفيذ عملية انتحارية قائمة على رهان واحد، هو أن الألغام تحت أقدام حاكميته لن تنفجر.

العرب