طهران- على النقيض من النخبة الإيرانية التي تنقسم حيال سياسات بلادها الخارجية، تشخص عيون الرأي العام إلى الأسواق الاقتصادية، بانتظار تداعيات الاتفاق السياسي بين إيران والولايات المتحدة الأميركية على الواقع المعيشي.
ومنذ الإعلان عن توصل واشنطن وطهران -الخميس الماضي- إلى اتفاق يقضي بالإفراج عن مليارات الدولارات المجمدة لإيران، مقابل تبادل للسجناء بين البلدين، شهد عدد من الأسواق الإيرانية إرباكًا وتراجعًا على ضوء تحسن العملة الوطنية، ما طرح تساؤلات عن حجم استفادة الاقتصاد الوطني من الاتفاق وتأثيره في الأسواق الداخلية.
وجّهت الجزيرة نت هذه الأسئلة وغيرها إلى خبراء وباحثين إيرانيين، بشأن انعكاسات الاتفاق السياسي على الساحة الاقتصادية، والقطاعات الأكثر استفادة من الأموال الإيرانية المفرج عنها.
ما حجم الأصول الإيرانية المفرج عنها؟
قال محافظ المصرف المركزي الإيراني محمد رضا فرزين، إن 7 مليارات دولار من أموال إيران كانت مجمدة في كوريا الجنوبية تم الإفراج عنها بموجب الاتفاق، ولكنه أشار إلى أن طهران خسرت نحو مليار دولار من قيمة تلك الأصول؛ بسبب انخفاض العملة الكورية الجنوبية أمام الدولار، وستستخدم 6 مليارات دولار متبقية لشراء سلع غير خاضعة للعقوبات.
وتابع فرزين -في تصريح صحفي- أن “طهران ستصل خلال الفترة القادمة إلى جزء آخر من أموالها المجمدة لدى بعض الدول”، دون أن يكشف أسماء تلك الدول.
وبالرغم من أن وكالة الأنباء الإيرانية كانت قد ذكرت -يوم الجمعة الماضي- أن الاتفاق مع واشنطن يشمل الإفراج عن 10 مليارات دولار في كوريا الجنوبية والعراق، وسيتم الإفراج عن أموال إيرانية من بنك التجارة العراقي ضمن الصفقة؛ فإن رئيس الغرفة التجارية الإيرانية العراقية المشتركة يحيى آل إسحاق، نفى ذلك.
وفي تصريح مقتضب للجزيرة نت، أكّد آل إسحاق أنه ليس من المقرر الإفراج عن أصول إيرانية من العراق، وأن نقل الأموال الإيرانية من بنك التجارة العراقي ليس مدرجًا على جدول الأعمال، وقال إن ما أُعلن عنه قبل شهرين بشأن “إفراج الجانب العراقي رسميًا عن 3 مليارات دولار من مستحقات إيران المجمدة لديه”، لا علاقة له بتبادل السجناء.
لعل أول انعكاسات خبر الإفراج عن الأصول الإيرانية المجمدة في كوريا الجنوبية، قد ظهر في سعر صرف الدولار بطهران، حيث تراجعت قيمة العملة الخضراء من 495 ألف ريال إيراني -عصر الخميس الماضي- إلى نحو 480 ألف ريال خلال 24 ساعة، قبل أن تعود إلى 490 ألف ريال -عصر أمس الأحد- في السوق الموازية.
وخلافًا للعملة الإيرانية التي تحسنت عقب الاتفاق، انعكست الصفقة سلبًا على بورصة طهران، التي انهار مؤشرها العام نحو 47 ألف نقطة يوم السبت الماضي، و1700 نقطة أمس الأحد.
وعلى غرار سوق السيارات، شهدت أسعار الذهب تراجعًا ملحوظًا في طهران، حيث بلغ غرام الذهب (عيار 18) ملیونًا و323 ألف ريال، مسجلًا انخفاضًا بمقدار 430 ألف ريال، مقارنة مع الفترة التي سبقت الإعلان عن الاتفاق.
وعن مدى تأثير الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة في أسواقها الداخلية، يعزو كمال سيد علي المساعد السابق للبنك المركزي الإيراني لشؤون العملة الصعبة، سبب انخفاض الأسعار في الأسواق الإيرانية إلى التأثير النفسي لخبر الإفراج عن مليارات الدولارات من الأموال الإيرانية، مؤكّدا أن الوتيرة الراهنة مؤقتة؛ لأن حجم الاقتصاد الإيراني أكبر بكثير من هذه الأرقام.
ما القطاعات الإيرانية الأكثر استفادة؟
اتفقت الروايتان الإيرانية والأميركية على أن الأموال المفرج عنها ستستخدم لشراء سلع غير خاضعة للعقوبات.
وكشف روح الله لطيفي، المتحدث باسم لجنة العلاقات الدولية وتنمية التجارة في “الدار الإيرانية للصناعة والتجارة والمناجم”، والمتحدث السابق باسم الجمارك الإيرانية، أن الجانب الأميركي سبق وسمح لبعض الدول -ومنها العراق- بالإفراج عن مبالغ ضئيلة من الأصول الإيرانية المجمدة لديها، بشرط استخدامها لشراء السلع الأساسية، لا سيما الدواء والغذاء.
وفي حديثه للجزيرة نت، أوضح لطيفي أن الحكومة الإيرانية هي التي ستقرر كيفية إنفاق الأموال المفرج عنها، لكنه توقّع أن تعطي طهران الأولوية لشراء الدواء والأجهزة الطبية وفقًا لمتطلبات القطاع الصحي، وأن استيراد القمح والشعير وحبوب الذرة والزيوت ستكون في الأولويات التالية، وفقًا لتجربة البلاد مع أموالها المفرج عنها في دول أخرى.
ولدى إشارته إلى نقص العديد من أصناف العلاج في الصيدليات الإيرانية، كشف لطيفي عن وفاة الطفلة سلما (3 أعوام) ابنة المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي بهادري جهرمي، جراء عدم توفر العلاج اللازم لها بسبب العقوبات المفروضة على البلاد، مؤكّدا أن شريحة كبيرة من المرضى يعانون من نفاد بعض أصناف العلاج في البلاد.
في السياق، أوضح النائب همايون آبادي، عضو لجنة الصحة البرلمانية للجزيرة نت، أن نواب البرلمان ذكّروا الحكومة بحاجة البلاد إلى الدواء، وأنه يأمل أن تحل المشكلة بعد الإفراج عن جزء من الأموال المجمدة.
كيف تلقت الأوساط الإيرانية نبأ الإفراج عن الأموال المجمدة؟
انقسمت الأوساط الإيرانية بين مرحّب ومنتقد للصفقة التي تضمنت تبادل السجناء والإفراج عن أموال مجمدة، فبينما أشادت شريحة كبيرة من الأحزاب السياسية بتفوق الدبلوماسية على العقوبات الأميركية، سخِرت شخصيات كبيرة من التيار الإصلاحي بما تعدّه “عودة إلى المربع الأول في السياسة الخارجية”.
من جانبه، أكّد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، عزم الحكومة المضي قدمًا “لتحييد العقوبات غير القانونية، وإحقاق حقوق الشعب الإيراني بشكل كامل”، مضيفًا في تغريدة على منصة “إكس” أن طهران تؤكّد انتهاج الدبلوماسية النشطة لضمان المصالح الوطنية، وإلى جانب العمل على تحييد الحظر غير القانوني، فإنها لم تترك المسار الدبلوماسي.
في المقابل سخِر الحاكم الأسبق للمركزي الإيراني عبد الناصر همتي، مما يعدّه الموالون للحكومة إنجازًا تمثّل في الإفراج عن 6 مليارات دولار دون الموافقة على قوانين “فاتف”، المتعلقة بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وتساءل عما إذا كان الاتفاق أبطل مفعول العقوبات؟ وهل يمكن للمرء أن يفرح بسماح واشنطن لإيران أن تستورد الغذاء والدواء بأموالها؟
هل سيمهد اتفاق تبادل السجناء الطريق لتخفيف المزيد من العقوبات؟
تصف الباحثة في الشؤون الدولية برستو بهرامي راد، صفقة تبادل السجناء بين طهران وواشنطن بأنها “خطوة في الاتجاه الصحيح” لاعتماد الطرفين طاولة الحوار لحلحلة القضايا العالقة بينهما، وتوقّعت تقاربًا أكبر في وجهات النظر، في حال حرصا على مواصلة المفاوضات.
وفي حديث للجزيرة نت، أشارت بهرامي راد إلى قرب موعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، والبرلمانية في الجمهورية الإسلامية، وعبّرت عن أملها بأن لا تكون الصفقة مسكّنًا مؤقتًا للعبور من الاستحقاقات الانتخابية.
ولدى إشارتها إلى استمرار المفاوضات غير المباشرة بين طهران وواشنطن بوساطة خليجية، توقّعت الباحثة توصل الجانبين إلى اتفافات مؤقته أخرى، لكنها استبعدت إحياء الاتفاق النووي المبرم في 2015 في المرحلة الراهنة.
المصدر : الجزيرة