كانت إحدى نتائج الاحتلال الامريكي للعراق في التاسع من نيسان 2003 فقدان الإرادة السياسية وسيطرة القوات الأمريكية على مقدرات البلاد وثرواته والتحكم بمستقبل أبنائه وجعل أبواب العراق مفتوحة ومشرعة لجميع الجهات، وهذا ما ساعد النظام الإيراني لانتهاز الفرصة المناسبة والتي سعى إليها عبر سنوات طويلة لتحقيق غايته في تنفيذ مشروعه السياسي والتوسعي بالسيطرة والهيمنة على أرض العراق، وبدأت أدواته ووكلائه بالعمل على توسيع رقعة تواجدها وتغلغله داخل المجتمع العراقي والتأثير على طبيعة التماسك الاجتماعي بزرع الطائفية بين أبنائه ودعم وإسناد الأحزاب السياسية التي ترتبط بعلاقات وطيدة معه فسعى الى تعزيز عمليات الخرق الأمني وفق المنهج الإيراني المرسوم من قبل الأجهزة الأمنية والاستخبارية التابعة لقيادة فيلق القدس والحرس الثوري الايراني والعمل على تحديد الطرق والاتجاهات في رسم خارطة ميدانية للعراق يتم من خلالها تنفيذ التوجهات والأهداف الإيرانية بما يعزز حالة النفوذ التي اتخذت من العراق مجالاً رحباً لبناء قواعد أساسية تكون منطلقاً وطريقاً رئيساً نحو عواصم وأقطار الوطن العربي وتعزيز الأهداف الاستراتيجية للمشروع الإيراني الذي اتسم بالعديد من الاجراءات الميدانية على الأرض بتسخير جهده الاستخباري بدعم وإسناد الأجهزة الأمنية الإيرانية بجميع صنوفها على الاهتمام بالعراق والسعي لإحكام السيطرة عليه والتلاعب بمقدراته والتأثير على قراره السياسي والأمني والعمل باتجاه تكوين مجاميع موالية له تكون الأداة التي يحتكم إليها في جميع مصالحه وأهدافه في العراق ، ومن هنا بدأت الفصائل المسلحة التي شكلها وحرص على دعمها لتكون لها دورا فاعلا وبارزا في العراق.
نجح المشروع الايراني في احتواء العراق والهيمنة عليه وتطويقه في جميع المجالات وخلق هذا الاحتواء العديد من المشاكل والأزمات داخل المجتمع العراقي التي كانت تعمل على ترسيخ مصالح وأهداف المؤسسة الأمنية والسياسية الإيرانية، ويعتمد تنفيذ المشروع على عاملين مهمين هما الدعم والتمويل المالي الذي يقدمه النظام الإيراني للفصائل المسلحة وللعديد من الأدوات والوكلاء المرتبطين به.
من أهداف السياسة الإيرانية في العراق التواجد في إقليم كردستان والدفع باتجاه التمدد الكامل على الأرض العراقية بما يساهم في تعزيز الجانب السياسي والأمني وبسط النفوذ الكامل وتحقيق الغايات الأساسية للبقاء والعمل ضمن إطار المصالح الذاتية للنظام الإيراني، واستخدمت الأجهزة الأمنية والاستخبارية أساليب عديدة لاختراق المجتمع الكردي والتأثير على حياته وقيمه وسلوكه ومحاولة تغيير بعض من معتقداته وثقافته وأسلوبه في الحياة وعملت باتجاه التحرك على الشباب الطموح لإكمال دراستهم في الجامعات الإيرانية وتحديد الفئات الشبابية بعمر (18_25) سنة والتي بموجبها تستطيع الأجهزة وضع المناهج وإعداد الطرق ذات الطبيعة الفكرية والعقائدية التي تخدم سياسة وتوجه الإيرانيين باعتماد أسلوب الملازمة الفردية واختيار عدد منهم واعتبارهم نواة فاعلة للعمل معهم وكسبهم لصالح المشروع الإيراني بعد عودتهم من دراستهم، ويعتبر هذا الأسلوب أحد أهم المنطلقات والركائز التي اعتمدتها الأجهزة الأمنية بغية تدعيم توجهاتهم نحو إقليم كردستان العراق وتنفيذ منهج عقيدة القيادة الدينية الإيرانية وتغيير القناعات الفكرية والمذهبية للشباب الكردي.
سعي العاملون على تمدد المشروع الإيراني بالتحرك على رؤساء وأبناء العشائر الكردية والشخصيات الاجتماعية والدينية المؤثرة في المجتمع بخطوات مدروسة عبر اعتماد الجانب الديني والمذهبي أساسا في إدامة العلاقة مع من يختارونهم من علماء الدين لترسيخ وتثبيت مفاهيم ومبادئ التشيع ومن الذين يتعاطفون معهم والقريبين من توجهاتهم في الفكر والتطبيق، ولهذا سعت الجهات الرسمية الإيرانية إلى محاولة بناء حسينيات في بعض مدن وأقضية إقليم كردستان ولكنها جوبهت بالرفض التام من قبل المسؤولين في أربيل.
حاولت القيادات السياسية الإيرانية العمل باتجاه إقامة علاقات وطيدة مع الاحزاب والشخصيات الكردية في الإقليم ولكنها لم تحقق غايتها مع جميع القيادات ولهذا بدأت مرحلة من الخلاف السياسي واختلاق المشاكل والأزمات داخل الإقليم عبر الاتهامات الموجهة لقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل بإحتواء ودعم فصائل المعارضة الكردية الإيرانية وعبر عنه ما جاء في تهديد الجنرال اسماعيل قاآني قائد فيلق القدس بشن عملية عسكرية برية غير مسبوقة ضد أراضي الإقليم إذا لم تنزع الحكومة العراقية سلاح جماعات المعارضة الكردية في الأراضي العراقية، وهذه كانت أولى بوادر الخلاف الذي اشتد أكثر مع انطلاقة الاحتجاجات الشعبية الإيرانية منتصف شهر أيلول 2022 بعد مقتل الشابة الكردية مهسا اميني وتعاظم دور المعارضة الكردية في دعم انتفاضة الشعوب الإيرانية التي اجتاجت العديد من المدن والمحافظات وتصاعد الاتهامات الموجهة لإقليم كردستان بتقديم الدعم والمساندة والمشاركة في هذه التظاهرات واستخدام اراضي الإقليم للقيام بعمليات عسكرية وإرسال الأسلحة والأموال لمقاتلي المعارضة الكردية ومؤيدي الانتفاضة الشعبية داخل إيران.
بدأت الضغوط السياسية على قيادة الإقليم لنزع سلاح الاحزاب الكردية الإيرانية ودعوة الحكومة العراقية لتفعيل الاتفاق الأمني بين بغداد وطهران بمنع استخدام الأراضي العراقية لتهديد الأمن القومي الإيراني.
تصاعدت حدة الخطابات السياسية الإيرانية ضد إقليم كردستان الأمر الذي أدى إلى قيام القوات الإيرانية بهجومها العسكري صباح يوم 28 أيلول 2022 مستهدفة ما أدعته مواقع وأماكن الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وحزب أزادي وكادحي كردستان ب (73) صاروخا بالستيا وعشرات الطائرات المسيرة مما أدى إلى استشهاد (13) مواطن كردي وجرح (58) منهم أطفال ونساء وتسجيل أضرار في أحياء سكنية مدارس وأراضي زراعية، وعززت فعالياتها العسكرية بقيام عناصر من الحرس الثوري الإيراني بنقل أسلحة متطورة مختلفة إلى محافظات (كرمنشاه وكردستان أذربيجان الغربية) ذات الأغلبية الكردية غرب إيران والمتمركزة في المناطق الجبلية المتاخمة لحدود كردستان العراق.
ان سياسة النظام الإيراني في العراق قائمة على قرار اعتباره ساحة معركة استراتيجية وأحد مظاهر قوتها ونفوذها في المنطقة، ولهذا فهي تعمل جاهدة على توسيع مساحة نفوذها وهيمنتها ومحاولة التقرب من المناطق المحاذية لكردستان العراق وتهديد الوحدة الوطنية للإقليم عبر سيطرة فصائلها المسلحة على بعض الأقضية والنواحي القريبة من الإقليم.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية