انفردت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية باقتراح حصّة الطرافة ضمن غابة الأخبار المتشابكة المتلاطمة القاتمة بصدد الحرب الروسية- الأوكرانية، فنشرت تقريراً نُسب إلى «مصادر مطلعة» مفاده أنّ الولايات المتحدة تضغط على إيران كي تتوقف الأخيرة عن بيع طائرات مسيّرة إلى روسيا؛ وأنّ الطلب جاء خلال مباحثات «تفاهم غير مكتوب» أوسع نطاقاً بين البلدين، يستهدف «خفض التوتر».
والمرء لا يُكثر من استخدام أهلّة الاقتباس في الفقرة السابقة إلا لأنّ خلائط العجب والارتياب تطفو على سطوح المعاني والمفردات، من زاوية أولى بسيطة يمكن أن يصنعها تساؤل لا يقلّ بساطة: اشمعنى، كما قد يقول أشقاؤنا في مصر، وأيّ علاقات طيبة كريمة سمحة تجمع بين واشنطن وطهران حتى «تمون» الأولى على الثانية في وقف عقود السلاح، ومع مَنْ: قوّة عظمى نووية مثل روسيا؟ الزاوية الثانية قد لا تتوسل البساطة خلف سؤال آخر: لماذا تتوقف إيران، ومقابل ماذا من جانب واشنطن؟
صحيح، بالطبع، أنّ الأجواء الراهنة بين الولايات المتحدة وإيران تتنقل من خطوة إيجابية في تبادل السجناء، ثمنها رفع التجميد عن 6 مليارات من الأموال الإيرانية في كوريا الجنوبية، وصولاً إلى «أخذ علم» أمريكي بأنّ طهران بصدد تخفيض جداول العمل في برنامجها النووي. ولكن الصحيح الموازي، ولعله الأصحّ هنا تحديداً، أنّ إيران ليست أقلّ من تركيا أو السعودية في مساعي «التنغيص» على واشنطن و/ أو التناغم مع الكرملين في تشكيل استقطابات موازية أو رديفة أو حتى منافسة.
وحين تطلب واشنطن امتناع طهران عن تزويد موسكو بالمسيّرات، التي استُخدمت وسوف تُستخدم في العمليات العسكرية الروسية داخل أوكرانيا؛ فإنّ المُطالِب الأمريكي يتناسى أنه، ذات يوم غير بعيد تماماً، تغافل عن تعاون عسكري روسي – إيراني وثيق في سوريا، بل وتواطأ على تحسين شروطه وقطف ثماره. الزمن كان صيف 2016، بعد أقلّ من سنة على التدخل العسكري الروسي المباشر لصالح نظام بشار الأسد، حين بدأ الطيران الحربي الروسي ينطلق من قاعدة همذان العسكرية الإيرانية، لقصف أهداف في سوريا؛ وأُتيح لقاذفة الـ Tu-22M الروسية الستراتيجية أن تلقي 20 طناً مترياً من القنابل أو الصواريخ، ولا بأس أن تحمل أيضاً رسائل سياسية متعددة العناوين: إلى واشنطن، والحلف الأطلسي، وأوكرانيا، والاتحاد الأوروبي، وسوق النفط، وسوق السلاح…
وأمّا بمعزل عن هذا الاعتبار، وفي أسواق الرمزيات السياسية التي تُباع بسهولة لجمهور «الممانعة» في الشرق الأوسط وجمهور إحياء الإمبراطورية القيصرية في روسيا؛ فإنّ التعاون العسكري بين موسكو وطهران يروّج، عند العاصمة الأولى، لأطروحة القوّة الكونية الجديرة بمجابهة أمريكا والأطلسي خارج حدود جورجيا وأوكرانيا، ثمّ استطراداً خارج حروب أسعار النفط والعقوبات الاقتصادية. في الترويج للأطروحة ذاتها، تذكّر العاصمة الثانية بأنها قوّة إقليمية عظمى، مستعدة للاتجار بالمصالح الكونية الجيو- سياسية مع قوى كونية أخرى غير أمريكا، وأنّ الاتفاق النووي الذي وقعته مع «المجتمع الدولي» ليس منتهى تلك التجارة، أو ليس ذروتها القصوى.
وهكذا، بين استمرار توكيل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بملفات تزويد سلال العالم الغذائية بالحبوب الأوكرانية، وبين مطالبة إيران بالتوقف عن تغذية الجيش الروسي على جبهات أوكرانيا بمسيّرات «شاهد» المتقدمة تكنولوجياً، وبين شحن القنابل العنقودية الأمريكية عالية الفتك والتدمير إلى الجيش الأوكراني؛ ثمة في الولايات المتحدة، ثمّ الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، تلك القواسم المشتركة العظمى لمبدأ «السياسة الواقعية»، الذي استسهل قاموس العلوم السياسية تنزيهه عن انتهاك القوانين ارتكاب الجرائم مقابل وظائفه الجليلة في خدمة المصالح.
والأرجح أنّ «فايننشال تايمز» فضّلت الإمعان في الطرافة وعدم إفسادها عن طريق تذكير القرّاء بأنّ بوتين كان ذات مرّة ضيف قمّة الأطلسي المدلل، وأن صفقة إيران – كونترا انطوت على شحنات أسلحة أمريكية إلى… طهران!
القدس العربي