منذ توليه رئاسة روسيا، أعاد فلاديمير بوتين النظر بإرث جوزيف ستالين. وكانت أهم إنجازاته تغيير مضامين المناهج المدرسية، بحيث تبدو كل جرائم ستالين مبرّرة بوجود “أعداء الداخل”؛ وذلك بعدما وصف انهيار نظام ستالين السوفييتي بـ”أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”. وبدا بعد ذلك مرتبكاً. يتفاخر بالإرث الستاليني، يكمِّم الأفواه، يعتقل، يسجن، يغتال، بالتسميم غالباً… لكنّه ليس شيوعياً محصّناً، كما كان سلفه، وهو مضطرٌّ، بالتالي، لفتح بعض قنوات التهوية بأكسجين القليل من الحرية لنخبته.لكن واقعة مقتل صنيع بوتين يفغيني بريغوجين ألقت ضوءاً باهتاً على تشبّه بوتين بستالين. .. وللتذكير السريع: بريغوجين هو رئيس “فاغنر”، المليشيا “الخاصة” التي أنشأها بوتين منذ بدايات توسّعه في سورية وأفريقيا، وبعد ذلك في أوكرانيا. وأفراد هذه المليشيا سجناء جنائيون، جنّدهم بريغوجين شخصياً. ولتأكيد إجراميتها، اختارت “فاغنر” مطرقة الحديد شعاراً لها. تخبط بها رؤوس سجنائها حتى الموت.
لكن أيضاً، تحقِّق هذه المليشيات “إنجازات استراتيجية” في أوكرانيا، أهمها احتلالها بلدة باخموت. والمشكلة الأخيرة لبريغوجين أنه صار، بفضل هذه “الإنجازات”، يسمح لنفسه بنقد وشتم الجيش النظامي الروسي “المتقاعس الفاشل” بنظره. كبُرت صورتُه عن نفسه، فقاد تمرّداً مسلحاً، مع أربعة آلاف رجل، بأنواع السلاح والمدرّعات. عبرَ المدن الروسية، وقتلَ جنوداً وضباطاً، وأسقط مروحيات. وكادَ يصل إلى موسكو، لولا تدخّل الجيش. فكانت كلمة بوتين الشهيرة عن الواقعة إن الذي قام بها “خائن”، وإنه “طعَنه بخنجر في الظهر”. وكان “ترتيب” بين بوتين وحليفه الموثوق رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشنكو بأن يوقف بريغوجين تمرّده، ويستقر عناصر “فاغنر” على أرضه، وأشياء أخرى لا نعرفها. فشكره بوتين على المساعدة. وبعد شهرين، كانت نهاية بريغوجين المدوية: سقوط طائرته الخاصة، بين موسكو وسانت بطرسبرغ. ولا مقدّمات، ولا دوافع، ولا سوابق، ولا أصابع إلا تلك المنسوبة إلى بوتين. وهذا الأخير لم يستنكر. اكتفى بالتعزية، وبتوجيه تعليماتٍ إعلامية بتقزيم الخبر والتعامل معه بما يشبه اللامبالاة. لكن المؤكّد أن بوتين ضالع بالجريمة، وبأيد وسخة مطيعة، يجد الكثير منها بالقرب منه.
كما كان يفعل ستالين، “ينظّف” بوتين من حوله، الضبّاط الكبار الذين تجرّأوا على التعاطف مع بريغوجين في “نقد” أدائه في أوكرانيا، فيموتون من مرضٍ مفاجئ، أو “يُنتحَرون”، أو يوضعون في الإقامة الجبرية
هل فعلاً بوتين يشبه ستالين؟ نعم فيه شيء منه: كان ستالين يقتل رفاقه وغير رفاقه. في أشهر محاكماته، “محاكمات موسكو” الثلاث، التي صفّى فيها رفاقه، القادة البلاشفة البارزين. كما في أشهر حملاته على الشرائح الدنيا من المواطنين البسطاء، المعروفة بـ”التطهير الأكبر”: كل مواطن تطلع منه غمْزة ضد عهده، فوراً إلى سيبيريا، حيث المنفى والموت البطيء وأصناف من الروايات، تتجاوز الخيال. مثله بوتين الآن، “ينظّف” من حوله، الضبّاط الكبار الذين تجرّأوا على التعاطف مع بريغوجين في “نقد” أدائه في أوكرانيا، فيموتون من مرضٍ مفاجئ، أو “يُنتحَرون”، أو يوضعون في الإقامة الجبرية. كما “ينظف” مخلوقاته ومعارضيه، وكل من يتجرّأ على وصف حربه على أوكرانيا بغير “العملية العسكرية المحدودة”.
وستالين، عندما كان يخطّط لقتل هذا وتعذيب ذاك، كانت تعابير وجهه لا تتغيّر. أو هكذا يصفه الأقرب إليه. يداوم على روتينه اليومي، يستقبل هذا وذاك من القيادات العالمية الشيوعية وغير الشيوعية وهو محتفظٌ بنوع من البرودة التي لا يعرفها سوى المتآلفين مع طُرُقه. وبوتين لا يختلف: يلقي خطاباً عبر الفيديو كونْفرنس في مؤتمر “بريكس”. يحثّ المستمعين إليه على التعاطف معه بـ”حقوقه” في أوكرانيا… وفي اليوم التالي، تنفجر الطائرة ببريغوجين، بينما هو يتنزّه وسط الناس، مبتسماً مغموراً بالفرح من شدّة حماسة “الأهالي” لاستقباله في بلدتهم.
كان ستالين يستعين بأذرعه من أحزاب شيوعية، لتنفيذ مآربه: مثل اغتيال خصمه اللدود ليون تروتسكي في المكسيك، على يد الشيوعي الإسباني رامون مركادير
ومثل ستالين، لا يهتم بوتين بما يُقال عنه. مثلُه واثقٌ بأن الأمور ممسوكةٌ من جانبه. وبأنه، بقتل بريغوجين، أثبت للعالم كله أنه هو صاحب القرار بالموت والحياة في روسيا. أي صاحب القرار السياسي الوحيد فيها. وهنا يتوقف الشبه: فالحرب التي خاضها ستالين ضد ألمانيا النازية المعتدية على غربه كانت انتصاراً تاماً، بالرغم من التصفيات التي قادها ضد كبار ضبّاطه واستراتيجيّيه. أما الحرب التي يقودها بوتين في أوكرانيا، فهي حتى اللحظة خاسرة. ومقتل بريغوجين سوف يرفع من نسبة الخسارة، بصرف النظر عن مآل آلاف رجال “فاغنر” الذين خُيروا بين الولاء التام للجيش الروسي أو التسريح.
وستالين كان قيصراً بحق. محمياً خلف أسوار الحقّ والقوة، وتوازنات الرعب بينه وبين أميركا. أما بوتين، فلا يستطيع الخروج من بلاده إلا إلى البلاد التي لا تعترف بمحكمة العدل الدولية، التي أصدرت مذكّرة توقيف بحقه بتهم جرائم حرب. أما التي تعترف، مثل جنوب أفريقيا التي عُقِد فيها مؤتمر “بريكس” المذكور أعلاه، فلا يمكن لبوتين أن يحضُر “جسدياً”. عليه الاكتفاء بالفيديو كونْفرنس. ما أعفاه من سماع المتظاهرين الجنوب أفريقيين على مدخل مؤتمر “بريكس” يصرخون: “فلتسقط الإمبريالية الروسية!”.
قيصراً كان ستالين، وصاحب فكرة، جنّدت ملايين من البشر حولها خارج الاتحاد السوفييتي: فكرة استقلال الشعوب من الاستعمار، وحقوق العمّال والفلاحين ونموذج “الإشتراكية الواقعية”، والأحزاب الشيوعية في كل العالم، ذات الشعبية والوصْمة النظيفة… أما بوتين، فما هي “فكرته؟” غير “الدفاع عن روسيا بوجه اعتداءات الناتو”؟ وهذه الأخيرة، قضى عليها من الصميم في غزوه أوكرانيا. وقبلها الشيشان وسورية وجورجيا بحجة الكليشيه المشترك بينه وبين منافسيه: “محاربة الإرهاب”. لم يقدّم بوتين فكرة واحدة على الخرابات التي خلفتها أسلحته، إلا فكرة التفاخر بنجاح تجربتها على الأرض، أي فكرة الموت والدمار الصافييَن.
مثل ستالين، لا يهتم بوتين بما يُقال عنه. مثله واثق بأن الأمور ممسوكة منه. وبأنه، بقتل بريغوجين، أثبت للعالم أنه صاحب القرار بالموت والحياة في روسيا
كان ستالين يستعين بأذرعه من أحزاب شيوعية، لتنفيذ مآربه: مثل اغتيال خصمه اللدود ليون تروتسكي في المكسيك، على يد الشيوعي الإسباني رامون مركادير. وبعد 20 سنة للقاتل في السجون المكسيكية، يخرُج منها إلى موسكو، حيث يعيش برفاهية، وينال الأوسمة على “بطولته”. أما أذرع بوتين فمبتورة… لا يستطيع أن يقتل إلّا ضمن دائرته القريبة، ضمن روسيا. لا أحزاب شعبية تؤيده، وتبذل الغالي من أجله، ولا دول صار له بعض النفوذ فيها يمكن أن تؤدّي مخابراتها الجريمة بسهولة، خصوصاً سورية ومالي والسودان، حيث لـ”فاغنر” جيوب مسلحة موالية لقائدها الأول، تقتُل وتنهب … وتراقب. ولا يستطيع أن يثق إلا بصنيعته الآخر، المتواضع، القريب منه، رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشنكو، الذي “أوقف” زحف بريغوجين على موسكو، وأعطاه الأمان، واستقبل عناصره ونصبَ لهم الخيم على مقربةٍ من عاصمته. ولا همّ إن كان لوكاشنكو قد “أُهين” بالإخلال في الضمانات، وقتِل بريغوجين، فابتلاع الإهانة هي من أثمان بقائه رئيساً على بلاده.
لكن الجانب الأخطر على روسيا، والذي لم يكن موجوداً أيام ستالين، فهو رؤية الاثنين المختلفة إلى مسألة الدولة: أقام ستالين المؤسّسات الثابتة، ذات الهيكلية والقوانين والأقنية الموثوقة، حزب واحد هو في أعلاه، يحكُم كياناً واحداً، ومن هذه المؤسّسات، المخابرات والجيش. أما بوتين، فلم يكن يثق بهذه الدولة. منذ توليه السلطة، انتابته وسْوسة ضعفها. ولا كان يثق بالقطاع الخاص، الذي لم ينجح بالسيطرة عليه إلا عبر “صداقته” مع كبار الأوليغارشيين، أصحاب المليارات، الذين اشتروا موارد الدولة ومنشآتها بأبخس الأثمان. لا القطاع العام ولا القطاع الخاص إذن. فكانت تلك المنطقة الرمادية التي تدور حولهما، تحت إشرافه، والأرجح بمبادرةٍ منه. هكذا ولدت في روسيا كياناتٌ موازيةٌ للدولة، مدعومة ومسموحة. لكنها غير شرعية، غير قانونية. وكانت “فاغنر” واحدةً منها. منطقة رمادية على تناقضٍ مع منطق الدولة، وإن كانت تحت جناح رئيس هذه الدولة.
قد تدوم حالة بوتين هذه، فالنهايات ليست كلها سريعة. ولكن، في هذه الأثناء، يطرح علينا مقتل بريغوجين تساؤلاتٍ بشأن مصير الكيانات الموازية للدولة الروسية: هل يمكن للإجراءات التي اتخذت بحق رجالات “فاغنر” أن تمتد إلى بقية الكيانات الموازية؟ هل يكون الدرس الذي تلقاه بوتين على يد “فاغنر” مفيداً في تعاطيه معها؟ يلملم بها خطيئة قلّة ثقته بمؤسّسات الدولة، أم أن السوسة ستنخر ما تبقى من الاثنين، الدولة والكيانات الموازية لها؟